الناتو في الشمال السوري

2022.07.07 | 07:02 دمشق

الناتو في الشمال السوري
+A
حجم الخط
-A

معطيات مهمة أفرزتها قمة الناتو الأخيرة في مدريد، من أهم ملامحها، مسألتان أساسيتان، هما تغيير استراتيجة الحلف المترهّل، نحو استعادة عافيته، أو جزء منها، في الحدّ الأدنى، باعتبار روسيا، العدوّ الرئيس الذي تتوجه إليه سياسات الحلف وأنشطته، نتيجة غزوها لأوكرنيا في فبراير الماضي. لتصبح قضية الإرهاب الدولي، ضمن الأولويات التالية لحلف الأطلسي.

أما العامل الآخر، فهو يتصل بتعزيز مكانة تركيا في الحلف، والذي يأتي استجابة لمطلب تمتين وحدة الأطلسي الداخلية، في مواجهة التحديات الخارجية. وهذا - في الواقع – ما نجم عن حاجة مشتركة لتركيا، والأطلسي، تمت خلالها المقايضة بين المكاسب التركية، وحاجة الحلف للتوسع.

في مقدمة المكاسب التركية، هو إعادة الاعتبار لموقعها ودورها في الناتو، بعد أن شهد تراجعاً كبيراً خلال السنوات الأخيرة، بسبب دورها وتدخلاتها العسكرية في الشمال السوري، من جهة، وبسبب عدم حصول أنقرة على دعم في مواجهتها لتنظيم حزب العمال الكردستاني الإرهابي، ومشتقاته. وكذلك، ترك الحلف تركيا، وحيدة أمام مشكلة إسقاط الطائرة العسكرية الروسية في صيف 2015، دون أي دعم من الناتو، ما اضطر أنقرة إلى إنجاز تسوية عبر الاعتذار إلى موسكو.

الفرصة الكبيرة التي اقتنصتها تركيا، جاءت عبر الغزو الروسي، ورفضها انضمام السويد وفنلندا، بغية تغليب مصالح الأمن القومي التركي، على المصالح الأطلسية

المكسب الآخر، هو في تقييد دور ومكانة وأنشطة حزب العمال الكردستاني، في فنلندا والسويد، وتدريجياً سوف يتأثر، أو يتراجع نشاط "الكردستاني"، في أوروبا الأطلسية.

الفرصة الكبيرة التي اقتنصتها تركيا، جاءت عبر الغزو الروسي، ورفضها انضمام السويد وفنلندا، بغية تغليب مصالح الأمن القومي التركي، على المصالح الأطلسية. وهذا مؤشر مهم، يتصل بصورة وثيقة بالأوضاع الأمنية والسياسية، في الشمال السوري. وهو ما قد تحمله الفترة المقبلة، من تطورات، نعتقد بأنها لن تأتي قبل القمة الخليجية – الأميركية منتصف تموز / يوليو الجاري، ونعني بذلك العملية العسكرية التي تلوّح أنقرة بتنفيذها في الشمال السوري.

ففي خضم انشغال الأطلسي، وفي سياقه كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، بالحرب والتهديد الروسي، فإن أنقرة تجد الفرصة سانحة اليوم، لاستكمال عمليتها العسكرية "نبع السلام" التي توقفت بناء على تعهدات أميركية – روسية، بأن يتم إبعاد مسلحي وحدات حماية الشعب، لعمق 30 كم جنوب الحدود التركية، عبر الوسائل السلمية. لكن ذلك لم يتحقق، أي أن الضامنين لم يفيا بالتزاماتهما. لكن الأحداث الدولية، أتاحت لأنقرة التحرك مجددا، لتحقيق هدفها كاملا. وأصبح الأمر أكثر قابلية للتحقق بعد قمة الناتو، والاتفاقات التي عقدتها تركيا، مع فنلندا والسويد، بمباركة جميع قادة الحلف.

الواقع، أن الدوافع التركية، هي معروفة، وكذلك أهدافها. والاختلاف في شأنها، مسألة تأتي تالياً في ضوء الاختلاف الكبير في المواقف، وفي وجهات النظر السورية، حيال الدور التركي برمّته، وإزاء العمليات العسكرية المتدرجة، لمنع قيام كيان كردي، أو سلطة أمر واقع كردية، تحكم المناطق الشمالية السورية.

كانت أنقرة، قد طالبت منذ العام 2013 بإنشاء منطقة آمنة، على طول الحدود التركية السورية. لكن إدارة أوباما – آنذاك – رفضت تلك الفكرة ومنعت تركيا القيام بذلك. لكن أنقرة بدأت عملياتها لتحقيق تلك الخطة، انطلاقاً من محاربة داعش، لتتطور لاحقاً نحو استهداف الوجود الإرهابي لميليشيات قنديل في سوريا.

لكن، دون أدنى شك، إن وجود حزب العمال الكردستاني، هو احتلال كامل للمناطق التي يسيطر عليها، ويديرها بقوة السلاح، وعبر أساليب وممارسات إرهابية، وقمعية، تعدّ انتهاكاً واضحاً لحقوق الجماعات والأفراد، خاصة أهالي وسكان المنطقة الأصليين. والذين يتعرضون بشكل منظم إلى حرمانهم من حقوقهم، وكذلك التهديدات الأمنية المتواصلة التي تستهدف الناشطين، ومصادرة الأملاك، ومنع عودة آلاف المهجرين إلى ديارهم، وفرض إجراءات "كفالة" لمن يرغب في زيارة أسرته، وهو من أبناء المنطقة. يضاف إلى ذلك سياسات التمييز العنصري، في جميع الإجراءات، والمرافق العامة. وتأخذ تلك الممارسات صبغة التغيير الديمغرافي الممنهج الذي تقوم به كلٌّ من ميليشيا "ب ي د" و"قسد"، في جميع المناطق التي تسيطر عليها. مع الإشارة إلى أن تلك الانتهاكات تطول العرب والأكراد من مناهضي تنظيم العمال الكردستاني، على حدّ سواء.

كأيّ حدث يتصل بسوريا، ثمة انقسام في المواقف والآراء حياله. ومن الطبيعي أن يجري ذلك إزاء جميع التدخلات، وكذلك السياسات التي تتصل بالمناطق الخارجة عن سيطرة النظام. هناك دعوة إلى أولوية العمل بالوسائل السلمية، وإلى إيلاء تفعيل الاتفاق الدولي بشأن منطقة خفض التصعيد الرابعة التي انتهكها النظام الأسدي، وإعادة أهلها النازحين إلى أماكن سكناهم. كما أن هناك أصواتاً تدين العمليات العسكرية التركية، في الشمال السوري، من حيث المبدأ، أو دعماً للمواقف الكردية.

على أية حال فإن أي عمليات عسكرية، تثير جملة من المخاوف، أهمها استهداف المدنيين، واستحالة حمايتهم، بصورة أساسية. يضاف إلى ذلك خطة إعادة مليون لاجئ إلى مناطق العمليات الجديدة، وما قد تقود إليه من قلق واضطراب آمني واجتماعي وتغيير ديمغرافي، يجب الحيلولة دون حدوثه، عبر برنامج طوعي لعودة أصحاب منطقة العمليات إلى بيوتهم، حصراً دون غيرهم. كما تثير مخاوف جادة، حيال الثقة بسياسات فصائل الجيش الوطني التي سوف تدير المنطقة.

بالنسبة لي كمواطن سوري، لا أدعم أي عمل عسكري، يُعرّض حياة المدنيين إلى الخطر. وإذا كنت لا أوافق – انطلاقاً من هذا المبدأ - على أي تدخل عسكري في سوريا، فإنني أيضاً لا أقبل بوجود أي احتلال أجنبي في المنطقة. قوات حزب العمال الكردستاني في سوريا، هي قوات احتلال ويجب أن يتم طردها بالوسائل الممكنة. واليوم، نحن السوريين، نفتقد أية وسائل لتحقيق ذلك. من هنا، فإن العمليات العسكرية التركية، التي تهدف لتحقيق مصالح تركية أمنية تحقق – في الوقت نفسه - جزئياً مصالح السوريين في الشمال السوري، وهم المتضررون من استمرار تسلط ميليشيا قنديل.

ثمة معطيات مهمة، تجب الإشارة إليها، وهي علاقة هذا التنظيم بالنظام الأسدي، عبر ما يقارب أربعين عاماً، وهو الذي أُسِّسَ في كنف المخابرات السورية عام 1984، ليتحولَ إلى أداة إجرامية بحق السوريين، مع انطلاق الثورة السورية. كما أن وجوده في الأراضي السورية، يشكل خطراً على مواطنينا، لكونه يخوض صراعاً مع تركيا، ليس السوريون طرفاً فيه.

ربما كانت مسيرة "الحذاء" التي نظمها حزب العمال الكردستاني، هي واحدة من أقسى الردود التي تواجه بها الدعوات إلى الحوار البنّاء، وإلى التسويات

إن دعمنا الكامل، وغير المنقوص، لحقوق الشعب الكردي، بما فيه حق تقرير المصير، يجب ألا يُفهم أنه تنازل عن حقوقنا، أو أنه تغاضٍ عن الممارسات والانتهاكات الإجرامية التي ترتكبها عصابات الكردستاني في سوريا. ومن هنا، فإنني أختلف مع البيان الذي أصدرته "قوى وطنية وشخصيات سورية عامّة، من أجل وقف تهديدات الحرب والعنف في الشمال السوري". من حيث إنه أغفل إدانة احتلال الكردستاني، ولم يُشر إلى انتهاكاته وممارساته الإجرامية والعنصرية حيال السوريين. كما أنه لا يأخذ في الاعتبار موقف ورأي أبناء المناطق المحتلة من قبل "الكردستاني وقسد"، وبخاصة تلك التي تستهدفها العملية التركية المرتقبة.

ربما كانت مسيرة "الحذاء" التي نظمها حزب العمال الكردستاني، هي واحدة من أقسى الردود التي تواجه بها الدعوات إلى الحوار البنّاء، وإلى التسويات والمعالجات بالوسائل السلمية، بما فيها بيان بعض "القوى الوطنية والشخصيات السورية العامة" التي نعتقد أنها لا تعرف حقيقة الأوضاع – عن كثب – في الشمال السوري.

إذا تمكنت تركيا، من استغلال الظروف الدولية الراهنة، واستئناف عملياتها العسكرية، إثر تعزيز دورها في الناتو، قبل أن يجفّ حبر الاتفاقات، فإن الناتو سوف يغضّ الطرف عن ذلك، ويصبح له موقع قدم جديد، في الشمال السوري، وسوف تفرض وحدة التوجه الأطلسي نحو مواجهة التهديد الروسي اعتبارات وتغيرات، وسياسات جديدة، بما فيها سوريا وشمالها الذي تعزز فيه موسكو وجودها العسكري، اليوم!