الاستشراق العربي الجديد – مثقفو السلطة "العالمية"

2022.11.16 | 06:14 دمشق

تلفزيون سوريا
+A
حجم الخط
-A

إن موقف المثقف أو "تمثيل المثقف" كما طرحه إدوارد سعيد، أو علي حرب في الوسط العربي إضافة إلى طرح غرامشي عن المثقف العضوي والتزامه بقضايا المجتمع وفئاته، يستدعي استحضارا وقراءة لدور مثقفنا العربي عموما والسوري وموقفه من ديكتاتورية نظام العسكر وعصابته  قبل اندلاع الثورة وحينها، ليظهر جليا موقف مثقف السلطة، ويكشف مصلحة نفر ممن وجدوا حلمهم في أن يكونوا أبواقا لسلطة العسف والقهر التي جثمت على صدر السوريين، تلك التي اتخذت أشكالا متعددة وبشتى المجالات الثقافية والسياسية وحتى الدينية من قبل مشايخ النظام من فقهاء السلطان لتكتمل ثالثة الأثافي في نظام حكم الفرعون: حرسه، أبواقه، وكهنته، والتي شكلت سلطة الفرض القسري لشهوة التسلط وتكفلت بالتبرير والتقنين والشرعنة واختزال الوطن بها عبر مقولة " نحن الدولة ولاك".

تُظهِر هذه المقولة أن الدولة هي السلطة فقط وكل ما يحيط رتوش ليس إلا؛ لنشر الثقافة الهزيلة في التزوير وتعويم ساحة التبرير والتصفيق، وتغييب أي متن ثقافي حقيقي يطرح مفهوما علميا أو منهجا أو تعليما إمعانا في انتهاك المجتمع وماتبقى من الدولة.

ثم تعددت ولاءات هذه "النخب" حسب السلطة وتحولاتها إبان انحسارها عن رقعة كبيرة من الأرض السورية وظهور فصائل ذات قوة وسطوة، وصولا إلى شتى أشكال العمل السياسي في الهيئات التي مثلت الثورة السورية وتنويعاتها وتشظيات أحزابها وكتلها.

ما زالت مقولة مالكوم إكس في ثورة الزنوج تحضر التي طرح فيها ما يشبه النظرية لتفسير الفعالية الاجتماعية وافتراقاتها عند وجود هامش كبير من فرق الاستغلال والتحكم بين جماعة متحكمة وأخرى مقهورة، وعند التمرد الجماعي ضدها، والتي فصَّل فيها الفرق بين زنجي الحقل وزنجي المنزل حيث ثار زنوج الحقول ضد جلاديهم بينما انحصرت فاعلية زنوج المنازل الفارهة التي يخدمون بها بالتماهي مع أسيادهم، والدفاع عنهم بل قد يمرضون إذا مرض أسيادهم، ولأنا نود حصر تلك الفعاليات في شكلها الثقافي نتناول بعض أشكال العمل الثقافي بعد ثورات الربيع العربي وموجة الهجرة والفوز بالوصول لأوروبا ممن شارك في الثورة أو جموع المحايدين والرماديين الذين قفزوا بحجة البطش من أي جهة في الجحيم السوري.

قبالة  مقولة "نحن الدولة ولاك" في الواقع السوري؛ التي اختزلت الدولة كآخر ما توصلت إليه موازين القوة بتركزها بيد ثلة من المجرمين استباحوا البلاد والعباد، تظهر مقولة مشابهة باختلاف في بعض مبادئها أو معطياتها، تبعا لتَحَضُّرِ الوسط الذي تعايشه وهو أوروبا بلاد الحريات والديمقراطيات، لتظهر هنا مقولة مثقفنا الواصل لأوروبا والمكتشف للوجه الآخر من الحياة والعالم، والمندمج بثقافة هذي البلاد، والحداثي الذي درس كل كتب الحداثة وتحولاتها، ومابعد الحداثة، ومابعد الكولونيالية، التي ما زالت جاثمة على صدرونا حتى أوصلت نصف شعوبنا للموت أو الهرب الجماعي لتلك البلاد لتحضر المقولة نفسها بطريقة مغايرة وإن بطريقة مضمرة، كأنه يقول هنا الحياة الحقيقية والعلم والحضارة والثقافة والإنسانية حتى لا يشعر من يسمعها أنها جملة ينقصها " ولاك" لتكتمل كما لفظها أزلام الأسد، ويظهر المثقف كبوق لهذا العالم المتحضر قبالة شرق متخلف متدين متناسيا أن أبناء هذا الغرب نفسه من جيران وأصدقاء وزملاء عمل ينظرون له كابن ثقافة مختلفة في ساحة عالم متعدد الثقافات والأعراف والعادات، لكنه يصر على جلد ذاك العالم وإعلان التبرؤ منه وازدرائه في كل حين.

وبعيدا عن الهوية وتعريفاتها وتحولاتها والثقافة والتلاقح الحضاري بين الأمم، تحضر مقولة المثقفين كحصن أخير للهوية يبدو جليا أن أول طعن يواجه الهوية هو من مثقفين.  

يبدو الحديث مكرورا عن مركزية غربية وعن تبعية شرقية ويبدو أنها قد أُقِرَّت وأصبحت من مسلمات الكثير انطلاقا من ثقافوية ممرضة ليتم  تنميط هذا الشرق وفق التصور الغربي القديم الحاضر والنظر له وفقا لتصورات يبدو الفرد الغربي قد تجاوزها -رغم بقائها في إعلام الغرب ودراساته-، وعلى الرغم من إمكانية التمييز الواسعة بين فرد غربي، وبين رؤية رسمية للأنظمة الغربية والأنساق التي تحكمها وتلتزم بها إذ نجد خارج أطر اليمين الأوروبي تصورات تدلل على تعدد ثقافي وأنماط حياة وتفكير وحياة متنوعة يصر مثقفونا على وجود منبع واحد أو شكل واحد للثقافة والفكر والإنتاج المعرفي وتمييز جوهراني بين شرق وغرب وتنميط منفصل عن التاريخ والعلمية والحقيقة في وقت يدعون فيه حداثة وتطورت وحضارة لم يصلها غيرهم من العرب عبر إطلاق تقييمات تعتمد قراءات جوهرانية واضحة، ويصر هؤلاء على التذمر من هذا الشرق وإلصاق كل السوء به والتبرؤ منه دون حاجة ودون أي  مصلحة إلا ما ندر وكأننا أمام مثقف سلطة في أوطاننا مع فارق بسيط أن مثقف السلطة في بلداننا يناله نصيب من الاستفادة والوظائف وربما التعويم والشهرة بينما أروقة الغرب الشاسعة لا تدري بكل هؤلاء ممن تجدر تسميتهم "مثقفو السلطة العالمية" التي تبدو جاثمة بقوتها على العالم ولكنها لا تعير بالا لمن يصفق لها من أبواق وكتبة سواء من أكباش الثقافة أو ممن سار في نهجهم من الموقوذة و النطيحة والمتردية.

هذه الممارسة تكشف عن رؤية حداثوية متعالية تدعي الحداثة والعلمانية وتقرأ الشرق عبر عملية "شرقنة الشرق" حسب إدوارد سعيد، وتجتر مقولات ذات شكل علمي خال من أي مضمون حقيقي، وتدمن إطلاقها بصورة معيارية تحاكم فيها أوطانها وماضيها البعيد والقريب وتنظر إلى كل ما تختلف معه على أنه ماضوي ومفوت، والخروج عنه يقتضي ليس تفكيك مفاصل مهمة في تاريخه وثقافته بل جلدها وجلد أبنائها، ولو عدنا لثقافة القبائل التي تطلق كل قبيلة على الأخرى صفة ما من بخل أو شح أو جبن أو مصلحية في سردياتها البينية، والتي تطور عنها الكثير من أمراض عامة الناس في تنميط أبناء المدن للمدن الأخرى كأن يتداول البعض ما يقال عن الحلبي أو الشامي أو الحموي والإدلبي والجزراوي التي يتم فيها التغاضي عن كل إيجابيات التعامل الاجتماعي والاقتصادي ويتم البحث عن عمق سردي متهافت لإسقاط صفة ما بهذا أو ذاك عقب أي مشكلة تعترض أحدهم، والتي يبدو أنها تطورت في غمرة الهجرة لتأخذ شكلا أكثر تطورا في نظرة نفر من المهاجرين لأوطانهم وشرقهم وكأنهم عبروا جبال الأولمب حاملين شعلة بروميثيوس ليفوزوا بجائزة الحياة واحتكار الحقيقة ويلعنوا ماضيهم وتاريخهم وإرثهم الحضاري وحاضرهم المرهون لرغبات وأطماع الغرب وقواعده العسكرية ومصالحه وزنوج المنزل الذين حكموهم في رقابنا.