الأسد وجمهورية "الظلام" الثالثة

2024.01.11 | 07:06 دمشق

إشعال النار في صورة كبيرة لبشار الأسد كانت منصوبة في ساحة تشرين وسط السويداء - AFP
+A
حجم الخط
-A

 

لم يُبالغ الرّوائي السوري فواز حداد حين عنون روايته بـ"جمهورية الظلام"، والتي اختصر فيها حالة الرعب السوري، ولخّص واقع كل من يعيش تحت رحمة النظام السوري خلال ما يزيد عن خمسين عاماً.

ولا يختلف اثنان على أن نظام الأسد أدخل شعباً بكامله إلى نفق مظلم ومسدود، بعد الثورة على نظامه عام 2011، وخلالها أصبح العنف هو الرافعة الوحيدة للنظام، إذ مورس بطرقٍ شتّى: مقابر جماعية، وتشريد الملايين، وإبادة مدن وقرى ومزارع بكاملها، واستدعاء للمحتل الإيراني والروسي، بالإضافة إلى ممارسة أفظع أنواع التعذيب في المعتقلات الرهيبة، بينما يتبع العنف مستوياتٍ أخرى من وسائل القوة والعنجهية؛ كالبروبوغندا الإعلامية، ونقل الألم بصورة مزوّقة، وتزوّر الحقائق لتحسين صورته أمام العالم. ولذلك أثقلت كمية الآلام عقول السوريين، وبدَّدت أحلامهم، وآمالهم، وقلبت حياتهم رأساً على عقب.

  • قائد قاتل على رأس "جمهورية الظلام" الثالثة!

عَرضت مجلة "لوبس-LODS" الفرنسية الفيلم الوثائقي (3 أجزاء)، الذي أخرجه المخرج البريطاني نيك غرين، بمسلسل وثائقي في أكتوبر 2018، يُظهر فيه قصة تطور بشار الأسد، ذلك الفتى الذي لا يشعر بالثقة، والذي لم يكن متوقعاً له الوصول إلى السلطة ليصبح قاتلاً جماعياً.

ويبدأ الجزء الثالث الذي حمل عنوان "ماذا بقي له من الإنسانية؟"؛ بمقابلة مع الطبيب السوري زاهر سحلول الذي اِلتحق بكلية الطب في لندن البريطانية مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، وكان يعرفه جيداً، وهو يقول فيها "هذا مثير للسخرية؛ كنا زملاء، واليوم أحدنا يقصف المستشفيات، والآخر يعالج ضحايا القصف".

القائد القاتل الذي عرضته المجلة الفرنسية على أنه كان خجلاً إلى درجة أنه يطأطئ رأسه عندما يُخاطبه أيّ إنسان، وأخرق إلى درجة أنه يكاد تفلت منه الأوراق التي كان يقرأ فيها في أثناء جنازة شقيقه باسل الأسد عام 1994، كما أنه لم يكن في نظر والده حافظ يُعوّل عليه ليكون رئيساً، فكيف تحول بعد أن كان يُريد أن يصبح طبيب عيون، إلى طاغية على يديه دماء ما يقارب من مليون سوري؟

  • على حافة الموت: المواطنون في جمهورية "الظلام" الثالثة

في نهاية 2010، كان متوسط الراتب الحكومي في سوريا 8 آلاف ليرة سورية (170 دولاراً أميركياً). ومع بداية 2024، لم يعد يتجاوز متوسط الراتب 250000 ليرة سورية (16$ فقط).

وارتفعت تكاليف المعيشة لعائلة سورية مكونة من خمسة أفراد "في مناطق الأسد" لأكثر من 12 مليون ليرة سورية، وهو ما جعل النظام يعمل على تخفيف بعض ضغوط مؤيديه عبر سياسة عسكرة المجتمع، وهو ما تم فعلاً من خلال تسهيل التعاقد معهم كمرتزقة ضمن القوات الروسية في أوكرانيا وأرمينيا وإفريقيا وغيرها.

ولقد تحولت الحياة اليومية في "جمهورية الظلام الثالثة" أو كما سماها رأس النظام "سورية المفيدة"، لحياة شبه مشلولة، حيث لم يعد لدى النظام ما يُقدمه لأكثر من 10 ملايين سوري خاضعين لسلطته.

وبالكاد يستطيع الناس البقاء على قيد الحياة، والنسبة المئوية للفقراء تتزايد كل يوم، بالإضافة إلى النقص الحاد في مادة الخبز، وغاز الطهي، وغياب الكهرباء، ووسائل التدفئة، خلال فصل الشتاء القاسي هذا العام، في حين واصلت العملة السورية "الليرة" انخفاضها، وهو ما أدى إلى ارتفاع الأسعار ثلاثين ضعفاً في الحد الأدنى بين 2011 و2024، وانخفضت نسبة الولادات، وازدادت عمليات الإجهاض في مناطق الأسد، وسط تردي الأوضاع المعيشية.

وأكدت إحدى الطبيبات المختصات لصحيفة تشرين "الموالية"، أن حالتين إلى ثلاث حالات لنساء يَرغبن بإجهاض الجنين ترد إلى عيادتها بشكل يوميولخص هذا الواقع المبعوث الأميركي السابق إلى سوريا جويل رايبورن في تغريدة على منصة "X" قائلاً: "مناطق النظام السوري تفتقر إلى المحروقات والطاقة، والتجارة، وشوارعها فارغة، بينما يستمر النظام بطبع العملة لدفع الرواتب فقط".

ولم يأت صراخ بعض الفنانين الموالين للأسد رداً على حالة التعاسة المعيشية بأي نتيجة، وحين نادى الفنان وضاح حلوم رأس النظام متوسلاً: "وحدك تملك القدرة على الحل"، وهو نفسه الأسد أعلن من بداية تسلّمه للحكم، عام 2000، أنه "لا يملك عصا سحرية" يحل بها كل المشكلات، وهذا كان زمن (جمهورية الظلام الثانية الأكثر قوة واستقراراً)، فكيف اليوم في وطن أصبح فيه 90% من الناس دون خط الجوع وعلى حافة الموت؟

وتمسكاً بمبدأ عدم الانحناء أمام العاصفة، ظل نظام الأسد يحاول ترويج نظرة تفاؤلية بين الساكنين في مناطقه في الحديث عن وصول بعض الاستثمارات العربية، وبدء التمويل الصيني لمشاريع إعادة الإعمار، وعن تخفيف العقوبات الأميركية، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث، ولا يبدو أنه سيكون قريباً طالما هو ممعن في سياسة التعنت والإفساد واللا مبالاة.

لم يسبب قانون قيصر أو مقاطعة الغرب، هذه الحالة من الفقر، والبطالة، والتضخم، والجرائم، والظلم، بل فساد أجهزة النظام، وسطوة تُجار الحرب الذين أثروا منها "محدثي النعمة"، وهيمنة الإيراني والروسي، هو السبب الأول والأخير.

وقبل زيادة الرواتب التي أقرها رئيس النظام السوري، كان راتب المدّرس السوري، يشتري علبتي حليب لطفل رضيع، بعيداً عن أيّ احتياجات أساسية أخرى، وفي حال أراد الاستغناء عن علبتي الحليب، يُمكن أن يشتري له هذا المبلغ أساسيات طبخة واحدة تتكون من "كيلو واحد من لحم الغنم، و2 كيلو من الأرز، وعلبة سمن، وكيلو من البطاطا، وكليو من الطماطم، وكيساً من الخبز".

فما الحل للغز الموت؟ الحل الحالي هم "المغتربون"، الذين هجَّرهم الأسد وشبيحته وحلفاؤه إلى أوروبا ودول الجوار، والذين تشكل تحويلاتهم لداخل مناطقه نحو 5 ملايين دولار أميركي يومياً (تقريباً).

  • جحيم تحت الأرض لمن يقول "لا"!  

بعد الثورة السورية، تحولت سجون نظام الأسد إلى مسالخ بشرية، حيث تُرتكب جرائم وإعدامات بالجملة، ولم يُفرِّق أتباع النظام بين الشيوخ والشباب والنساء.

وفي كتاب "الغولاك السوري: داخل معتقلات نظام الأسد" للباحث الهولندي أوغور أوميت أنجور (أستاذ دراسات الهولوكوست والإبادة الجماعية في جامعة أمستردام ومعهد NIOD)، والناشط الحقوقي السوري جابر بكر، والذي اعتُقل بين عامَي 2002 و2004 في سجنِ صيدنايا العسكري يتلخص الجحيم، إذ يستمد الكتاب اسمه من معسكرات الاعتقال السوفييتية الرعبة، ويكشف عن مأساة السجون خلال فترة حكم الأسدين الأب والابن.

ويعتمد الكتاب مصادر تشمل مقابلات وتقارير ومذكرات ورسوم وخرائط وصور، بالإضافة الى منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي.

وعن هذا الجحيم، أدلى حفار قبور (موظف مدني منشق كان يدفن الجثث بأماكن سرية) بشهادته الصادمة أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، قائلاً: "إنه دَفن أطفالًا قضوا تحت التعذيب، وإن ثلاث شاحنات كانت تأتي إليه كل أسبوع بمئات الجثث المكدسة، وتراوحت أعدادها بين 300 إلى 600 جثة، مصدرها فروع المخابرات، والمستشفيات العسكرية"، فالاعتقال والتصفية الجسدية، أصبحا مصير كل من يحتج على فساد منظومة الأسد من الساكنين في جمهوريته المظلمة.

  • فلسفة الأسد: جمهورية الظلام أم جمهورية المساطيل! 

أراد النظام السوري تجميع شعب موالٍ له (حسب رؤيته الأمنية: جمهورية من المساطيل)، وأسس الأسد وميليشياته بالتعاون مع إيران وحزب الله إمبراطورية من الكبتاغون، وبات تداول الأخبار المتعلقة بالمخدرات حدثاً شبه يومي، وعمليات ضبط الشحنات الخارجة من جمهوريته (مناطق سيطرته) إلى الحدود، والمطارات، والموانئ العربية والعالمية خبراً اعتيادياً؛ فمؤخراً في الأردن وحدها، ضبط ما يقارب 20 مليون حبة مخدرات، وأحبطت أكثر من 15 عملية تهريب خلال فترة وجيزة من الزمن على الحدود الأردنية وحدها.

وأشارت التقارير الطبية إلى تفشّي المهدّئات، والحبوب المخدّرة في مناطقه، ولا سيما بين ضحايا الحرب، وطلبة الجامعات والمدارس، وبأسعار بسيطة لا تتجاوز سعر الغرام الواحد نصف دولار. وأن الدخل الأكثر ربحاً للأسد هي المخدرات، فهناك 15 مصنعاً داخل مناطق الأسد تنتج: الكبتاغون، الأمفيتامين، الكريستال ميث وغيرها.

ونشرت صحيفة دير شبيغل في تقريرها (يونيو 2021)، بأن رأس النظام الأسد يُشرف شخصياً من وراء ابن عمه سامر الأسد على صناعة وتجارة المخدرات، عبر أطراف أربعة "القصر، الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، والحرس الثوري الإيراني، وحزب الله".

فالأضرار لم تقتصر على الفرد السوري، بل طالت المجتمع، وهزت سياجه الروحي والأخلاقي، وبسببها زادت معدلات الجريمة والعنف، وساهمت بمزيد من الإفقار، نتيجة استغلال المروجين للمتعاطين.

  • الدعارة في جمهورية "الظلام"

تفاقم الأزمات الاقتصادية في سوريا، أدى إلى انتشار ظاهرة استغلال النساء في "الدعارة"، إذ أصبح لها تجارتها الخاصة، ومستثمرون اجتازت أنشطتهم الحدود.

وزاد أمر تسهيل الدعارة، وترويجها على مستوى طلبة الجامعات والمدارس، والنازحين والنازحات إلى دمشق وحلب واللاذقية وحمص؛ عنوة واغتصاباً من ضباط الأسد وشبيحته، أو في سوق الدعارة العلني في بيوت مخصصة، وصالونات تجميل، ومقاهي، وكلّ هدفهن البقاء على قيد الحياة، مقابل قروش تسد الرمق (10 - 15 دولاراً يومياً).

  • نظام جمهورية الظلام بنكهة "إيرانية" و"روسية"

تعزّز وضع نظام الأسد، بوصفه رهينة في أيدي الإيرانيين والروس، وأصبح اقتصاده أكثر اِرتباطاً بالمصالح الإيرانية، برفقة نظيرتها الروسية، وأصبح الأسد أكثر ضعفاً، وأقل استقلالية، وأصبح النفوذ الإيراني أكثر سطوة وشراسة مع مطلع عام 2024. وباتت سوريا "الأسد" بنكهة إيرانية وروسية ثقافياً وتربوياً وعقائدياً واجتماعياً واقتصادياً، والهدف من ذلك تغيير الواقع الديمغرافي والديني السوري لخلق حالة تجانس شعبي نادى بها رأس النظام في جمهوريته الثالثة.

ولم ينفع تأهيل النظام العربي لبشار الأسد، فهو لم يكتفِ بتحويل سوريا إلى خرابة على حافة الإفلاس والمجاعة، وإنما في تسليم بلد بكامله للروس والإيرانيين، وتصدير أطنان المخدرات يومياً إلى بلدان التطبيع العربية، وفي مقدمتها الأردن والسعودية والإمارات ومصر.

هكذا حوَّل الأسد سوريا الدولة إلى جمهورية الرعب والظلام، تعيث فيها عصاباته وحلفائه فساداً، عبر سياسة الرعب والقمع، وتفكيك المجتمع وتهجيره، ونشر الفساد المالي والأخلاقي.

وعندما ينظر السوريون -في ظل مأساتهم المستمرة- إلى ما يجري في غزّة على يد العدو الصهيوني من تدمير وقتل وتهجير، يُدركون أكثر من غيرهم حجم تلك المعاناة التي يعيشها الغزيون، وهو الحال الذي عاشوه تحت رحمة نظام الأسد عقوداً طويلة، خاصة في عقده الأخير، إلى درجة أن التشابه الكبير بين إبادة إسرائيل ونظام الأسد، جعل البعض لا يميزون بينهما، وينشرون صورًا لتدمير المناطق السورية الثائرة، ومقاطع مصورة لخراب مدن داريا وحمص وإدلب، وبكاء أطفال حلب في أثناء حصار نظام الأسد وحلفائه لها على أنها مشاهد في غزّة. فكان الله في عون السوريين والغزّيين.