إيران كما شاهدتُها من الداخل

2023.10.06 | 06:36 دمشق

إيران كما شاهدتُها من الداخل
+A
حجم الخط
-A

كنت مستغرقاً في نومٍ عميق عندما توقف القطار بين العاصمة طهران ومدينة مشهد نحو الساعة الرابعة فجراً وسمعت وقع أقدام الركاب يترجلون وهم يتلفظون بكلمة "الصلاة". أدركت أن القطار توقف عند محطةٍ فيها مسجد وأن البعض سيرغب في أداء صلاة الفجر. عدت للنوم لدقيقة قبل أن يلكمني أحدهم في كتفي وهو يصيح، "الصلاة، الصلاة!" هنا انتبهت مذعوراً، نظرت حولي فلم أرَ في القطار شخصاً غيري. أسرعت بالنزول ملتحقاً بباقي الركاب وانتظمت مع المصلّين في المسجد لأداء صلاة الفجر وكانت صلاةً لم أندم عليها، لكن نزول الركاب بجملتهم وعدم السماح لشخصٍ واحدٍ بالتخلف عن النزول أو الامتناع عن أداء الصلاة كلّ ذلك ذكرني بنظام الجيش وانضباط العساكر القائم على الطاعة العمياء دون اعتراض. تلك هي باختصار طبيعة الحياة في إيران.

كان ذلك عام ٢٠٠٨ وقد وصلت إيران بالحافلة برفقة حجيجٍ كانوا في زيارة المراقد المقدسة في سوريا. لماذا إيران؟ لأن الفيزا لهذا البلد كانت ممكنة ورخيصة (٣٠٠ ليرة فقط) ولأني كنت أرغب بتجارة الأحجار الكريمة التي تشتهر بها مدينة مشهد في شمال شرقي إيران قرب الحدود مع تركمانستان. كان السفر بالحافلة مع الحجيج أرخص وسيلة نقل متاحة ولذلك لم أتردد في ركوبه. كما أن مرافقة الحجيج أضافت للرحلة مسحة ساحرة من المغامرة والرومنسية. فالحجيج في الحافلة كانوا وفداً واحداً وكنت الدخيل الوحيد بينهم، لكنهم كانوا في غاية اللطف والكرم معي طول الطريق، شاركوني طعامهم وأشعروني أنني واحدٌ منهم.

كان الشابّ يقيم مع والديه وإخوته وكانت العائلة متحرّرة ومنفتحة ومثقفة لكن النساء كنّ يجبرن على ارتداء الحجاب وإظهار التحفظ الشديد بمجرد الخروج من المنزل

في مدينة مشهد تمكنت من شراء الأحجار التي جئت لأجلها وكانت تجارتي رابحة عندما عدت إلى سوريا. كما أني زرت مرقد الإمام الرضا وهو عربيّ من آل بيت النبي ينزل في مقام الإمام الثامن عند الشيعة توفي بعيداً عن مسقط رأسه في المدينة المنورة ودفن في تلك المدينة النائية يوم كانت جزءاً من إقليم خراسان. قرأت الفاتحة على روح الإمام الرضا نزيل مشهد ودعوت له بالرحمة والمغفرة بعيداً عن مظاهر التعظيم المبالغ فيها التي رأيت غالبية الزائرين يصبغونها عليه.

نزلت في طهران في ضيافة شابّ إيراني كنت تعرفت عليه عن طريق موقع تعارف للمسافرين عبر العالم. كان الشابّ يقيم مع والديه وإخوته وكانت العائلة متحرّرة ومنفتحة ومثقفة لكن النساء كنّ يجبرن على ارتداء الحجاب وإظهار التحفظ الشديد بمجرد الخروج من المنزل. هذه كانت إشارة ثانية لي كي أفهم أسلوب حياة الإيرانيين في ظلّ نظام الملالي. فالحياة في إيران لها وجهان، ظاهر قبيح وباطن جميل، وخصوصاً في عالم النساء. الظاهر هو الحيز العام وما يفرضه من قيودٍ خانقة على الحرية. والباطن هو حياة الإيرانيين داخل بيوتهم وفي نطاقاتهم الخاصة، فهم بالمحصلة أمةٌ عريقة لها جذور ضاربة في التمدن والحضارة، لكنها أمة تختبئ إلى حين تحت عمامات الملالي السوداء.

لفت نظري التنوع الإثني والثقافي الجميل في الشعب الإيراني. فالفرس لا يشكلون إلا ربع السكان، بينما تذهب الأرباع الثلاثة الباقية للأتراك والأكراد والعرب لا يوحدهم شيء أكثر من القمع الديني الذي يتعرضون له جميعاً

طهران مدينة نظيفة ومنظمة والناس في شوارعها عليهم سيماء الوقار والأناقة، يؤثرون النظام ويهتمون بآداب السلوك الشخصي. تتحايل النساء على إلزامية الحجاب برفع "الغرّة" وهي لمسة الجمال التي تشتهر بها النساء الإيرانيات. يقتنع كل من حادثتهم في طهران أن نظامهم يسعى لامتلاك القنبلة النووية ويتطلعون كلهم للخلاص مما يرونه حكماً ثيوقراطياً متخّلفاً. لم أتفاجأ أني وجدت معظم الإيرانيين أناساً عاديين مثلنا ومثل باقي الناس في كل مكان يحبون الحياة ويتطلعون للتقدم ومنفتحون على كل البشر بحب وإنسانية وتسامح، عكس الصورة التي تتشكل لدينا عن هذا البلد عندما نشاهد سياسييه الورعين ومعمّميه المتزمتين وميليشياته المسلّحة في وسائل الإعلام. ولفت نظري التنوع الإثني والثقافي الجميل في الشعب الإيراني. فالفرس لا يشكلون إلا ربع السكان، بينما تذهب الأرباع الثلاثة الباقية للأتراك والأكراد والعرب لا يوحدهم شيء أكثر من القمع الديني الذي يتعرضون له جميعاً.

حكى لي أحد المعمّرين الإيرانيين أنه كان قبل ثورة الخميني يشرب الخمر ويذهب للصلاة في المسجد. وفي أحد الأيام وشى به أحد المصلّين للإمام من باب الدعابة وقال: "يا إمام هذا زنديق يشرب الخمر ويتظاهر بالتقوى هنا!" نظر الإمام للرجل بابتسامةٍ لطيفة وقال: "لا بأس عليه! سيتوقف عن شرب الخمر يوماً لكنه سيستمر بالقدوم إلينا في المسجد".

قال لي الرجل:

"بعد ثورة الخميني لم أعد أشرب الخمر لكن توقفت عن الذهاب للمسجد نهائياً".