إلى وائل الدحدوح مع سبق الإصرار والترصد

2024.01.09 | 06:55 دمشق

الدحدوح
+A
حجم الخط
-A

لم يكن عبثا يا أبيُّ، لا لم يكن ما جرى من قتل خطأ استثنائيا ولا خسائر حربية، أو ضحايا جانبية في حرب خيضت على ما سمي إرهابا فكانت أكثر إرهابا، على شاكلة مليون عراقي قتلوا باليورانيوم المنضّب، أو بضع مئات الآلاف في الصومال أو أفغانستان، واضغط يا وائل كما تشاء على كف ابنك السليمة إلا من الموت؛ وكأن الله أراد أن يتركها لتعانقها وتقبلها إذ تفحمت الثانية، جُسَّ الكف التي فترت عما قليل، وقبِّلها ليطمئن قلبك أنها يده وليست مستعارة من جثة أخرى في زحمة الأشلاء.

"في البدء كانت الكلمة" جملة في الإنجيل لخصت رسالة النبي عيسى عليه السلام، ما يوحي برسالية الكلمة ومدلولاتها الخيرة التي يمكن أن تحملها؛ يوم كانت تمثل ذاتا لا فصام في تركيب مدلولاتها نية وعملا وقولا؛ دون تفارق بين مضمونها الذي يتجسد عبر حاملها، ولعله من الصعب تتبع تاريخ افتراق الكلمة عن فعل حاملها ما يستدعي دراسة تاريخ الكذب الذي لم يولد مع الكلمة النازلة من سماء طاهرة، بل من إبداع الإنسان لوثته شهوة القتل؛ أو الغيرة والحسد دافعا أول جريمة على سطح البسيطة في قصة قابيل وهابيل.

لكي تكون الكلمة أو الخطاب مؤثرة تم استجلاب الصورة المروية والقصص والخيال المحايث للحقيقية أو المتلبس بها؛ ليرسم تصورا أعلى ويستعبد الناس في طموحهم أو يؤطرهم في طريق النهوض..

تطورت الكلمة تاريخيا لتصبح خطابا يمثل رؤية تطلقها جماعة تجاه محيط لأجل أن يتبناها أو يتبعها، ولكي تكون الكلمة أو الخطاب مؤثرة تم استجلاب الصورة المروية والقصص والخيال المحايث للحقيقية أو المتلبس بها؛ ليرسم تصورا أعلى ويستعبد الناس في طموحهم أو يؤطرهم في طريق النهوض، ثم ظهر الرسم فنا باذخا في الغرب حتى صار من جملة ما يمكن استخدامه لتكوين صورة نمطية عن الآخر؛ وبدلا من رسم يعبر عن الخوارزمي، أو ابن سينا في مخبره، أو ابن الهيثم عالم البصريات، كانت رسوم الرِق والجواري وأروقة السلطان وعالم الحرملك في ملكوت السلطان؛ والمرأة المسلمة الغارقة في الديباج والحرير ليلا قبالة رجل شهواني؛ هي التي تمثل الشرق لدى متخيَّل غربي تمت صناعته على عجل، وبعد أن درس الغرب بأدواته الحديثة مجتمعات الشرق؛ ليكرس صورتها ويظهرها مجهلة محجبة رغما عنها، مرذولة تحت وطأة أحكام دينية "متخلفة"، قبالة الرجل الفظ العربي أو المسلم والغليظ الشرير مع ترسيخ صورة الكوفية والذقن الطويلة في الأذهان.

تطورت الحضارة إلى الصورة والفيلم فصارت الصورة في شتى وسائل الإعلام حمالة رسائل تأطير وتدجين، ورغم واقعية الصورة كرسالة طازجة بكر أنقى من أصابع الإنسان، لكنها عانت تصفية لدى قوى اختصت بها، بل وتخصصت في الصور البريئة التي تقع بين الأيدي عن أمة أخرى ليصار إلى تنقيتها، وعدم تمرير سوى ما يكرس صورة تم نحتها في مخيلة الغربي لتكون رمزا، ورغم الدراسات التي نقدت الاستشراق وفككته؛ لكن الغرب لم يعرفها -سوى بعض نخبه المعزولة- وبقيت شعوب الغرب في عالمها البليد الذي ظننا أنه من الحداثة والوعي؛ بحيث يزيل تلك الصور المنحوتة ولكنها بدت كأن ثورة معرفية ما حدثت ولم يسمع بها أحد، حتى قال كاتب إن الحداثة الغربية عسكرة بطريقة منمقة لشدة التأطير الذي تمارسه على أبنائها، فكيف بحال من يغتر بها أو يرهن نفسه لقواها النافذة الفاعلة التي تبحث عن ترويج رؤيتها وخطابها، حتى بدا أن هذا الغرب الثاوي في مركزيته وتعاليه لم يَعِ من هويته إلا ما يميزه عن آخر هو عدو يسبغ عليه كل الصفات التي تبيح استعباده.

تقوم الدراما الغربية على "أفلام أكشن" تجسد بطولة جندي قاتل في العراق أو أفغانستان أو الصومال، وقد كان لا بد من عدو متخيل في الدراما ليس للتشويق فقط، بل لدس شعور بأن الحضارة المعاشة من قبل المتفرج الغربي مهددة وهناك عمل دؤوب ورسالي لتحييد تلك الأخطار، يغدو أطفال المسلمين إرهابيين وإن لم يقاتلوا فهم خطر محتمل، على أن الكاميرا لا تركز بؤرتها سوى على العمل البطولي تجاه المقاومة (الإرهابية) التي تهدد العالم وحضارته.

تذهب الكاميرا لتجسد حنين ذاك المقاتل الغربي البطل لأهله وتحتفي بأطفاله وشوقهم وانتظارهم له -ما لم يكن من المرتزقة الذين تستأجرهم قبالة إقامة أو جنسية- يخرج من هذا الاستثناء أبناء البلدان الأوروبية قاطبة إذا ما فكروا برحلة صيد في فلسطين لينتعشوا بقتل الأطفال أو الأهداف المتحركة من لحم ودم، في حين أن كاميرا أخرى خارجة عن سياق الدراما و"الأكشن" المرسوم لها وفي مكان آخر -أميركا في لقاء متقاعدي الحرب- تنقل كيف أن الدولة التي أرسلتهم واستعانت بالدراما لتعظم دورهم وتحشد قطيعية شعوبها خلفها منذ أعوام، تركتهم عاجزين يشكون عاهات وعطبا في أجسادهم التي نهشتها وحوش المقاومة أية مقاومة ولم يكترث لهم أحد، هنا تنكشف الدولة التي تعترف بمن يخدمها وترميه عند انتهاء مهمته، وتفتح بابا في الدول المتحضرة والباهرة الأنوار عن سؤال المواطن والدولة؛ ذاك السؤال الذي لا تنفتح له وسائل الإعلام ولا السينما والأفلام، في غرب ما عاد يعرِّف نفسه بثقافة ولا حضارة -فتلك أدوات فقط وسياقات تأطير- بل هو ذات تقاتل ذوات أخرى أدنى منها وتهدد وجودها، هنا يغدو الآخر أي آخر عدوا بعيدا عن كل القيم الإنسانية التي ادعاها بعد تكشف كذبة الحضارة والحقوق والإنسانية.

لطالما قيل إن الكاميرا عوراء بعين واحدة لكن روح حاملها هي العين الثانية، العين الثانية تبث من روحها شيئا ينعكس على بؤرتها الشاخصة التي تسجل، بدت واضحة كالشمس في حديث الصحفية الإنكليزية مع مصطفى البرغوثي في تكريسها لصورة الرجل الشرقي الذي لم يعتد الحديث مع امرأة، وكأن المتحدثة كانت امرأة وليست رجلا بشعا، بل رجل مخابرات في غرفة التحقيق وليعذرنا الرجال بذاك التشبيه، الروح الثانية التي تخصنا كانت تصور غزة الغارقة بالركام وصورت عائلة الدحدوح وهو ينقل صور الموت في غزة الجريحة، ويخسر 22 فردا من عائلته ثم يخسر أخيرا نجله في قصف استهدف سيارة تحمل شارة الصحافة.

كاميراتنا بعينين شاخصتين إحداهما روح الشاهد وهو يسير إلى حتفه لتوثيق الحقيقة أمام العدسة وخلفها، وإن عجزت أدارها لعينها الثانية، لروحه وهي تشهق إلى سماء الحقيقة، وتصور المصور وقد صار نفسه ضحية مسجاة تحمل صوته الحي وأنامله التي تكتب وحنجرته التي تصدح..

كم كان الصحفيون بسطاء إذ حملوا شارتهم ليجنبهم العدو نيرانه، أدركوا أخيرا أنهم هدف كسائر أطفال فلسطين الذي كنا نظنهم ليسوا أهدافا حتى نقلت الكاميرا -كاميراتهم- ما تضمر أرواحهم؛ آخر موديلات الدراما الحية التي ستقتصها أفلام العالم للجندي الصهيوني وهو يفجر حيا بكامله على الهواء كهدية لابنته في عيد ميلادها منذ أسبوعين، والكاميرا التي نقلت حديث الجندي لصديقته وهو يقول لم يتبقَّ أطفال رضع في غزة لقتلهم فاضطررت لقتل طفلة بعمر 12 عاما.

كاميراتنا بعينين شاخصتين إحداهما روح الشاهد وهو يسير إلى حتفه لتوثيق الحقيقة أمام العدسة وخلفها، وإن عجزت أدارها لعينها الثانية، لروحه وهي تشهق إلى سماء الحقيقة، وتصور المصور وقد صار نفسه ضحية مسجاة تحمل صوته الحي وأنامله التي تكتب وحنجرته التي تصدح، يقول إميل سيوران "يتم إبادة حضارة ما عندما تتم إبادة آلهتها" وهم يقتلون الآن أنبياءنا لكن أمتنا ولودة.

يا أيها الشهيد: الحكمة التي قادتك لهذه الوقفة تغنيك عن اللحظة التي تعيشها أمس والآن وغدا، تعيشها حد الموت إذ تتكشف لك الحياة وذروة سنامها، هي نقطة على خط واهٍ لا يُمَس ولا يُرى، على الحواف بين عالمين، هي أول الموت، اللحظة هي وقوفك على هرم الحياة لتدرك حكمتها ورشدها وتركلها بقدمك، وتنفض يديك منها، وتقول لقد انتهيت من مهمتي، لم تفاجئك القذيفة على ما أظن سنحتاج عينيك لنطل على ما تراه في الشهقة الأعلى، نحتاج أنفاسك إذ يقال إن الشهيد يودع الدنيا وهو يتنشق ريح الجنة ويغمض عينيه على طيفها.