أدونيس.. الشعر والماهيّة

2020.10.16 | 01:12 دمشق

adonis.jpg
+A
حجم الخط
-A

لقد خذل الشاعر أدونيس (علي أحمد سعيد إسبر) قسماً كبيراً من جمهوره حين آثر الانحياز إلى جانب نظام التوحّش الأسدي في مواجهة ثورة السوريين في آذار 2011 ، إلا أن هذا الخذلان لم يُجهِز على شخصية الرجل كاملةً، إذ ظل أدونيس بنظر مجمل الساخطين على موقفه السياسي، ذلك الشاعر الكبير والرائد المتفرّد للحداثة، والمفكر النوعي الذي فتح آفاقاً واسعة للمتطلعين إلى الانتقال من عصر الانغلاق والتحجّر والعيش في أقفاص الماضي، إلى آفاق التقدم والحضارة.

 في الموقف من أدونيس يكتفي الذين خذلتهم الصدمة الأدونيسية بالتفريق بين (شاعرية أدونيس) التي تبقى محتفظة بوقارها وريادتها، وبين موقفه (السياسي) غير المنسجم مع طروحاته الفكرية الداعية باستمرار إلى الثورة على كل ما هو مألوف وقديم، ولكنّ السؤال الذي يحثّ على مزيد من التفكير هو الآتي: هل يمكن بحالٍ من الأحوال الفصل التام بين التجربة الشعرية لأدونيس ومحتواها الفكري؟ وهل بالفعل كان المحتوى الشعري لدى الرجل مبايناً لموقفه الفكري والسياسي؟ ثم السؤال الأهم: ما هو المعيار الناظم لعظمة أي شاعر، هل هي القيمة الفنية الكامنة في شعره فحسب، ام تماهي تجربته الشعرية مع البعد الإنساني للكائن البشري؟ ما هو مؤكّد أن أدونيس ليس شاعراً فحسب، بل صاحب مشروع ثقافي، أفنى عقوداً من عمره بالدعوة إليه والترويج له، وقد ارتسمت معالم هذا المشروع في العديد من كتبه التنظيرية، وبخاصة ( الثابت والمتحول) و( زمن الشعر)، فضلاً عن ارتسامها في شعره أيضاً، ولعلّ البحث عن العُرى الشابكة لأفكاره بين النصوص الشعرية وكتاباته النظرية من جهة، وتجليات ذلك كلّه في موقفه السياسي الراهن، يبدو شأناً في غاية الأهمية،إلّا أن الدراسات التي أخذت هذا المنحى تبدو قليلة، بل نادرة الحصول، ومن هذه الدراسات النادرة هي تلك التي نعثر عليها في الإرث النقدي الذي تركه لنا المرحوم الناقد الكبير يوسف سامي اليوسف، ففي كتاب له بعنوان ( الشعر العربي المعاصر) صدر عام 1980 عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق، يخص اليوسف في كتابه المذكور أدونيس بدراسة مفصّلة، يغوص فيها بأعماق تجربة أدونيس شاعراً ومثقفاً. ولعل ما دعاني للوقوف عند هذه الدراسة دون سواها هو أمران اثنان، الأول: هو أن الدراسة كُتبت منذ أربعين سنة تقريباً، وحينذاك كان أدونيس ما يزال متربعاً (على سروج خيله) كما يقال، كما كان الشطر الصادم من شخصية أدونيس ما يزال مستوراً، وقد كشف المرحوم يوسف سامي اليوسف النقاب عن ذلك الشطر منذ ذلك الحين. أما الأمر الثاني: فهو أن المرحوم اليوسف – خلافاً لكثير من النقاد – يرى أن مواقف أدونيس السياسية ليست طارئة على شعره أو فكره، وإنما هي منبثقة عنهما. وسأكتفي بالوقوف عند نقطتين ممّا جاء في دراسة المرحوم اليوسف:

1 – أدونيس الشاعر: الفكرة التي تنهض عليها التجربة الشعرية لأدونيس هي فكرة (التحوّل)، ووفقاً للناقد اليوسف، فإن جميع مقولات (التجادل والصراع والتجاوز والحركة إلخ ) هي من مضامين فكرة التحوّل التي تعود في جذورها إلى عمق التاريخ، إذ لقد تجسّدت في أساطير الخصوبة في سومر وبابل ومصر الفرعونية والصين، ولكنها انتقلت إلى حيّز الفلسفة على يد الفلاسفة الإغريق الذين بدؤوا التفكير بالمفاهيم والمقولات بدلاً من الصور والأخيلة، كما يرى الأستاذ اليوسف أن فكرة التحوّل بلغت ذروتها – على المستوى الأدبي، لدى المدرسة الرمزية الفرنسية، وبشكل أعمق لدى الشاعر (سان جون بيرس) الذي ترك أثراً واضحاً في شعر أدونيس، ص 188 . المشكلة الأساسية لدى أدونيس – وفقاً للأستاذ اليوسف – تكمن في تعاطي أدونيس مع فكرة (التحوّل) والتي ينبغي أن تكون ملازمة لحركة التاريخ، غير بعيدة عن حركة الواقع، بمعنى أن نزوع الشاعر نحو الانبعاث والتجدّد ينبغي أن يكون ملازماً، بل منبثقاً من رغبته في الاندماج بالواقع الحسّي، إلّا أن هذا النزوع الانبعاثي لدى أدونيس – كما يراه اليوسف – جاء على المستوى الذهني المجرّد فحسب، مما جعل شعر أدونيس يتحرك في المطلق والمجرد بعيداً عن الوقائعي والعيني، بمعنى أنه يتعامل مع القوانين المتحكّمة بالواقع، لا مع الواقع نفسه، ص 209 – 2010 ، وبسبب من هذا التعامل مع الذهني المجرد – والكلام للأستاذ اليوسف – ونتيجة لتكريس الجهد كله للقوانين العامة المتحكمة بالحياة، فإنه ، أي أدونيس، لم يكتف بإهمال الوقائعي او التجريبي العيني، بل أهمل الوجداني، ملح الفن كله، ويضيف اليوسف: إن التجربة العربية المعاصرة طوال العقود الثلاثة المنصرمة ( نكبة فلسطين – الوحدة العربية – التحول الاشتراكي – حرب حزيران – حرب تشرين ) قلما نجدها واضحة الانعكاس في شعره، لقد ضحّى ادونيس بالتاريخ على مذبح المفهوم.

2 – النزوع الشعري الأدونيسي نحو التحوّل والانبعاث والتجدّد، يتخذ شكل الدعوة إلى ( ثورة ) في كتاباته النظرية الأخرى، تلك الثورة التي لن تقوم لها قائمة – وفقاً لأدونيس – إلّا على أنقاض كل ما هو قديم، ذلك أن تحطيم سلطة الماضي – فكرياً وأدبياً ودينياً واجتماعيا – هو المدخل إلى الحداثة الحقيقية، وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن أدونيس مولعٌ بفكرة الهدم، فعبارته المشهورة ( لا أعلم، ولكني أحرّض وأهدم ) تكشف بوضوح عن أن المنحى الانبعاثي لديه قائم على رغبة قارّة في النفس، ولكنها لا تتقوّم على رؤية تحاور الماضي والمستقبل، ولعل هذا ما دفع المرحوم اليوسف للقول: ( إن عقل أدونيس بنيوي وليس جدلياً ، سكوني وليس حركياً).

إن ولع أدونيس بفكرة الهدم المجاني، قد منح كثيرا من خصومه فرصة للتهجم عليه واتهامه بالشعوبية، وذلك منذ وقت مبكر، ولكن جميع تلك الاتهامات – في حينها – لم تخرج عن سياق الصراع بين الحداثة والتقليد أو المحافظة، وحتى بعد صدور كتابه ( الثابت والمتحول) والذي يتضمن رؤى وتصورات يتجاوز بها أدونيس اتهام التراث بالعقم فقط، بل يصبح العقم والتقليد سمتين من سمات التفكير العربي، إلّا أن هذا الموقف الحانق تجاه العرب والمسلمين وتراثهم لم يجرح الهيبة الشعرية والإبداعية لأدونيس، وظل في أعين كثيرين رائدأ للحداثة، بل أحد أعمدتها ومهندسيها، ولكن هذه الهيبة تعرّضت مرة أخرى لامتحان شديد إبان انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011 ، حين انزاح الرائد الحداثي إلى موقف موغل في الرجعية، أعني انحيازه إلى جانب نظام الإجرام الأسدي، علماً أن موقفه السابق من ثورة الخميني الإيرانية يحمل إرهاصات بالغة الدلالة على موقفه اللاحق من الثورة السورية، وحول هذه المسألة بالذات، يمكن الوقوف عند مقبوس للمرحوم اليوسف، لكونه يسجّل استشرافاً فكرياً عظيماً في حينه:

(القوى الرجعية العربية ترفض الماضي رفضاً عملياً، وإن كانت تعلن عكس ذلك في أجهزة الإعلام. كل رفض للماضي على طريقة أدونيس المفتعلة والمبالغ فيها، تلتقي في التحليل الأخير مع الرجعية العربية، حقاً إن المتطرفات تلتقي، وإن أقصى اليسار ليس أفضل من أقصى اليمين) ص 230. ترى هل كان المقبوس السابق يستشرف اصطفاف إيران ومعظم قوى اليسار المصري والتونسي والفلسطيني إلى جانب نظام البطش الأسدي؟

إذاً حداثة أدونيس لم تكن بدعةً في مآلاتها السياسية والفكرية، وكذلك لم يكن موقفه الراهن مفارقاً لمُنتَجه الشعري، أو طارئاً عليه، بل هو يستبطن معظم إنتاجه الشعري، أمّا الذين ما يزالون متمسّكين بالشطر الإبداعي من شخصية أدونيس كرائد للحداثة الشعرية، فأغلب الظن أن فهمهم للحداثة عموماً، وللحداثة في الأدب والإبداع على وجه الخصوص، كان، وما يزال مسكوناً برغبة التغيير وتجاوز الراهن – وهذا أمر في غاية المشروعية – ولكنّ هذه الرغبة لم تكن في غالب الأحيان ملامسةً للواقع الاجتماعي والثقافي، فضلاً عن كونها غير منبثقة عن السياق الحياتي للمجتمع، ولعل هذا ما صبغ مشروع الحداثة بصبغة رغبوية أكثر من كونها واقعية.

ربما لا يكون أدونيس هو الشاعر أو المثقف الوحيد الذي تنفضح شروخاته بفعل الكشوفات الثقافية للثورة السورية، ولكن من المفيد جداً ألّا نواجه أدونيس بمبررات تحمل سمة التناقض ذاتها، فالقول: إن النتاج الشعري أو الأدبي شيء، والموقف الإنساني أو الأخلاقي شيء آخر، يوجب مراجعات عميقة في التفكير والتقييم.