عن أدب السجون في سوريا

2019.07.12 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

شهدت السنوات اللاحقة لانطلاقة الثورة السورية عام 2011 ، ظهور عدد غير قليل من الأعمال الأدبية التي تجسّد مضامينها ما كان يجري داخل السجون السورية، سواء فيما يتعلق بممارسات السلطة بحق السجناء، أو فيما يتعلق بحياة السجناء ومعاناتهم داخل الأسوار المغلقة.

وقبل أي حديث عن الخواص الأدبية أو الفنية لتلك الأعمال، تجدر الإشارة إلى أن ما كُتب من نصوص داخل أسوار السجن، بمختلف أشكالها، بات اليوم أحد مصادر التوثيق الرئيسية لممارسات نظام الحكم، ولسلوك رجال المخابرات والسجانين، وذلك نظراً لندرة الأعمال التوثيقية الحقوقية أو القانونية في سوريا، وخاصة منذ مطلع الثمانينيات، أي منذ اشتداد السطوة الأمنية على البلاد، وإحكام قبضة المخابرات على جميع مفاصل الدولة، وتكريس الخوف بأقسى أشكاله لدى المواطنين، إذ إن أي مسعى يهدف إلى أيّ مقاربة قانونية لحقوق الإنسان في سوريا، سيكون محلّ شبهة، بل هو سلوك يستدعي الوبال على صاحبه، وليست قليلة تلك الحالات التي شهدت اعتقال واختفاء الكثيرين من النشطاء الحقوقيين الذين حاولوا توثيق حالات الاعتقال في سوريا، أو الممارسات الوحشية للسلطات الأمنية، إلّا أن مصير هؤلاء لم يكن أقلّ مأسويةً من مصير السجناء أنفسهم.

تجدر الإشارة إلى أن ما كُتب من نصوص داخل أسوار السجن، بمختلف أشكالها، بات اليوم أحد مصادر التوثيق الرئيسية لممارسات نظام الحكم، ولسلوك رجال المخابرات والسجانين

أضف إلى ذلك، أن السجون السورية التي كانت تحتوي على أكبر عدد من المعتقلين، كسجن تدمر، وسجن أبو الشامات الذي تشرف عليه المخابرات الجوية، كانت محاطةً بقدر كبير من السرية، بل إن ما كان يجري داخلها من ممارسات يكاد يكون مجهولاً لدى أكثر المواطنين السوريين، طيلة فترة امتدت إلى أكثر من عقد من الزمن، إذ بدأت حملة الاعتقالات المكثفة منذ بداية العام 1979 ، ولم تشهد تلك الفترة أي حالة إفراج جماعية عن المعتقلين السياسيين حتى شهر كانون أول من العام 1991 ، إذ أطلق حافظ الأسد آنذاك سراح ما يقارب ( 2800 ) معتقل، كان العدد الأكبر منهم من تنظيم الإخوان المسلمين، وقسم كبير من هؤلاء كان أمضى سنيّ اعتقاله في سجن تدمر.

لقد باتت مرويات المعتقلين السوريين بعد الثورة، أحد المصادر الأساسية للجهات الحقوقية والقانونية التي تعنى بتوثيق فظاعات نظام الأسد بحق المعتقلين، كما باتت تلك المرويات ذاتها، هدفاً لمختلف وسائل الإعلام التي تحاول تسليط الضوء على واقع السجون السورية، سواء في مرحلة ما قبل الثورة، أو بعدها.

أدب السجون السورية – باعتباره جزءاً من هذه المرويات – بات ظاهرة لافتة، كونه ظهر كطفرة دافقة، بعد حالة كمون استمرت طيلة عقدين من الزمن، ولعلّ ما كان استثناء لذلك، إنما تجسّد في حالات فردية، استطاع أصحابها مغادرة سوريا، وقاموا بنشر أعمالهم في الخارج، وهناك حالات نادرة لبعض المعتقلين، ممن تمكن من تسريب بعض أعماله، ثم نشرها باسم مستعار في حينه.

هذا الكم الكبير من النصوص الذي ولد في الزنازين والأقبية المظلمة، واستطاع الوصول إلى متناول القراء، سواء ما كان منه منشوراً على الورق، أو متداولاً على الشبكة العنكبوتية، اتّسم بسمات عدّة، منها ما هو عام، ومنها ما هو خاص، أي ما يتعلّق بالخاصية النوعية للأدب.

السمات العامة، ولعلّ أبرزها:

1الغزارة والتنوّع، ولعل هذه السمة منبثقة من الخصوصية التي انفردت بها فداحة المأساة السورية، ذلك أن التوحّش الأمني الأسدي لم يكن حالة استثنائية في حياة السوريين، بل إن السطوة الأمنية التي مارست شتى أشكال البطش، كانت هي الحالة الملازمة للسلطة السياسية، بل هي إحدى الحوامل الأساسية التي ضمنتْ لآل الأسد استمرارهم في السلطة منذ عام 1970 وحتى الوقت الراهن، فضلاً عن أن حالات الاعتقال طويل الأمد، التي طالت عشرات الآلاف من السوريين، ومن شرائح اجتماعية متنوعة، قد أفرزت سرديات غزيرة ، ربما أمكن تصنيف قسم منها على أنها أجناس أدبية ( رواية – قصة – شعر – نصوص أخرى ).

2أسهمت هذه السرديات والنصوص الأدبية جميعها، في فضح الوجه القبيح لممارسات السلطة الأسدية، وذلك من خلال تجسيدها لأدق تفاصيل أشكال وأدوات التعذيب، وكذلك تفاصيل الحياة اليومية للمعتقلين داخل السجون، كما أظهرت بصدق، طبيعة التوحّش التي وسمت منهج نظام الأسد في التعامل مع خصومه السياسيين.

3الطابع التراجيدي الطاغي على السرديات الأدبية جعل منها نصوصاً ملتصقة بحالات الوجع الإنساني، وقلّما تحفل بأبعاد معرفية أخرى، وذلك بحكم المكان والزمان، والحالات الشعورية التي ولدت فيها تلك النصوص.

سمات أدبية وفنية:

1تفاوت المستوى الفني فيما ينضوي تحت مسمى ( أدب السجون)، وقد أسهم في تعزيز نسبة هذا التفاوت غياب الجهود النقدية التي من شأنها تسليط الضوء على هذا الصنف من الأدب، وبيان ما هو أدبي منه، وما لا يرتقي إلى مستوى الأدب.

 أسهمت هذه السرديات والنصوص الأدبية جميعها، في فضح الوجه القبيح لممارسات السلطة الأسدية، وذلك من خلال تجسيدها لأدق تفاصيل أشكال وأدوات التعذيب

2حيازة هذه الظاهرة الأدبية على تعاطف من جمهور كبير من القراء، إنما مبعثها المضامين والقضايا التي تقوّمت عليها النصوص في الغالب الأعمّ، وليس الحوامل الفنية الناهضة عليها، مما يجعلنا في كثير من الأحيان نسعى للتمييز بين سردية تجسّد حالة إنسانية تحظى بالاحترام والتعاطف، ولكنها خالية من مقوّمات الأدب، وبين عمل أدبي انطوى على تجربة إنسانية عميقة، ولكنها ازدادت عمقاً وإدهاشاً من خلال تجسيدها جمالياً، ويبقى العامل الفارق والأهم – كما أعتقد – بين الحالتين، هو عملية (الخلق الفني أو الجمالي) التي لا يمتلكها سوى الكاتب المبدع، وليس صاحب التجربة فحسب.

3سيادة الأعمال النثرية، وبخاصة الرواية، وانحسار الشعر، ولم تكن هذه السمة تطال أدب السجون وحده، بل أضحت السمة الطاغية على أدب العصر برمته، إلّا أن مبررات شيوعها في أدب السجون تغدو أكثر مشروعية، وإنْ شئنا الذهاب مع ( ميخائيل باختين) لمضينا بالقول: إن الرواية – كجنس أدبي – هي الأقدر على استيعاب التحولات الاجتماعية لدى معظم شرائح المجتمع، وبفضل ما تمتلكه الرواية من مرونة في اللغة، ورصد للتفاصيل الحياتية الدقيقة، وامتداد مساحتها الزمانية، فإنها بذلك، تكون الأقدر على تجسيد، ومن ثم إعادة خلق الواقع، وفقاً لرؤية الكاتب وتصوراته، في حين أننا نجد الشعر هو نتاج حالة شعورية غاية في التكثيف، مشحونة بطاقة وجدانية عالية، قوامه التوتر، لا يحتمل المزيد من البرودة والهدوء، كما لا يحتمل الدخول في التفاصيل، بل يتناول ( الكليات) وفقاً لأرسطو، فضلاً عن أن لغة الشعر، هي لغة إيمائية، توحي ولا تفصل، لغة مكتنزة بطاقات مجازية وخيالية، فهي في الغالب تعتمد الإشارة لا التصريح.

ولئن كان الشعر قادراً على النفاذ إلى عمق المواقف والتجارب الإنسانية، بغيةَ خلْقها فنياً، وتجسيدها جمالياً، إلّا أن عملية الخلق هذه، ستكون موسومة بتداعيات اللحظة الشعورية الآنية للمبدع، وذلك على حساب الجانب الجزئي الموضوعي الذي تستطيع الرواية المحافظة عليه.

على أية حال، مازال أدب السجون السورية ظاهرة تحتمل حقولها المزيد من الحرث النقدي، وإذا ما تحقق ذلك، فستكون إحدى الظواهر الأدبية الهامة في تاريخ الأدب.

 

 

كلمات مفتاحية