أصدقاء الكفاح: محمد رشيد رضا (2)

2018.10.11 | 16:57 دمشق

+A
حجم الخط
-A

"لما نشب خلاف بين أعضاء المؤتمر وبين الملك فيصل وبدرت من الملك كلمة ينتقص فيها من قدر رجال المؤتمر كان فيما قال الملك: أنا الذي أوجدته - أي المؤتمر -، فرد محمد رشيد رضا عليه بقوله: بل هو الذي أوجدك! فقد كنت قائداً من قواد الحلفاء تحت قيادة الجنرال ألنبي فجعلك ملكاً لسوريا".

عرضت في المقال السابق تجربة الكاتب والسياسي شكيب أرسلان، وأعرض اليوم بعضاً من أوجه تجربة محمد رشيد رضا ودوره في بلاد الشام، من خلال رحلاته التي سجلها وجمعت مرتين: الأولى في كتاب "رحلتان إلى سوريا" الذي يسجل فيه رحلتيه إلى سوريا فقط، والثانية في كتاب "رحلات الإمام محمد رشيد رضا" تحقيق يوسف إيبش، الذي جمع رحلات وأسفار رشيد رضا كلها.

قرر رشيد رضا أن يلحق بشيخه محمد عبده في مصر في عام 1898، بعد أن تم تعطيل مجلة "العروة الوثقى"، وفي نفس العام أصدر رضا أول أعداد مجلته "المنار".

الرحلة الأولى لبلاد الشام 1908

صادرت حكومة سوريا العدد الثاني من المنار بعد توزيعه، لمقالة فيه عنوانها "القول الفصل في سعادة الأمة"، ثم صدر أمر من السلطان عبد الحميد الثاني بمنع مجلة "المنار" من دخول مملكته، وعرض عليه أكثر من منصب في بلاد الشام شرط أن يتوقف عن الكتابة. ولم يوافق وفضل المكوث في مصر. ثم أعلن الدستور العثماني في عام 1908 فعاد لزيارة بلاد الشام.

مما لفت انتباهه سعي بعض المصلحين لإعادة فتح المدارس التي أسستها جمعية المقاصد الخيرية والتي أغلقت في عهد عبد الحميد. واستقبله الناس بالاحتفالات في طرابلس، لكن أحد الأشخاص قام بالاعتداء عليه محاولاً إطلاق النار عليه، وغضب الكثيرون من محبي رضا من هذا التصرف، ويقول في سجله عن الرحلة: "وتطوع نحو خمسين رجلاً من فدائية بيروت (الأبضايات) بذلك، فكتبت إلى بعضهم أنه لا حاجة إلى ذلك، وأنني في طرابلس عزيز كريم"، وينقل رسائل من بعض المسيحيين الذين حزنوا من أجله، وكتب له نقولا أفندي شحادة رسالة يتمثل فيها بقول المسيح عليه السلام الذي معناه أنه لا يهان نبي إلا في قومه وبلده.

امتلك رشيد رضا الكثير من الأفكار ومن أجلها سافر إلى الآستانة عام 1910 ليمول دار الدعوة والإرشاد، ثم شارك في تأسيس جمعية "الجامعة العربية".

وبعد رحلته الشامية بأعوام - وفي عام 1913 - سافر إلى الهند واستقبل فيها استقبال الملوك، وعرج أثناء رحلته هذه على مسقط والكويت والعراق وسوريا. وكانت الثورة العربية في أواخر العهد العثماني، فرحل إلى الحجاز والتقى بالشريف حسين، وجعل مجلة المنار منبراً لبث الدعوة إلى مبايعته، واغتنم تلك الرحلة لأداء فريضة الحج.

رضا يقابل بيكو

سافر رشيد رضا إلى بلاد الشام ثانية في أيلول/سبتمبر سنة 1919 وقد وضعت الحرب العظمى أوزارها، وتم منحه أذن سفر مقابل كتابته تعهداً بعدم تهييج الوضع السياسي، ثم دعي لمقابلة مسيو بيكو المشارك في وضع اتفاقية سايكس بيكو، قال رضا: "واتفق أن أعلن كل من دولتي إنكلترا وفرنسا عقب وصولي إلى الشام أنهما اتفقتا نهائياً على تنفيذ معاهدة سايكس بيكو". ثم زاره شرطي في بيروت وأبلغه استعداد القومسير السامي مسيو "جورج بيكو" لمقابلته. دار الحديث بينهما في ثلاث مسائل وفيها ذكر رشيد رضا أهمية جعل التعليم باللغة العربية، وعدم المساس بهذه القضية من الفرنسيين، والثانية سأل رشيد رضا بيكو عما تنوي فرنسا عمله في شرق سوريا وهل ستبقي على حاكم واحد أم أكثر، وتهرب بيكو من إجابة هذا السؤال، والمسألة الثالثة كانت نقاشاً عن الفرق بين سياسات بريطانيا وفرنسا في المناطق التي خضعت لكل منهما

سافر رشيد رضا إلى بلاد الشام ثانية في أيلول/سبتمبر سنة 1919 وقد وضعت الحرب العظمى أوزارها، وتم منحه أذن سفر مقابل كتابته تعهداً بعدم تهييج الوضع السياسي

رضا والملك فيصل

في هذه الزيارة ذهب رشيد رضا إلى دمشق ليقابل الملك فيصل، ثم عاد إلى بيروت في أول مارس/آذار سنة 1920، لإقناع وجهاء بيروت المنتخبين للمؤتمر السوري بحضور الجلسة التاريخية التي يعلن فيها استقلال سوريا. كان رضا يتصرف كمسؤول أول عن مستقبل بلاد الشام، فيقترح على الملك فيصل تعيين الوزراء، ونقل فيما كتب عن رحلاته خلافه مع فيصل ورده عليه بأنه جاء بسبب عمله مع الحلفاء، ورفض رشيد رضا طلب فيصل من وزراء حكومته إعداد جيش لمؤازرة أبيه الشريف حسين إذا نشبت الحرب بينه وبين ابن سعود. ذلك كله لم يمنعه من الثناء على تواضع الملك فيصل وخصاله الحميدة، وكان يوسف العظمة وعبد الرحمن الشهبندر لا يصدران إلا عن رأي رشيد رضا لأنه هو الذي رشحهما لوزارة الأتاسي. وهنا نشير محذرين إلى أننا ننقل الوقائع والمواقف من وجهة نظر رشيد رضا كما دونها بقلمه.

شارك رشيد رضا في تأسيس حزب الاتحاد السوري، ورضي أن يكون فيه نائباً للرئيس، وأن يكون الأمير ميشيل لطف الله رئيساً. وقررت لجنة حزب الاتحاد أن تدعو الجمعيات والأحزاب السورية إلى عقد مؤتمر سوري عام في جنيف، مركز عصبة الأمم، عام 1922. ومع عودة رشيد رضا إلى مصر لم تعد المسألة السورية من أولوياته، وقد زامن ذلك انهيار الخلافة العثمانية، ونشوء دولة آل سعود في نجد.

تاريخ اجتماعي لبلاد الشام

نرى في رحلات رشيد رضا إلى بلاد الشام تاريخاً شخصياً عن نشاطاته، لكنها تحتوي على تاريخ اجتماعي حي، حيث يصف عادات استقبال الناس في القرى وتقاليدهم، وكان يصف أي مكان يزوره مثل بلدة القلمون وطرابلس. ولم تتجاهل ملاحظاته القطار الحديدي إلى دمشق، وينقل لنا فرحته بصناعات دمشق وانشراح صدره بها، فهو يلاحظ مهارة العمال في صناعة الفسيفساء في المساجد، ويزور بيت عبد الرحمن باشا يوسف أمير الحج فيلفت نظره جمال أثاث بعض الحجرات وأنها كلها من صنع بلاد الشام، ثم يقول: ونفتخر بصناعات الشام في النسج والحفر والبناء والنجارة والأثاث، حتى القناديل الكهربائية النحاسية فهي من صنع تلك البلاد.

رشيد رضا رجل إصلاح ما إن يزور مدينة حتى يقدم درساً في المسجد، وينتقل بعدها ليؤسس جمعية في البلد ويسعى لإصلاح المدارس بها ويشتغل بالعمل السياسي بجانب تلك الأنشطة. وهو حريص على مقابلة الأعيان والمشايخ، ويصف مثلاً مقابلته مع الشيخ جمال الدين القاسمي ويمدحه، ثم يزور حمص ويلفت نظره أن التعايش بين المسلمين والمسيحيين فيها أفضل من بيروت، والتفاصيل التي يهتم بها رشيد رضا تشبه مذكرات الرحالة عن المدن التي يزورها، وهو يكتبها لقراء مجلتة المنار من أقطار مختلفة فيريد أن يشركهم في كل ما تقع عليه عينه.

رشيد رضا رجل إصلاح ما إن يزور مدينة حتى يقدم درساً في المسجد، وينتقل بعدها ليؤسس جمعية في البلد ويسعى لإصلاح المدارس بها ويشتغل بالعمل السياسي بجانب تلك الأنشطة

في دمشق يصف فندق فيكتوريا وسوء الخدمة فيه، ثم انتقاله لفندق الشرق الملاصق لفندق فيكتوريا مع وصف حالة الفنادق في تلك الفترة، ثم يصف سوء حالة الوضع الاقتصادي في بلاد الشام إبان الحرب العالمية الأولى، وأن دمشق كانت أفضل حالاً لأنها تقع في بحر عظيم من الجنات والبساتين. أما مناطق لبنان والساحل فقد تعرضت لما يشبه المجاعة، ويصف ما وصل له الناس في تلك المناطق خصوصا في قضاء المتن وكسروان، وانتقد إقامة الوجهاء المآدب للولاة وقواد الجيش مثل جمال باشا الذي يذكر مظالمه، وذكر أن رؤساء البلديات كانوا يهتمون بنقل جثث الموتى أو المشرفين على الموت جوعاً من الطرقات حتى لا يراهم جمال باشا أو أنور باشا أو والي بيروت في زياراتهما.

ويصف حال المسلمات في بيروت بأنهن الأشد محافظة على التقاليد القومية من أمثالهن في سائر المدن السورية، بسبب قلة أخذهن بأسباب التغريب وقلة اختلاطهن بالترك. ننقل تلك الملاحظات وهي كثيرة في رحلاته لنذكر اهتمام رشيد رضا برصد مظاهر الحياة في بلاد الشام بداية من الدروس العلمية في المساجد إلى الحالة السياسية والعمرانية إلى الحياة الاجتماعية وملابس النساء، وقد فعل الشيء ذاته عندما دوَّن رحلته إلى إسطنبول وقدم ملاحظات شيقة عنها.

 

حياة حافلة بالأعمال وعصير مخيب للآمال

قد يرى البعض في حياة رضا تحالفات مختلفة وولاءات متباينة، فهو لم يعادِ العثمانيين في البداية، لكن التضييق اضطره لهذا الشعور، ومع الوقت زاد وعيه بخطورة الاستبداد خصوصا مع معرفته بالكواكبي، ثم حاول أن يتعاون مع الشريف حسين في ثورته العربية، وشهد أفول حكم العثمانيين وسقوط دولتهم، ووثَّق وعود الرئيس الأمريكي ويلسون بحق تقرير المصير، وسافر مع وفد المجلس السوري الفلسطيني إلى جنيف ليعرض قضيته على عصبة الأمم ثم لم تكن تلك الوعود إلا أوهاماً ورأى بلاده تقسم بمعاهدة سايكس بيكو بين إنجلترا وفرنسا.

مع الوقت زاد وعيه بخطورة الاستبداد خصوصا مع معرفته بالكواكبي، ثم حاول أن يتعاون مع الشريف حسين في ثورته العربية

رشيد رضا شاهد على لحظة التحول لكنها لم تكن لحظة مبهجة. لقد قدر لرشيد رضا أن يكون المؤرخ اليومي لوقائع دخول غورو إلى دمشق وإقصاء فيصل عنها، ثم اقترب من الدولة الجديدة في نجد، وحاول أن يتعاون مع آل سعود لتحقيق أهدافه. وتوفي رضا وهو عائد من استقبال الأمير سعود أثناء زيارته إلى مصر، في السيارة التي تقله من السويس إلى القاهرة، وروايته كشاهد عيان مهمة عن هذه الفترة المليئة بالتحولات السياسية والتاريخية والاجتماعية.

كلمات مفتاحية