صلاح الدين المنجد: سندباد المخطوطات وعالم دمشق ومؤرخها

2020.11.02 | 23:06 دمشق

unnamed.jpg
+A
حجم الخط
-A

عندما رأيت غلاف كتاب بعنوان "لمحات من تجاربي الفكرية" للدكتور صلاح الدين المنجد (1919-2010) صادر عن دار تراث في القاهرة من تقديم د. محمد متولي، تحمست لقراءته والتعرف إلى عالم هذا المحقق الشهير. والكتاب في الأصل محاضرة ألقاها المنجد عام 62 في لبنان، يحكي فيها عن سيرته الفكرية.

يبدأ صلاح الدين المنجد الحديث عن تجربته بالتعليق على قول باسكال "الأنا مكروهة"، تلك العبارة التي يرددها الناس تظرفاً أو تحذلقاً عندما يحلو لهم الحديث عن النفس ويبدؤون في ذمها، لكن المنجد على العكس من ذلك يرى أن الحديث عن النفس محبب لا بغيض، فالأحاديث الذاتية التي يسمعها من الناس تكشف عن الكثير من أفكار النفس البشرية ويجد فيها الإنسان مجالاً للفائدة والثراء العقلي يستمدهما من تتبع التجارب التي مرت بها كل نفس.

ولد صلاح الدين المنجد عام 1920، في حي القيمرية جنوب المسجد الأموي، لأسرة دمشقية قديمة جمعت فروعها بين التجارة والعلم. وكان عالمنا من الفرع الذي مال إلى العلم، وكان والده عالماً في قراءات القرآن الأربع عشرة، وتتلمذ الفتى على يد الشيخ محمد بهجة البيطار والشاعر الكبير خليل مردم بك، ولعل من أعمق ذكرياته، صورة قديمة في نفسه، يلمح فيها قاعة عريضة في داره، صفّت في جوانبها كتب وكتب، وهو يلمح شيوخاً يزورون دارهم لا يكادون ينقطعون عنها ليل نهار، يدخلون بهدوء وصمت، ويتحدثون في العلم بأدب وصبر.

يحكي لنا كاتبنا أنه لما بلغ البكالوريا، بدأ في دراسة الأدب العربي الذي استهواه وشغله، فراح يحفظ الشعر، وكان لديه رفقة يجتمع معها فيتبارى بإنشاد الشعر، وهو ينبهنا إلى أن الثقافة المصرية كانت هي الطاغية على البلاد العربية قبيل الحرب العالمية الثانية في الأربعينيات، حيث كانت أسماء: الرافعي، وطه حسين، والعقاد، والحكيم، والزيات، وأحمد أمين، وزكي مبارك تطن وتملأ الدنيا، وكانت مجلات المقتطف والرسالة ثم الثقافة، ميادين رحبة لإنتاج هؤلاء، وغيرهم.

تطلع المنجد إلى أن يرى اسمه في مجلة "الرسالة" وما كان أعظمها، إلى جانب أسماء الكبار، وكانت الرسالة تصدر كل سنة عدداً ممتازاً في رأس السنة الهجرية يكتب فيه الكبار في العالم العربي، فراح المنجد قبل شهرين من موعد صدور العدد، يعد مقاله، ويصنعه صناعة، كأنه حداد أو نجار، يكتب المقال عدة مرات ويمزقه ويعيده، ويعود إلى الكتب القديمة ليلتقط لفظاً أو يصطاد معنى، وبذل المنجد كثيراً من الجهد ليرضي ذوق رئيس تحرير الرسالة الزيات، وأرسل إليه المقالة ومرفق معها صورة له، لقد كان ناشئاً لم يقدمه أحد إلى الزيات، ولم يأخذ بيده أحد، وبقي أسبوعين يتقلب على الجمر ينتظر رد الزيات. وذات يوم حمل إليه البريد رسالة من الزيات، يرحب به في مجلة الرسالة، ويعاتبه أنه أرسل صورة لنفسه في شبابه، فقد توقع الزيات من أسلوب المقال أنه كاتب أكبر في العمر.

كان صلاح الدين المنجد في دمشق في فترة الحرب العالمية الثانية، يرى شيوخ المجمع العلمي، الذين يسوءُهم أن ينطلق شاب في الميدان الذي يجولون فيه، وبرغم أن مقالته في الرسالة كانت جواز مرور، فقد أحسّ أن الذين يحتكرون الأدب لم يعترفوا بأنه موجود، وفي ثورة نفسية عارمة رأى أن ينقدهم جميعاً، وهكذا يكون النقد والهجوم عند المبتدئين وسيلة لإثبات الذات، ونشر نقداً للجماعة الأدبية في دمشق في مجلة "المكشوف" اللبنانية، ونشر سلسلة مقالات بعنوان "أعضاء مجمع لكنهم مفلسون".

في عشق دمشق

في عام 1943 أصدر ثلاث مسرحيات صغيرة بعنوان "إبليس يغني"، وفي عام 1944، اتخذ اتجاها جديدا، حيث ترك الأدب إلى حين، وانصرف إلى التاريخ، فقد عيّن رئيسا لديوان مديرية الآثار. استهوته الأعمدة والأحجار والنقوش، ونشأت بينه وبينها ألفة وصداقة، وهكذا أخذ يطوف على كل أثر في دمشق، في العشايا، عندما يخيم الليل، ثم يعود إلى الكتب يبحث عن أصل هذا الأثر ومن صاحبه، وهكذا أخذ يعمق من قراءاته التاريخية، وأخذ يُعنى بالدقائق وبتفاصيل تاريخ دمشق.

كان يطوف بهذه الآثار ساعات بعد ظهر كل يوم، يستقرىء كل أثر ويحدق فيه، وينقل الكتابات القديمة التي تعلوه، فالماضي يضطرك في دمشق إلى أن تحسه وتعيش معه، في كل زقاق ودرب وشارع تلقى مسجداً أو كنيسة أو سبيل ماء، أو مئذنة ذاهبة في السماء، وهذه التجربة جعلته ينشر كتابين: "خطط دمشق" وكتاب "معجم الأماكن الطبوغرافية بدمشق"، وهما من أحب كتب المنجد إلى نفسه، لأنه قضى في تأليفهما شهوراً طويلة، ولقد اهتم بتاريخ دمشق وتحقيق المخطوطات عنها مثل: (فضائل الشام ودمشق، أمراء دمشق في الإسلام، مأساة سقوط دمشق وسقوط الأمويين، والمجلد الأول من كتاب تاريخ دمشق لابن عساكر). ونشر سلسلة عن آثار دمشق مثل بيمارستان نور الدين، وقصر أسعد باشا.

التعرف إلى محمد كرد علي

اضطره عمله الجديد للرجوع إلى المخطوطات القديمة، فصار يتردد إلى دار الكتب الظاهرية حيث آلاف المخطوطات وكان مديرها يوسف العش ثم عمر رضا كحالة، وكان يعرف رئيس المجمع العلمي الأستاذ محمد كرد علي، إذ قام المنجد بنقده على صفحات مجلة الرسالة، بعد إلقاء كرد علي محاضرة في الجامعة السورية بعنوان "مميزات بني أمية" عام 1940، وكان الزيات لا يحب كرد علي فسارع بنشر المقالة، وقد استقبل كرد علي النقد بصدر رحب ودفعه إلى العمل دفعاً، والمنجد يسجل شهادة في حق كرد علي عندما يقول عنه: "لم أعرف في شيوخ المجمع العلمي كلهم رجلاً، خلق ليشجع ويدفع إلى العلم والبحث، مثله، لقد كان أبا النهضة الفكرية في سوريا".

اجتمع كرد علي مع صلاح الدين المنجد وهو شاب، وقال له استفدت من نقدك لي في ثلاث نقاط أما باقي الكلام في المقالة فلا معنى له، ثم قال له: قرأت محاولاتك الأدبية في مسرحية "إبليس يغني" وأرى أن تترك هذا المجال إلى تخصص مختلف، ثم دفعه للاهتمام بدمشق وتاريخها وقال له: "هذه مدينتك دمشق، يحب أن تهتم بتاريخها وعلمائها وكذا، إذا لم تبدؤوا أنتم فمن يفعله، أنا سأموت، يحب أن تهتم أنت وغيرك بهذا الأمر، وأقول لك كما قال لي الشيخ طاهر الجزائري: التراث العربي المخطوط مهمل فاعتنوا به وأحيوه".

لا ينسى صلاح الدين المنجد تشجيع كرد علي له ودفعه إلى العمل على تحقيق كتاب "رسل الملوك" لابن الفراء، وقد استعان المنجد بالرجوع إلى الأستاذ سليم الجندي وكرد علي عندما كانت تعترضه مشكلات في التحقيق، وعندما طبع الكتاب، واطلع عليه كرد علي، أخذ يقبل المنجد وهو فرحان ويردد عبارته المشهورة: "يا عيني عينك، يا عمري عمرك، أنت أحسن من الشيوخ"، واحتفى كرد علي بهذا الكتاب وكتب له رسالة رقيقة بدأها بقوله: إلى ابني الروحي صلاح الدين المنجد. والرسالة مليئة بالمدح والتأثر بنتاج جهد صلاح الدين المنجد في تحقيق الكتاب، حتى إنه قال له "لو كان في مؤلفينا الشباب كثيرون مثلك، لكانت الشام أرقى من مصر"، وظلت الصلة بينهما حيث كان المنجد يزور كرد علي في المجمع العلمي أو في قرية كرد علي جسرين بالغوطة.

في حدود 1949، أخذ المجمع العلمي يفكر في تحقيق "تاريخ مدينة دمشق" لابن عساكر، وهو أضخم تاريخ ألفه إنسان في تراثنا العربي، حيث يصل إلى ثمانين مجلدة، وقام المنجد بتحقيق المجلد الأول منه في سنتين، بل إنه يحكي كيف كان يقضي اليوم كله، والأسبوع كله في البحث عن كلمة أو جملة حرفها الناسخ في المخطوطة.

هكذا اتصل صلاح الدين المنجد بالمخطوطات، والتي كانت خطراً عليه، فالمخطوطات القديمة كالمخدرات إذا اعتادها الإنسان هيهات أن ينجو منها وهو ينسب هذا القول لطه حسين، والمنجد لم يدع فرصة منذ ذلك الحين إلا اغتنمها للاطّلاع على المخطوطات.

الحصول على الدكتوراه والرحلة مع المخطوطات العربية

سافر المنجد إلى باريس ليحصل على الدكتوراه وكانت رسالته عن "النظم الدبلوماسية في الإسلام"، إثر إصداره تاريخ ابن عساكر، وحرص على الاطّلاع على المخطوطات المحفوظة في الناسيونال، رغم انشغاله بالتحضير للدكتوراه في الآداب والحقوق، ثم عندما عاد إلى سوريا أرسلته الحكومة في عام 1954 إلى إسبانيا، ليكتشف مخطوطات الإسكوريال، والأديرة الأخرى، وطاف في الأندلس.

رشحته الحكومة في سوريا في عهد فارس خوري رئيس الوزراء ليكون مديراً لمعهد المخطوطات في جامعة الدول العربية وبقي فيه إلى عام 1961، ويقول عنه "لم تصنع جامعة الدول العربية شيئاً أحسن من إنشاء هذا المعهد"، وكانت تريد من وراء إنشائه جَمْعَ التراث العربي من المخطوطات القديمة، وحاول

لقد غرق صلاح الدين المنجد في الماضي السحيق، وأصبح سندباد المخطوطات بحق، سافر إلى لينينغراد وموسكو، وطشقند وبخارى وسمرقند، وطهران ومشهد، ومكتبات باكستان والهند، ومكتبة الفاتيكان

المعهد تصوير هذه المخطوطات المبعثرة في دول العالم، وعندما بدأ المنجد عمله في المعهد كانت المخطوطات المصورة قرابة ستة آلاف فيلم، وترك المعهد بعد ثماني سنوات، وعدد المخطوطات يقارب الثلاثين ألفاً، وأصدروا مجلة المخطوطات العربية والتي تعنى بشؤون المخطوطات وأخبارها.

لقد غرق صلاح الدين المنجد في الماضي السحيق، وأصبح سندباد المخطوطات بحق، سافر إلى لينينغراد وموسكو، وطشقند وبخارى وسمرقند، وطهران ومشهد، ومكتبات باكستان والهند، ومكتبة الفاتيكان، وجلس في مكتبة (الأمبروزيانا) في ميلانو لمدة شهر ونصف يطلع على المخطوطات العربية فيها، ويضع فهرساً للمخطوطات اليمنية بها.

عاش صلاح الدين المنجد بين الموتى الأحياء، وكم خاطر ليصل إلى مخطوطة، وتكبد المعاناة ليطلع على هذه الكنوز، لقد غامر ليكتشف هذا العالم، وطاف الأديرة والكنائس والمكتبات والمساجد والزوايا، وهبط الأودية، وصعد في الجبال، وألفت كفاه الغبار، وأنفه رائحة الرطوبة، ولم يدع بلداً في أوروبا إلا زاره، حتى روسيا زارها في شتائها المخيف، حتى المخطوطات العربية في أميركا اطلع عليها، عندما دُعي ليكون أستاذاً زائراً في جامعة برنستن. ولقد أثار جمعه للتراث أسئلة كثيرة في رأسه، عن إهمالنا التراث واهتمام الغرب به، وما قيمة هذا التراث، وما موقفنا منه اليوم، وقد أسف لحالة بعض المكتبات في البلاد العربية، حيث رأى بعض المخطوطات مبعثرة وغير مرتبة، وأحيانا ممزقة، قد علاها الغبار، ورتعت فيها العث والديدان، ثم يدخل مكتبة في أوروبا وأميركا فيجد هذا التراث مصاناً ومحفوظاً.

يقدر المنجد حجم المخطوطات ب 3 ملايين كتاب، ويتساءل كيف استطاع العرب أن ينتجوا هذا العدد الضخم، وعن المعجزة العربية التي حدثت لهم بعد الإسلام، وكيف انتشرت المعارف في الحضارة الإسلامية من أقوام كانت ثقافتهم شعرية وشفهية، وهو يشعر بالاحترام والعرفان للمستشرقين الذين اهتموا بكتب التراث ونشروه مثل دي خوية ودوزي.

لقد قامت صلات بينه وبين المستشرقين منذ عام 1944 من خلال رحلاته الطويلة مع المخطوطات، وهو يحترم جهودهم ويشيد بها وينزعج من إلقاء الشباب الشتائم لهم، وهو ينزعج عندما يرى أن الاستشراق يمشي إلى الزوال، مع عدم وجود مؤسسات عربية تكون بديلاً عن دور الاستشراق التقليدي، ونشر كتابا بعنوان "المنتقى من دراسات المستشرقين".

ثقافة متنوعة وإنتاج غزير

ثقافة صلاح الدين المنجد ثقافة متنوعة حيث ضمت مكتبته 30 ألف عنوان، قال في إحدى الندوات إن الأقدمين يصفون الذي يحيط بجميع العلوم، ويأخذ بطرف من كل منها بأنه "عالم مشارك"، وكان يعجبه الاسم، فقد بدأ حياته أديباً، ثم انتقل إلى مجال تحقيق النصوص الأدبية، ثم اهتم بالكتابة السياسية للصحف، عندما انتهى من عمله في معهد المخطوطات العربية، وعاد إلى بيروت مع زوجته السيدة دنيا أخت الصحفي اللبناني كامل مروة مؤسس جريدة الحياة، وأصبح يكتب في جريدة الحياة عموداً صحفياً بعنوان "زاويتي"، وفي بيروت عاش المنجد ليفتح دار نشر باسم "دار الكتاب الجديد" اهتمت بنشر كتب التراث المحققة، وفي بيروت اهتم المنجد بالتعبير عن آرائه السياسية ومواقفه مما يحدث في الدول العربية ونشر عدة كتب مثل :"أعمدة النكبة: بحث علمي في أسباب هزيمة 5 حزيران"، و"التضليل الاشتراكي"، وكتاب "بلشفة الإسلام".

اهتم صلاح الدين المنجد بالكتابة عن النواحي الاجتماعية في التاريخ الإسلامي، مثل كتابه "في قصور الخلفاء"، وكتاب "الظرفاء والشحاذون في بغداد وباريس"، وكتاب "الخلفاء والخلعاء" وكلها كتب تهتم بتفاصيل الحياة الاجتماعية، وكان لديه اهتمام بقصص الحب والغرام مثل مقالاته وهو شاب في مجلة الرسالة والتي جمعها في كتاب بعنوان "نساء عاشقات" أو كتابه "الحياة الجنسية عند العرب". ومن يتصفح مقالاته في مجلة الرسالة وغيرها يجد هذا الشغف لديه، الذي انتقل إلى الاهتمام بالنصوص المحققة مثل تحقيق كتاب "نزهة الجلساء في أشعار النساء" وغيرها من العناوين اللافتة التي تدل على شغفه الأدبي الذي لازمه طوال حياته بجانب عمله بالتحقيق والتراث.

 نختم بقصة عن صلاح الدين المنجد تدل على مروءته وطيب معدنه، عندما تواصل معه فخري البارودي الزعيم السوري والذي نزل في فندق بسيط في بيروت، وفي أحد الليالي اتصل البارودي بالمنجد في الساعة الثانية صباحاً وقال له: الحقني سأموت إن لم تدركني، وعلى الفور توجه المنجد للفندق وهو متعجب أن ينزل البارودي بنزل بسيط، وطلب دكتور قلب ليكون معه، وعندما عرف الدكتور أن هذا هو فخري البارودي الزعيم السوري وعضو الكتلة الوطنية تم نقله إلى المستشفى الذي طلب مالاً ليتم إيداع المريض به، واتصل المنجد بكامل مروة الصحفي اللبناني الذي تدخل وسهّل إجراءات الدخول، وتم إنقاذ حياة فخري البارودي الذي شعر بالدَّين لصلاح الدين المنجد الذي وصل على الفور، وكتب البارودي  ورقة للمنجد وقال له اقرأها لاحقاً وكان فيها:

جزاكَ الله عنّي كلَّ خيرٍ صلاحَ الدين يا إبنَ الكرامِ

 لقد أنقذتَ في الدنيا حياتي أخا العَليا من الموتِ الزؤام

سأدعو الله أن يُبقيكَ ذُخراً لقومك، في الصلاة وفي الصيام

تقبَّلْ يا صلاحُ عميمَ شُكري  وحَمْدي والتحايا، مَعْ سلامِي..

كلمات مفتاحية