icon
التغطية الحية

يوم الأرض.. مرآة الذات الغائبة

2022.03.30 | 10:46 دمشق

يوم الأرض
+A
حجم الخط
-A

يمتزج خيط أحمر خفي في تدرجات لون التراب المتراوح بين البني والأسود من شاطئ البحر إلى ضفة النهر، ومنه تتهيّأ مخيلة راسخة  تربط بشكل بدهي بين التراب والدم وبين الأرض والحياة، وكم يستعصي على كثيرين الفهم إزاء جهد الفلاحين المهدور على أراضيهم لقاء مواسم شحيحة، وصرامة الريفيين في عدم بيعها مهما ضاقت الحال وترديدهم للعبارة المألوفة وكأنها نص مقدس: "الأرض عرض"، والأرض تورث أبناءها أحلاماً صغيرة بعد سنوات الشغف في المدن الكبيرة فيغريهم بيت متواضع وقطعة أرض كافية لعدة أشجار وفسحة لزراعة بعض الخضراوات.

وكان للأرض معنى مختلف في مخيم اليرموك، كتأكيد لذات مهددة بالضياع، فجعلوا لها عيداً جماهيرياً بالمعنى الحرفي للكلمة، ويصح أن نقول عن ذلك اليوم يوم الأنا الفلسطينية، وما لأحد أن يعبأ آنذاك بخلفيات هذا العيد ليقرر المشاركة فيه من عدمها، فيكفي الربط بين فلسطين والأرض ومخيم اليرموك لتبنى سردية منطقية له تبدأ بالبيارة وتنتهي بحق العودة، أما بالرجوع إلى أول الأمر فنجد أن حراك الداخل الفلسطيني (تحت سيطرة الاحتلال) مر بمراحل عديدة مثل حركة الأرض في بداية الستينات وصولاً إلى (سجل أنا عربي) لمحمود درويش، وسميح القاسم الذي يقول في قصيدة (خطاب في سوق البطالة):

ربما تسلبني آخر شبر من ترابي

ربما تطعم للسجن شبابي

ربما تسطو على ميراث جدي ..

من أثاث.. وأوان.. وخراب..

ربما تحرق أشعاري وكتبي

ربما تطعم لحمي للكلابِ

ربما تبقى على قريتنا كابوس رعب

يا عدو الشمس.. لكن.. لن أساوم ..

وإلى آخر نبض في عروقي.. سأقاوم!

 ثم إلى يوم الأرض في 30 من آذار 1976، وكان على رأس الحراك توفيق زياد صاحب (أناديكم)، في ذلك اليوم نجح لأول مرة حراك الداخل الفلسطيني في تغيير قرار الاحتلال بمصادرة واحد وعشرين ألف دونم من الأراضي الفلسطينية، وسقط ستة شهداء من بينهم خديجة شواهنة. منذ ذلك الوقت استبدل الفلسطينيون بزراعة القمح والشعير زراعة الزيتون دلالة على التشبث أكثر بأرضهم، وصارت سياسة الاحتلال حرق أشجار الزيتون، وتعبر عن ذلك الكاتبة والناشرة الفلسطينية بيسان عدوان بقولها:

"لا يمكن النظر إلى التعبير الأدبي والفني والثقافي الفلسطيني بعيداً عن يوم الأرض ورمزيته في التعبير عن الذات الفلسطينية الفردية والجماعية، إذ يذكِّر بوحدة الشعب الفلسطيني، الباقي على أرضه والموزع في المنافي.. وما يميز الأدب والشعر الفلسطيني الكفاحي، أنه يتمحور حول القضية الوطنية الأساسية، وهي حماية وصيانة الأرض والحفاظ عليها، والبقاء في الوطن، فالأرض هي الفلسطيني، والفلسطيني هو الأرض، كما قال محمود درويش:

أنا الأرض

والأرض أنتِ

خديجة لا تغلقي الباب

لا تدخلي في الغياب

سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل

سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل

سنطردهم من هواء الجليل".

***

تنشأ وشيجة التراب كرمزية متصلة باللجوء في حالة الافتراق عن المكان، فيحن السوريون، بعربهم وكردهم، والفلسطينيون إلى الأرض بدلالتها الواسعة

كان آخر احتفال أشارك فيه بعيد الأرض في بلدة ببيلا جنوبي العاصمة دمشق، وكان مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين وقتها تحت سيطرة داعش وتفصله أسابيع قليلة عن الدمار الكامل بالطيران الروسي ومدافع نظام الأسد عام 2018، وبعدها كان التهجير إلى الشمال السوري، وبذلك فقدت حلمي ببيت صغير وقطعة أرض في سهول حوران، وكذلك فقد يبست شجرات الزيتون التي زرعناها هناك أواخر تسعينيات القرن الماضي، أما عن الفلسطيني الذي دُمّرت مخيماته، وابتعد أكثر عن حلمه بالعودة فيقول منسق التجمع الفلسطيني السوري الحر (مصير)، الحقوقي أيمن أبو هاشم:

"كنا نحتفل منذ الطفولة بذكرى يوم الأرض في مخيم حندرات شمالي حلب، ولا أذكر أنني فوّت الاحتفال بهذا اليوم الصاخب برسائل الانتماء إلى الأرض الفلسطينية وعهد العودة إليها طوال حياتي في سوريا. حتى بعد خروجي القسري إلى المنافي الجديدة عشية الثورة السورية، كنت حريصاً على المشاركة بأي فعالية تحيي يوم الأرض مهما كانت محدودة ورمزية، وذلك لخشيتي من أن تطوي المنافي القاسية ما أعتبره بوجه ما حنيناً وتمسكاً في آنٍ معاً بطقسٍ إحيائي فلسطيني يربطني بجذوري وقضيتي ومحطاتها المفصلية.  مع أن تجليات الاحتفاء وزخم المشاركة لم يعد كما عرفناه في الوسط الفلسطيني في سوريا قبل تهجيرنا منها كما حدث في نكبتنا الثانية. ومن المؤلم حقاً أنني وبكل مناسبة وطنية تمر وأنا خارج سوريا سواء أكانت يوم الأرض أو ذكرى النكبة أو غيرهما، تفتح كل منها في روحي جراح وآلام غائرة وجديدة تتعدى معاني تلك المناسبات نفسها إلى مرارة الأسئلة في زمن المنفى عن المسافة التي أبعدتنا عن المخيمات التي زرعت وروت أحلامنا بالعودة إلى فلسطين، وعن فلسطين التي ما زلنا نعاند الأقدار كي تبقى عشقنا الأزلي، فنستعيدها في كل مناسبة كي لا نفقد أنفسنا في متاهات الشتات والضياع والنسيان..".

تنشأ وشيجة التراب كرمزية متصلة باللجوء في حالة الافتراق عن المكان، فيحن السوريون، بعربهم وكردهم، والفلسطينيون إلى الأرض بدلالتها الواسعة، بما تعنيه من تاريخ وربط جغرافي للذاكرة وبيت وهوية وقبر، ومن المثير أن يكون للعروبة في بداية ستينيات القرن الماضي معنيان متناقضان تماماً، فمن حيث سعت لإلغاء الأكراد في سوريا وغيرها، كانت بمنزلة الانتفاضة على الإلغاء الممارس على العرب تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي، وهذا ما أعطى زخماً كبيراً لقصيدة (سجّل أنا عربي)، ومن اللافت أيضاً تشابه السلوك لدى أنظمة عربية والاحتلال الصهيوني، في عمليات التغيير الديموغرافي والتعريب والتهويد والاستملاك والقتل والقمع والتهجير، وهذا يعرّي النظام العربي الحديث كشكل احتلالي يجب التحرر منه، حيث فرض التيارَ العروبي بمعناه القومي الضيق، وليس الثقافي والحضاري الواسع الذي يشكل الأكراد، على سبيل المثال، وغيرهم جزءاً مهماً منه، وبذلك لا يقل الخلاص من شكل النظام أهمية عن الخلاص من رأسه عكس ما يروج البعض، وفي النهاية لننتبه أن يوم الأرض وأثره في تغيير قرار الاحتلال كان ناتجاً عن انتفاض الداخل الفلسطيني، وأذكى جذوة ذلك الداخل وأشخص هويته جملة من شعراء المقاومة فظهرت منه قامات شاهقة في الفكر والسياسة والأدب والفن، الأمر الذي علينا توقعه من الداخل السوري في مناطق السيطرة المتعددة، فتنبغي المكافئة بين (هنا وهناك) والنبش عن الهوية الجامعة التي ضيعتها الأنظمة الديكتاتورية وسنوات الحرب وفرضت نظريات مشوهة عن الهوية.