icon
التغطية الحية

يوماً ما في دوما.. كان هناك عيد وكنا هناك

2022.04.29 | 11:24 دمشق

dsc_8771.jpg
إسطنبول - ولاء عواد
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام من حلول عيد الفطر هذا العام جلست أحدّث ابنتي عن العيد، أشاركها ذكرياتي حوله، هناك في سوريا، البلد الذي لا تعرف شيئاً عنه سوى اسمه، لا أدري لماذا تملّكت ذاكرتي مدينة دوما تحديداً، فعند انتهاء الحديث عن ما "كان"، شردت لساعات أستذكر شوارع المدينة وتفاصيلها، ابتداءً من ليلة وقفة العيد حيث كان شارع الجلاء لا يفرغ من المشترين، حتى ساعات الصباح الأولى، محال الألعاب وخانات صغيرة تحت الجامع الكبير، بالطبع لم يبق منها شيء اليوم، لكنها كانت ساحرة عندما كنت طفلة.

لا عيد يشبه العيد هناك، جميعنا متشابهون بالملابس، البنات بفساتين وأحذية لامعة غالباً ما تتوسطها عقدة سوداء أو بيضاء حسب حالة الأسرة المادية، فالأسر الفقيرة نوعاً ما تفضل الأسود الذي يتم استخدامه للمدرسة بعد العيد، والصبيان كما كنّا نسميهم في أحسن أحوالهم يلبسون بدلةً رسمية مع ربطة عنق، فيما عامّة الشعب منهم يعتمدون بنطلونات الجينز المتينة فهي أيضاً تصلح للاستخدام بعد العيد في المدارس.

بالطبع عندما نتذكر تفاصيل عيدنا كأطفال سوريين لا بدّ لنا من الوقوف مطولاً عند أسئلة عميقة، مثلاً لماذا نفرح بركوب "الحصان" في العيد، وكيف لهذا الحيوان الضخم أن يكون بيننا في الساحات مع طفل يجّره ويأخذ مبلغاً جيداً منا دون أي وسائل حماية! أيضاً كيف كنّا نجتمع عشرة أطفال داخل خيمة مصنوعة من "حرام" صوفيّ في معظم الأوقات لنلعب "الأتاري" وندخل في منافسة شديدة بيننا حول من يختم "لعبة ماريو" أو يفوز في لعبة أخرى، هذا الذي يفوز أو تلك في حالتي لا يدفع شيئاً، هنا كانت المتعة غالباً، ناهيك عن أصابعنا المغطسة بالكمون والحامض، بعد وجبة "ترمس" تحسّن المزاج في أثناء اللعب.

بعض المراجيح هناك كانت تتسع لطفيلن أو ثلاثة بأحسن الأحوال، هذه تحديداً الأشدّ خطورة، فالشاب المسؤول عنها إذا تحمّس فجأة يمكن أن يقلبها لتصبح كالمروحة حرفياً، وأنت حظك، لا وسائل حماية مرة أخرى  ولا هم يحزنون، وللغرابة قلّما كنا نصاب بإصابات خطيرة، في القلّابة اليدوية أو في إحدى هذه المراجيح المريبة.

وأحد أهم هذه الأسئلة تأتي عن وجبات العيد في معظم دمشق ليس في دوما فقط، سندويشات الفلافل، البطاطا المقلية مع كثير من الكاتشب، وإذا كانت العيدية كبيرة و "محرزة" ربما نتجرأ ونطلب بيتزا ونتشاركها في مطعم "إنجوي" الذي دمّره الأسد أيضاً. عودة إلى السؤال كيف لم نتسمم! كل هذه الوجبات على بسطات مكشوفة وبالطبع لا وزارة صحة ولا رقابة ومرّة أخرى ولا هم يحزنون!

كيف كنّا نرى هذه الأجواء الأجمل، واليوم عندما كبرنا وتغرّبنا، وشاهدنا أن الحياة أكثر متعة، والعيد ممكن أن يكون نظيفاً وأدواته أكثر حداثة، لماذا نحِنّ إلى تلك الأيام

سؤالٌ إضافي؛ كيف كنّا نرى هذه الأجواء الأجمل، واليوم عندما كبرنا وتغرّبنا، وشاهدنا أن الحياة أكثر متعة، والعيد ممكن أن يكون نظيفاً وأدواته أكثر حداثة، لماذا نحِنّ إلى تلك الأيام، بل وأحزن على ابنتي التي لم تتح لها فرصة تجربة هذه المغامرات، حروبنا كفتيات صغيرات في قهوة "السرايا" المخصصة للرجال، حديقة الحيوان، أو حديقة  الجلاء، و"دويخة" العروس المرعبة بجانب الأسد الهزيل الجائع، وكثير من الحيوانات الحزينة التي تتلقى كثيراً من طلقات الخرز من مسدسات الأطفال، قبل أن تنتقل إلى مرحلة تلقي وابلاً من الطلقات الحقيقة وقذائف لم تترك منها سوى قطعاً حديدية وأكواماً من الذكريات نتجاوزها لنعيش حاضرنا لكنّها تطرق باب وجداننا في كلّ المناسبات والطقوس، ذكريات فريدة حتى بعبثيتها والفوضى وانعدام أمانها.

750 ألف شخص كانوا في دوما قبل حرب الأسد، مئة ألف فقط شهدوا الحقيقة، هم فقط ربما من يحقّ لهم روايتها وإن اختلفت رؤيتهم، لكننا نحن من كانت جزءاً من طفولتنا وشبابنا ما زالت صورتها تحاصرنا، نخضع هذه الصورة في جلساتنا لمحاكمات منطقية تثبت أننا عندما خرجنا نجونا، لكن العاطفة غالباً ما تتغلّب على المنطق عندما يتعلّق الأمر بمشاعرنا وإدراكنا عندما كنا أطفالاً، لا أدري إن عدنا اليوم إليها كيف سنستقبل أو نفرز كل هذه التفاصيل، العيد والمدرسة والثورة ومظاهراتنا الأولى في شوارعها، أو أين نُسقط مافي خيالنا عنها بعد تدميرها كاملة! وهل نستطيع تحمّل الإجهاد العاطفي المرافق للتذكّر؟ حياتنا قبل أن تنهشها آليات عسكريّة وقذائف وصورايخ من جميع الأشكال والأحجام والأنواع، وحياتنا في مرحلة الخسارات و الوداعات المتتالية، وداع الأماكن والأهل والأصحاب.

ربما تكمن العلة في أننا نضجنا، كبرنا في العمر أولاً وقادتنا التجارب والحياة القاسية التي مررنا بها نحو المنطق دون أن نقرر نحن وبكامل إدراكنا أن نتجه إليه، لم نقرأ الحب وعشناه هناك، ولم نقرأ الحرب إلا انتصارات في كتب التربية القومية، لكننا عشنا هزيمتها، كتبنا الحصار وشهدنا حرق المدن، هذّبنا أحلامنا، وطوّعنا ظروفاً لم تكن لتلين أو تُكسر، ونظّمنا هجمات الحنين في أوائل الربيع ونهايات الصيف، ومع روائح الطعام ومناسبات كـ التي موعدها بعد أيام، نستقبل أعيادنا بأجساد في الحاضر وحواسنا جميعاً هناك في مدننا التي لم نكن نعرف سواها.

كلمات مفتاحية