icon
التغطية الحية

وهمُ الأحجيةِ السورية : أن ننزع قناع "العدو" حد عُري الذات

2021.01.17 | 17:21 دمشق

66379717_429538357643117_7110958712382029824_n.jpg
باريس - عمّار المأمون
+A
حجم الخط
-A

افترضت الثورة في سوريا منذ اندلاعها موقفاً لدى مؤيّديها والفاعلين ضمنها، هذا الموقف أساسه ليس فقط الوقوف بوجه النظام، بل أيضاً نزع القناع -Unmasking، عن كل ما أنتجه وينتجه النظام، هذا الموقف اشتد بسبب ممارسات النظام نفسها لنفي الحقيقة، والتشكيك بكل ما يقال، فلكل حكاية وجهان، ولكل فيلم تفسيران، ولكل تقرير أمني حكايتان، ولكل خبر خلفيتان:  "حقيقة" و"دعائيّة".

 

 هذا الموقف الساخر والسينيكي (الفلسفة التشاؤمية) ضروري دوماً، خصوصاً في ظل إخفاء ماكينة النظام للحكايات، والجهود المضادة، على اختلاف مستويات جديّتها، تجعل كلاً منا يمتلك حكاية حتى لو "قديمة" مختلفة عن تلك الرسميّة والمتبادلة، وينسحب الأمر على حكايات الثورة نفسها، نزع القناع كموقف نقديّ، وجمالي أحياناً، لا يدّعي الحقيقة، بل الإشارة إلى اختلاف مكونات "الحكاية "وخطاب القوّة المطبق عليها، والمثال الأشهر هو حالة فيلم " الآباء والأبناء" لطلال ديركي، هناك الفيلم، وحكاية بديلة مقدمة أيضاً بصيغة فيلم تنزع القناع عنه، وأيضاً هناك المثال/ النكتة الرسميّة فالمتظاهرون رسمياً خرجوا  للدعاء من أجل نزول المطر، لا الاحتجاج ضد النظام.

 

ذكرنا في العنوان "العُري الذاتي" المرتبط بنزع الأقنعة، وهي حالة ترتبط بالمسافة التي نأخذها حينما نقف أمام حكاية أو خبر، هذه المسافة في الحالة السورية ترتبط ليس فقط بالتكذيب، بل بحكاياتنا ذاتها، إلى أيّ حد هي "بدون قناع"، وإلى أي حدّ هي "حقيقيّة"، بمقابل "الكذب" الذي يولده النظام، الافتراض يقول إن هذا الموقف المستمر في "نزع القناع" يؤدّي إلى عُري الذات، وتفكيكها لمقولاتها نفسها وأدواتها، لتبقى أمامنا السخريّة كتقنية للنجاة، وسلاح للدفاع عن هذه الذات التي تفقد في حربها الحكائيّة كل أسلحتها المنطقيّة، خصوصاً أولئك الخاضعين لمسافة نقدية وجغرافيّة، تمنعهم من التماس المباشر مع "الواقع".

 

الأهم، هذه الحكاية وأقنعتها، تركتنا أمام ما يشبه الأحجية المرتبطة بالنظام السوري، أحجية مستحيلة ربما، تترافق مع إيمان ساذج وأحيانا عميق بأن هناك ما لا نعرفه، ولا ننكر ذلك، لكن هذه الأحجية تتركنا أحياناً أمام الفكاهة، وأيضاً اختبار أدواتنا نفسها لـ"فك تشفيرها".

 

نطرح المقاربة السابقة كأسلوب للقراءة، وتوليد افتراضات مختلفة حول ثلاثة "أخبار" جدّية، أنتجها إعلام النظام العام الماضي، هذه "الأخبار" ترتبط بأحداث ووثائق جدّية أيضاً، ومحاولة نزع القناع عن هذه الأخبار على "غرابتها" لا يمكن مواجهته إلا بالسخريّة من الشرط الذي ظهرت ضمنه، دون نفي جديّتها، بل محاولة توليد "حكاية" بديلة، يُذنّب ضمنها النظام وسلطته.

 

لا بد من الإشارة  أيضاً إلى أن هذا الموقف عدمي نوعا ما، ينفي الحيثيات على حساب مركز القوّة وإدانته، ولا نحاول هنا تبرئة النظام من أي شيء، بل اختبار أدوات "نزع القناع"، ومدى صلاحيتها وقدرتها على التوليد، خصوصاً حين نُسائِل الأدوات التي نستخدمها في عملية نزع الأقنعة هذه، ما هي مرجعيتها " شخصيّة، سياسيّة، جماليّة.."، والأهم محاولة فهم هل "الاستثناء" السوري مطبّق على "كل شيء"، أم نحن منقادون بموقف إيديولوجي، أو ببساطة نتمرن على الفكاهة السوداء.

 

لا أسلحة سوريّة في الفضاء

 

وقعت وزارة خارجية النظام السوريّ مُذكرة تفاهم مع الحكومة الروسيّة تتعهد فيها بعدم نشر أسلحة في الفضاء الخارجي، أول ما يلفت الانتباه في هذا "الخبر" الجديّ، هو المفارقة بين كلمتي النظام السوري والفضاء والخارجي. خصوصاً أن محمد فارس، رائد الفضاء السوريّ، هو التجربة الوحيدة التي اقترن فيها اسم سوريا مع الفضاء، وبالطبع برعاية سوفييتيّة.

 

لكن كيف نسخر من هذه المُذكرة، ما هو المختفي وراء هذه الوثيقة، هل هناك براميل قادرة على الحركة في الفضاء الخارجي، خصوصاً أن هذا السلاح السوريّ، أساس حركته الجاذبية الأرضيّة، المعدومة في الفضاء، هل هناك قاعدة إطلاق صواريخ فضائيّة في سوريا.

 

تتعدد المفارقات التي يمكن أن نتهكم أو ننزع عبرها القناع عن هذا الخبر، لكن المرجعيات التي نستخدمها ستتحرك بين تاريخ سوريا، وتاريخ الخيال العلميّ أو التطور التكنولوجي، أو تنويعات عن الإنجازات المستحيلة لبشار الأسد في الفضاء.

 

(أقف) محتاراً أمام هذا الإجراء البيروقراطي، بل ويمكن إطلاق عدد لا نهائي من الشتائم والنكات، التي اختبرنا أو نختبر عبرها قدرتنا على توليد الكوميديا والمفارقات، لكن ربما هناك حكاية سريّة، المخيلة والفضول تدفعني نحو إمكانيات مستحيلة، أو ربما غطاء لصفقة تهريب من نوع ما ترتبط بالفضاء الخارجي.

 

صادرات سوريّة إلى فيتنام

"أكّد رئيس غرفة زراعة دمشق عمر الشالط أن صادرات الغرفة متنوعة، وتتضمن أرجل الدجاج والقطط والكلاب والسلاحف التي تصدّر إلى فيتنام، وجزء منها يصل إلى الصين عبر تهريبه من فيتنام، وهي مطلوبة للأكل"، هذا مطلع الخبر في صحيفة الاقتصادي.

 

الغريب في هذا الخبر هو التهريب من فيتنام إلى الصين، لمَ التهريب إن كانت علاقات الصين مع سورية طبيعيّة؟ هل هي شركة مسؤولة عن التهريب، أو جماعة سريّة؟ وهل تهرّب هذه القطط والكلاب حيّةً أم ميتة؟ الأهم، من أين يتم الحصول على الكلاب والقطط في سوريا؟ هل يتم تربيتها في مزارع خاصة؟ أم يتم اختطافها وبيعها؟ خصوصاً أن فيتنام تستهلك 30 مليون كلب في العام، فما هي حصة سوريا في هذا السوق؟

 

لا أعلم ما يمكن توظيفه من تكتيكات لشرح الفساد الاقتصادي في سوريا، وانتهاكات حقوق الحيوان والإنسان في سوريا، لكن لا بد من الإشارة إلى السخرية التي قوبل بها هذا التصريح، لكن هذا لا ينفي إمكانية حدوثه، لكن أستذكر، في فيلم عمر أميرلاي الدجاج المنتج عام 1977، يشرح أحد مربي الدجاج أن الدجاجة تنفجر حين تبيض بيضة بصفارين، والسبب أنها لا تحتمل ذلك، فتنفجر كلياً.

 

يمكن توظيف سياسات الفناء، للقول إن النظام السوريّ عدميّ، يحول كل الموضوعات تحت سيادته "بشر، حيوانات ، أرض"  إلى موضوعات فانية، غير قادرة على التكاثر أو إنتاج الأشباه، بمجرد ظهور "الحياة" توضع فوراً على طريق الفناء، إما للربح أو لمجرد الموت كدرس تأديبي.

 

أننا ننساق وراء لعبة "اللا حقيقة" هذه لجاذبيتها، هي تمرين للمخيلة والذاكرة،  لكنها تجعل من "النظام السوري" أحجية لا بدّ من حلها، كلمات و حكايات مشفّرة لا نستطيع التمييز بين الواقعي والكاذب منها، وهي بالضبط ما يستفيد منه النظام على المستوى الثقافي، أن نغرق في أحجيته المفترضة، مُتناسين فحش عنفه.

لكن أي أثر يمكن أن تتركه هذه السخريّة أو التفسير الجدّي، ليس على "سوريا" بل علينا نحن، الساخرين الجدّيين والهزليين،  كم مقدار الأدوات والرصد المراقبة التي يجب توظيفها لنتمكن من "كشف القناع" عن كل خبر وتفصيل من هذا النوع الخطير؟ إننا ننساق وراء لعبة "اللا حقيقة" هذه لجاذبيتها، هي تمرين للمخيلة والذاكرة،  لكنها تجعل من "النظام السوري" أحجية لا بدّ من حلها، كلمات وحكايات مشفّرة لا نستطيع التمييز بين الواقعي والكاذب منها، وهي بالضبط ما يستفيد منه النظام على المستوى الثقافي، أن نغرق في أحجيته المفترضة، مُتناسين فحش عنفه.

 

ملاحظة: صحح الشالط تصريحه لاحقاً، بقوله إنها تصدّر للزينة، لا للأكل.

 

180 حصاة في مثانة "أحدهم"

 

سيلفي لمجموعة من الأطباء مع قطرميز صغير يحوي 180 حصاة استخرجت من مثانة مريض، هكذا تم تداول الخبر على وسائل التواصل الاجتماعي، إذ تمت العمليّة في مشفى الأسد الجامعي بنجاح، ونقرأ في الخبر:" المريض كان يشكو من أعراض ضخامة بروستات حميدة لسنوات دون علاج ناجح، أدت إلى وجود ثمالة بولية كبيرة مما أهب لتشكل حصيات في المثانة".

 

يُمكن هنا استدعاء الجسد الغروتسيك، ذاك المُنتفخ، المشوّه، ذو المحتويات المرعبة، ويمكن أيضاً استدعاء تردي شروط الحياة التي أدت إلى تدهور حالة المريض الصحيّة بهذا الشكل، وسوء النظام الصحيّ في سوريا.

 

المفارقة هي أن "السيلفي" مأخوذة في غرفة العمليات، صاحبتها بلا كمامة، وباقي الأطباء بالكمامة، صحيح وجه المريض مشفّر واسمه مُغفَلْ، لكن هناك ما يثير الاستغراب، ليس لأن الصورة غير عاديّة وغير متكررة، لكنْ هناك ومضات من الذاكرة تلتمع في حين نتذكر السياق، صورة الطبيب في سوريّة مشوّشة، والمشافي ذاتها تثير الحفيظة بسبب ما شهدته من عنف أثناء الثورة السوريّة.

 

وهنا نطرح سؤالا عن الموقف والمسافة التي يمكن أخذها حين قراءة هذا خبر، نحن أمام إنجاز طبّي فعلياً، وهناك مريض تحسّنت حياته، لكن هل نتهكم أو نسخر، خصوصاً أن الخبر يشير إلى إمكانية دخول هذا المريض موسوعة جينيس، الأهم، هل نحن مطالبون بـ"نزع القناع" عن هذا الخبر؟ وهل يكفي بشكله هذا وحيثياته لنرصد المستوى الطبي في سوريا؟ أم نترك الأمر للمخيّلة التي يمكن أن تسعفنا بالكثير من الاحتمالات حول كيفية تطور حالة المريض إلى هذا الشكل!

 

حاشيّة

كمّ الأسئلة المطروحة في هذا المقال مزعج، احتمالات متعددة و حذلقات دون أي موقف واضح، لكن ما أظن أنّ الذي يجمع بينها هو "السخريّة"، ذاك اللاتصديق العميق والشكّ بكل ما نـ(أ)ـقرأه، هناك عدميّة تُشكك بكل أشكال التمثيل الجديّة وغير الجديّة، في نفس الوقت الوعي بهذا الشك يدفع لمساءلة الأدوات التي نستخدمها لإنتاج البديل أو نزع القناع عن الأصل، وهنا بدقة يظهر العُري، إن كانت الأداة مُسيّسة وموضوع استخدامها مُسيّس، أو ذو أبعاد ثقافيّة، تبدو السخريّة والسينيكيّة واستعراض "الحقائق" و"نقضها" هدماً للذات أكثر منه تعميراً لها، وكشفاً لمكوناتها المشبّعة بهذه اللاحقائق وأنصاف الحقائق، التي كوّنت متخيّلنا عن ذاتنا دون "نظام الأسد" ودون "حكاياته".

 

الأهمّ على المستوى اليوميّ وذاك الفكريّ هناك دوماً شعور بأن ما نعرفه عن سوريا ليس بهذا الشكل، هناك ما هو خفيّ لا بد من كشفه، كل ما يظهر هو جزء من أحجية، شيفرة ما بحاجة لفكها لنفهم الشموليّة وأثرها على جوانب الحياة، هذا الوهم بالأحجية، يجعل النظام السوري كالسفينكس ذي الحزورة التي إن حلت مات الطائر الأسطوري، لكن المأساة، أن جواب الأحجية الذي ينطقه أوديب، ينتهي بموته الذاتي، وتهجيره من أرضه.

 

كلمات مفتاحية