وما أدراكَ ما الصُحف؟

2019.03.28 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في السنوات الأخيرة من عقد التسعينيات من القرن الماضي، سمحت السلطات الأمنية لدى نظام الأسد، بإدخال بعض الصحف المحلية( البعث – تشرين – الثورة )، إلى سجن تدمر العسكري. أمّا الطريقة التي اتّبعت في إيصال هذه الصحف إلى المعتقلين، فكانت غاية في (التقطير) كما يقال، حيث يؤتى بنسخة واحدة من إحدى الصحف المذكورة، وتُعطى للمهجع رقم (1) مثلاً، وفي اليوم التالي، تُؤخذ من المهجع (1)، وتُعطى للمهجع الذي يليه وهكذا، وحين تصل الجريدة إلى آخر مهجع، يكون قد مضى على صدورها أيام وأيام.

وعلى الرغم من تدوير الجريدة على عشرات المهاجع، وبالتالي، مئات أو آلاف الأيدي، فإنها يجب أن تبقى سليمة، ومحتفظة بصفحاتها وطياتها كما لو كانت قد صدرت للتو، هكذا كانت تعليمات السجان، والويل، كل الويل، إن تمزقت إحدى صفحاتها، أو أصابها تلوّث ما، أو بدت عليها مظاهر التلف، فحينئذٍ، سيطول العقاب الشديد رئيس المهجع، أو عدداً آخر، أو ربما جميع المهجع، وذلك وفقاً لتقديرات السجان في تحديد مسوؤلية المتهمين.

على الرغم من تدوير الجريدة على عشرات المهاجع، وبالتالي، مئات أو آلاف الأيدي، فإنها يجب أن تبقى سليمة، ومحتفظة بصفحاتها وطياتها كما لو كانت قد صدرت للتو

لعلّنا لسنا بحاجة إلى الحديث عما تتضمنه تلك الصحف من محتوى، إلّا أن وصولها إلى معتقلي تدمر – آنذاك - كان يجسّد نقلةً نوعية لدى السجناء، وذلك قياساً إلى حالة الحرمان الكامل المفروضة عليهم ، من أي وسيلة تمكّنهم من التعرف إلى ما يجري خارج أسوار السجن.

حين تُفتَحُ الأبواب صباحاً، تتشابك ثلاثة أمور في مخيلة السجناء وفي نفوسهم معاً، والتناقض بين الأمور الثلاثة أصبح حالة اعتيادية مع مرور الأيام، إذْ في اللحظة التي يدير فيها السجان المفتاح بالباب، يكون قد وقف خلف الباب مجموعتان من السجناء، الأولى تُدعى مجموعة (السخرة)، والتي تقوم بإدخال الطعام المُلقى أمام المهجع، وعليها أن تقوم بمهامها بسرعة فائقة ودون ارتباك يؤدي إلى إبقاء شيء من الطعام أمام الباب، لعل الجانب الأكثر خطورة فيما تقوم به هذه المجموعة، هو وجود عدد من السجانين أمام الباب، مزوّدين بهراوات أو كابلات كاوتشوك، يقومون بضرب عناصر مجموعة السخرة بقوة، ويتوجب على من يكون أحد عناصر هذه المجموعة، أن يكون قادراً على احتمال الضربات أثناء القيام بمهمته، دون أن يفلت من يده الإناء الذي يحمله، وهو عادة ما يكون إناءً بلاستيكياً مفلطحاً مملوءاً بالشاي الممتزج بشتى الحشرات الطائرة، وأعقاب السجائر التي يرميها فيه عناصر الشرطة العسكرية، مَنْ يحمل إناء (جاط) الشاي هو الأكثر عُرضةً للخطر، لأن عليه أن يتلقى الركلات من الخلف والهراوات على الظهر والرأس، مع المحافظة – في الوقت ذاته – على الإمساك بحمولة الشاي بقوة دون أن تتراشق منها أي قطرة خارج الإناء، وإنْ حدث وخذلته قواه، أو تعثر، فوقع، قبل الدخول إلى المهجع، فعندئذٍ يناله عقاب مضاعف، وفي أحيان كثيرة يوضع في الدولاب، لأنه ارتكب مخالفةً، وهي التفريط بالطعام الذي تقدمه الدولة للسجناء.

أمّا المجموعة الثانية، فتُدعى مجموعة (المُعَلَّمين)، وهم الذين تم إبلاغهم خلال الليل بأنهم سيُعاقبون صباحاً، لأنهم – وفقاً للسجان الذي يراقب السجناء النيام خلال الليل من فتحة في منتصف السقف (الشرّاقة) – قد ارتكبوا مخالفات تستوجب العقاب، من جملة هذه المخالفات، التقلّب يميناً أو شمالاً  أثناء النوم، إصدار الشخير، تغطية الرأس في الشتاء، الذهاب إلى دورة المياه لقضاء الحاجة، انزياح عصبة العينين (الطماشة)، أو القيام بأي حركة لا إرادية أثناء النوم، ...إلخ، هؤلاء المُعَلَّمون، عادةً ما يكونون هم الأكثر توتراً وقلقاً، وما يزيدهم إنهاكاً هو فترة حرْق الأعصاب التي يعيشونها منذ لحظة إبلاغهم بالعقوبة ليلاً، إلى لحظة تنفيذ العقاب، وكما يقال: انتظار العقاب أصعب بكثير من العقاب ذاته، وخاصة أن العقوبة غالباً ما تكون مفتوحة الاحتمالات،مجهولاً سقفُها.

بعد إدخال الطعام ينادي السجان المُعَلَّمين للخروج والامتثال للعقاب، وبعد إتمام المهمّة، تُحشَر المجموعتان داخل المهجع، ويُغلق الباب، وتسود حالةٌ من الصمت

بعد إدخال الطعام ينادي السجان المُعَلَّمين للخروج والامتثال للعقاب، وبعد إتمام المهمّة، تُحشَر المجموعتان داخل المهجع، ويُغلق الباب، وتسود حالةٌ من الصمت، تمتدّ لبضع دقائق، تتداخل فيها ثلاثة مشاعر متناقضة لدى كافة السجناء في المهجع، الشعور الأول هو التعاطف الممزوج بالقهر حيال الأشخاص الذين طالهم التعذيب للتوّ، وأجسادهم تتلوّى على الأرض، وأنت لا تملك حيلةً تواجه بها أوجاعهم وآهاتهم سوى استنفار الوجع المعشعش في خلايا روحك، والثاني هو حاجة الجميع إلى تناول الطعام الذي لا تحيا الأجساد من دونه، والثالث هو اللهفة العارمة لقراءة العدد الجديد من الجريدة.

هذه الحالة من المشاعر المتشعبة والمتناقضة لم تعد – مع مرور الأيام – حالة استثنائية، بل أضحت طقساً نمطياً لدى السجناء، ما يزيد من نمطيته، هو تزامن في السلوك البشري المُدهش لدى السجناء، قلّ أن يتحقق خارج السجن، وتجاورٌ في الرغبات المتناقضة، التي يندر أن تقبل التعايش بعضَها مع بعض خارج النفوس المقهورة.

باتت الرغبة في الاطّلاع على مضمون الجريدة الجديدة بعد الانتهاء من وجبة العقاب الصباحية مباشرة، وقبل تناول الطعام، محطّ إجماع معظم السجناء في المهجع، ونظراً للعدد الكبير من السجناء والرغبة العارمة لدى الجميع بالقراءة وعدم الانتظار، اقترح بعضهم، أن يتولى أحد السجناء قراءة الجريدة بصوت عالٍ، ويتحلق البقية حوله منصتين، وبعد أن ينتهي من قراءة أبرز محتوياتها، يمكن – بعدئذٍ – أن يتم توزيع صفحاتها بالتناوب بين السجناء، حيث يتاح لكل شخص أن تمكث الجريدة بين يديه لفترة زمنية يتفق عليها الجميع.

باتت الرغبة في الاطّلاع على مضمون الجريدة الجديدة بعد الانتهاء من وجبة العقاب الصباحية مباشرة، وقبل تناول الطعام، محطّ إجماع معظم السجناء في المهجع

دخول الصحف الصادرة عن المؤسسات الإعلامية لنظام الأسد، على الرغم من تفاهتها ومن مضمونها الاستفزازي الجارح لنفوس السجناء، وكذلك على الرغم من الطقوس المؤلمة التي كانت توازي حضورها داخل السجن، فإنها أوجدت شيئاً مُستَجدّاً لدى السجناء، ربما يكون من المُتعذّر الحديث عن المدلولات النفسية لهذا المستجد، في هذا السياق، ولكن يمكن الإشارة إلى بعض مظاهره، إذْ بات من المألوف أن ترى أحد السجناء، وقد نهض قبل دقائق من تحت سياط السجان، وقدماه متورمتان لا يمكنه الوقوف عليهما، ولكنه في الوقت ذاته يحرص على مغالبة الألم، ويكتم آهاته، مُنصِتاً باهتمام إلى قراءة الجريدة.

وربما ترى أحدهم يعيد قراءة الصفحة عشرات المرات، ولا يملّ من تكرار قراءة العناوين العريضة، ليس لاهتمامه بمضمون ما يقرأ، ولكن – فقط – لأنه لم ير ورقة مكتوباً عليها، ولم يمارس القراءة منذ تاريخ اعتقاله، أي منذ عشرين عاماً.

في عام 2017، وعلى إحدى القنوات الفضائية الشهيرة، وخلال برنامج يتحدث عن الاعتقال في سوريا، يسأل المذيع أحد معتقلي سجن تدمر، مُشكّكا بما كان يجري داخل السجن: لقد سمعت من السلطات السورية أنها كانت تؤمّن لكم الصحف وأنتم داخل السجن، وهذا يدل على درجة حسنة من المعاملة ؟

أجابه السجين : نعم، لقد كنا نقرأ الصحف، ولكن ليس بصحبة فنجان القهوة كما تتخيّل. بل ثمة طقسٌ آخر.