وحدهم المنفيون من يعبرون الحدود

2023.07.17 | 05:09 دمشق

وحدهم المنفيون من يعبرون الحدود
+A
حجم الخط
-A

"فلأجدف إذن

ليل نهار

و لتسمعني آلهتي وتموت من الغيظ

ما دمت لن أحظى، ولو في المنام بمركب يحملني إلى بانياس

والأرجح أن أموت هنا، وأدفن في جوار السور الأحمق

ولا أرى سوريا".

موت الروائي ميلان كونديرا، في المنفى، وبعيدا عن وطنه، جعلني أستحضر بشكل عفوي ما قاله الشاعر الدمشقي نوري الجراح، في كتابه سيرناد شرقية، وكأن قدر أصحاب الكلمة أن يهيموا، حاملين معهم أسئلتهم، من الوجود والحرية، وأن تترجم أفكارُهم إلى نصوص وقصائد، وربما روايات، وسينما وغناء وموسيقى، فإلى أي درجة ينعكس لون الزمن على الفن والأدب والحياة، الزمن الذي يلفُ الأشياء والعواطف والأمكنة، والذي يدخل في مجمل حياتنا، فهل ثمة قرابة بين الفكر والفلسفة والأدب؟

لا شك فإن القرابة الإنسانية، بين الفنون والفلسفة، تبدأ من سؤال الأنا، والحرية، والمنفى، والتي نشمها في الحياة والأدب، والغناء وصوت الهمهمات، وإذا ما أردنا أن نعرف "حقيقة" التجربة الوجودية لأمة من الأمم، أي الكيف الذي فهمت به وجودها وكابدته فالذي يقدم لنا هذا هو أدبها.

لهذا نفهم الطبيعة التراجيدية كما صورها الشعر والرواية، وهنا أستحضر ما قاله الروائي العالمي ميلانا كونديرا والذي مات في المنفى بعيدا عن التشيك منذ أيام، بأن: "العالم الشمولي، سواء أُسِّس على فكر ماركس، أو الإسلام أو أي شيء آخر، هو عالم من الإجابات وليس الأسئلة".

كونديرا، الذي رحل في منفاهُ الاختياري باريس، هذا الكاتب الذي شهد ربيع براغ عام 1968، وعرف معنى هزيمته، وحقيقة الأنظمة الشمولية.

وما بين ربيع براغ، والربيع العربي، عقود من الزمن، وصور تبدأ بتحريم السؤال، لنسير مع قطيع اليقين البشري، صور من الاستلاب، صور المنافي والحروب، أمام هيمنة الأنظمة الشمولية، وربما أكثر، هيمنة أنظمة الطوائف والمافيات، وتجار الحروب.

الكتابة تسافر، ويسافر معها الكاتب، الذي يسكن المكتبات، والذاكرة، ويتحوّل إلى قيم تسكننا، وبالتالي يتحوّل الأدب إلى صوت، وسينما، من هنا ندرك أهمية الكتابة في مواجهة حرب الإبادة التي يشنها المستبد

كونديرا، أحد أهم الروائيين في العالم، والذي أثر في مخيلتنا وذاكرتنا، بل ودلّنا مبكرا على أن صراع الإنسان مع السلطة، هو في حقيقته صراع ضد محو الذاكرة، صراع ضد النسيان، صراع من أجل فتح باب الأسئلة، على معنى الوطن، والمواطن، والحروب ومن يقف وراءها، فيكفي أن تقرأ (كتاب الضحك والنسيان)، و(خفة الكائن التي لا تحتمل)، وأن تدرك بأن الكتابة هي أن ترفع جدارا هدم.

الكتابة تسافر، ويسافر معها الكاتب، الذي يسكن المكتبات، والذاكرة، ويتحوّل إلى قيم تسكننا، وبالتالي يتحوّل الأدب إلى صوت، وسينما، من هنا ندرك أهمية الكتابة في مواجهة حرب الإبادة التي يشنها المستبد، لهذا ليس عبثا أن تتحول أهم الروايات إلى سينما كما حدث في (خفة الكائن التي لا تحتمل)، فيلم ملحمي من بطولة النجم المبدع، دانييل داي لويس وإخراج فيليب كوفمان.

في هذا السياق، وبإطلالة سريعة على المشرق العربي، الذي تتسع فيه الحروب، نجد أن عبد الرحمن منيف صاحب (مدن الملح) و(شرق المتوسط)، مات غريبا، ونرى أن سليم بركات الشاعر الروائي السوري الكردي، يواصل حياة المنفى، مضى من دمشق إلى بيروت، ومن ثم قبرص، فالسويد، هجرات متتابعة، وهو الذي كتب (سبايا سنجار)، واستطاع رسم صورة الدمار والأسر، وما تعرض له الإيزيديون، خاصة من النساء على أيدي عناصر داعش، تنظيم الدولة الإسلامية، وبالتأكيد فهو يدين الأنظمة بما وصلنا إليه.

تتداخل الفنون في النص الروائي، بين التشكيل والأدب، فيتحوّل الروائي إلى رسام، للمخطوفين والمفقودين، ففي "فقهاء الظلام"، يحكي بطل الرواية الرسام التشكيلي سارات، عن يومياته، وهو المسكون بالحنين، منذ مغادرته وطنه في سبعينيات القرن الماضي، وبقيت الكتابة طريقا نحو الوطن، خاصة بعد الثورة التي حوّلت إلى حربٍ شرسة، حرب النظام على الشعب والمدن، وحرب من دخل من عصابات متطرفة، حتى تحوّل المشهد إلى حطام.

الغياب سيد المشهد، غياب أصحاب الكلمة عن الوطن، بل تغييبهم ونفيهم، وهو ما يحدث للنخب السورية في الإعلام والصحافة وعالم الشعر والكتابة، والفن التشكيلي والنحت، وهذا عاشه كونديرا، صوت ربيع براغ، منذ عام 1979، إذ سُحبت منه الجنسية التشيكوسلوفاكية، ومنعت أعماله من الدخول إلى البلاد، منذ نشر رواية "المزحة" عام 1967، التي انتقد فيها الحزب الشيوعي الحاكم في بلده.

ويبدو أن الحفر في بنية الأنظمة الشمولية، سمة من سمات كتابة كونديرا، بدءا من "خفة الكائن التي لا تحتمل"، وحتى «الحياة في مكان آخر» (1973) الذي ظهر فيه مفهوم الكيتش، والشعارات الجوفاء، يدخل كونديرا تأملاته حول الثقل والخفة في جوهر أعماله وشخصياته التي تشبهنا في الأحلام والحب والانزياحات والمنافي.

فهل نقول جحيمك فيك فلا تنتظر جنة، هكذا يرن الكلام بالصهيل، ومثل شمس الغروب الكلمة تضيء الجمال، وتضيء على الموت أيضا.

المنفى هذا التيه المتغلغل بحجارة الطريق، أيها المتسكع، وحدها الكتابة صوت الصمت، صوت من مروا، صوت القراءة، المنفيون وحدهم من يعبرون الحدود، ويحطمون حواجز الفكر والتجربة، بعد أن باتت الأوطان مسبقة الصنع

يا للقراءة.. حين تأخذنا إلى مطلق الشعر، وأسئلة الوجود، هذا الفراغ الصافع، وهذا الصمت المريب.

يا لهول الوجود، يا لجمال النص حين يتسكع. بين الموسيقى، وأسئلة الفلسفة، والرواية، لقد تبقعت روحي وثيابي بغبار المنفى، خطواتي وظلالي، أكاد أسمع صوت همهمات الريح.

المنفى هذا التيه المتغلغل بحجارة الطريق، أيها المتسكع، وحدها الكتابة صوت الصمت، صوت من مروا، صوت القراءة، المنفيون وحدهم من يعبرون الحدود، ويحطمون حواجز الفكر والتجربة، بعد أن باتت الأوطان مسبقة الصنع.

أيها المتسكع، أيها المنفي، من المؤكد أنك قرأت نيتشه الذي أكد مرارا أنه لايثق بفكرة الطير الجالس، هكذا تفتح فضاءات في العزلة.. فتغدو كوكبا.

ياله من عالم رائع

ونحنُ لانخاف الألم.