وجه الشيطان

2019.06.19 | 00:06 دمشق

ثمّة مشاريع كبرى واضحة المعالم في المنطقة مع غياب للمشروع العربي غيابا محزنا ومثيراً للشفقة. إنّ حال الدول العربيّة لا يسرّ الخاطر، خاطرنا نحن أبناء هذه المنطقة، فهي أشباه دول إن صحّ التعبير أو كما سمّاها عبد الرحمن منيف في رواية "مدن الملح"، فأهمّ عنصر من العناصر المشكّلة للدولة أي "الشعب" غير موجود في كلّ منطقتنا العربيّة، فالشعب مغيّب تماماً ولا قيمة لرأيه ولا لمصالحه، بل على العكس من ذلك تَعدُّه أنظمة الحكم العربيّة عدوّها الأول، وهذا ما عايشناه معايشة صارخة وقاسية لدرجة لا توصف منذ أحرق البوعزيزي ورقة التوت الأخيرة عن هذه الأنظمة قبل أن يحرق جسده. لا تستطيع الديكتاتوريّات أن تبني أوطاناً فما بالنا ببناء مشاريع عابرة للأوطان، إنه المستحيل بحدّ ذاته!

 تحجّمت طموحات تركيا ومشروعها للتمدّد الناعم في المنطقة بعد أن غرقت في مستنقع الصراع السوري بالتدريج. ثمّة ملفات بعينها شكّلت تحدياً خطيراً للسياسة التركية في المنطقة أوّلها ملفّ اللاجئين وثانيها الملف الكردي، ولا يقلل ذلك بالطّبع من أهميّة العلاقة التركية الإيرانية القائمة على الشراكة والتنافس وكذلك العلاقة المتأرجحة مع أميركا وحلف الناتو وروسيا.

 لقد عملت تركيا على ملف اللاجئين بما يخدم مصالحها بالدرجة الأولى واستثمرت فيه كثيراً مع أوروبا خاصّة، ورغم أنّها راعت بعض مصالح السوريين الثائرين على سلطة الأسد والهاربين من جحيم حربه عليهم، فإن تركيزها كان على الاستفادة من هذا الملف بكل الطرق الممكنة واستخدامه كورقة ضغط سياسيّة، وهذا ما رأيناه عندما فتحت أبوابها أمام سيل اللاجئين السوريين والعراقيين وغيرهم ممن عبروا من أراضيها إلى أوروبا.

أمّا الملفّ الكرديّ فقد شكّل وما يزال أكبر تحدّ للدولة التركيّة بكلّ مكوناتها السياسيّة، سواءٌ أتلك التي تقود دفّة الحكم أم تلك

كان التمدّد الإيراني في دول الجوار مثيراً للاستغراب، خاصّة لجهة السهولة الكبيرة التي كانت تتحرّك بها قوّاتها والميليشيات المدعومة منها في معظم دول المنطقة

التي في صفوف المعارضة، فالمسألة لا تتعلّق بنظام الحكم أو بحزب دون غيره بل بالصراع الذي يراه الطرفان - الكردي والتركي – تناحريا بينهما ولا مجال فيه لوجود أحدهما بوجود الآخر. وفي هذا الملفّ تدخل حسابات أميركا وروسيا وإيران وبعض دول الخليج وإسرائيل، وهذه من أكبر الأسباب التي تعقّد هذا الملف وتجعله بمنزلة نقطة استنزاف دائمة للأتراك.

بالمقابل كان التمدّد الإيراني في دول الجوار مثيراً للاستغراب، خاصّة لجهة السهولة الكبيرة التي كانت تتحرّك بها قوّاتها والميليشيات المدعومة منها في معظم دول المنطقة، ورغم الشجب اللفظي من أميركا وإسرائيل فإنّه لم يتحوّل إلى موقف عمليّ إلا مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى سدّة الرئاسة وطرحه بنوده الاثني عشر لتغيير سلوك النظام الإيراني والذي ترافق مع بعض الضربات الإسرائيلية للقوات الإيرانيّة وللمليشيات التابعة لها في سوريا.

يحتاج هذا الأمر إلى دراسة مُعمّقة قبل تقرير مدى توافقه مع مصالح أميركا وإسرائيل في هذه المنطقة. إنّ نظرية المؤامرة ليست مناسبة لتحليل تشابك العلاقات الدولية وتفسير الصراعات الإقليمية، فليس من المنطق في شيء تفسير استحواذ إيران على العراق باتّفاق خفيّ بينها وبين أميركا أو بينها وبين إسرائيل، إنّ في ذلك استخفافاً بعقول الناس من جهة وتبسيطاً ساذجاً لطبيعة العلاقات بين الدول وتناقض مصالحها من جهة ثانية، وينطبق الأمر ذاته على تمدّد النفوذ الإيراني في اليمن ولبنان وسوريا وغيرها من الدول العربيّة وحتى الإفريقية والآسيويّة الأخرى.

منذ أيّام قليلة فقط نشرت مجلّة "فورين بوليسي" الأميركية على موقعها الإلكتروني تحقيقاً موسّعاً قام بإعداده "ماثيو ليفيت" مدير برنامج شتين بمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى حول أنشطة حزب الله الإرهابي في القارّة الأميركيّة، ولم يكن هذا الأمر غائباً عن بال الاستخبارات الأميركيّة بكل تأكيد، لكنّ نتائج التحقيق مع كلّ من علي الكوراني وسامر الدبيك وهما من إحدى خلايا حزب الله فرضت إعادة تقييم نشاط هذا الحزب الإرهابي في كلّ القارّة الأميركيّة، فقد ثبت أنّ هذا الحزب يسعى إلى جمع معلومات عن مراكز عسكرية وأمنيّة أميركية وعن مطارات وغيرها من المنشآت الحيوية، كما أنه يحاول شراء أسلحة لاستخدامها عند الحاجة أو عند الطلب إليه من مشغّله الأساسي في طهران، فالحزب لديه مجال واسع للعمل من فانكوفر حتى ميامي حسب ما ورد في هذا التحقيق.

في هذا السياق أيضاَ قال مساعد المدّعي العام الأميركي للأمن القومي جون ديمرز قبل أيام:

" أثناء وجوده في الولايات المتحدة انخرط علي الكوراني كعميل نشط في حزب الله لمساعدة المنظّمة الإرهابيّة الأجنبيّة على الإعداد لهجمات مستقبليّة محتملة ضدّ الولايات المتّحدة، وشملت المهام التي قام بتنفيذها رصد ومراقبة بنايات تضمّ مكتب التحقيقات الفيدرالي والمكتب الأميركي للخدمات السرّية في مانهاتن، بالإضافة إلى مطار جون كنيدي الدولي في نيويورك، وترسانة تابعة للجيش الأميركي".

ليس من المطلوب إثبات تبعيّة حزب الله لإيران، فهذه الجزئيّة صرّح بها الأمين العام للحزب حسن نصر الله علناً على شاشات التلفزة وأكثر من مرّة، وكذلك صرّح بها قادة إيران من رأس الهرم المتمثّل بالخامنئي وصولاً إلى قادة عاديين في الحرس الثوري الإيراني.

لا يمكن القول بكلّ الثقة إنّ حزب الله ومن خلفه إيران على علاقة ودّ وتحالف مع أميركا وإسرائيل، فالأميركيون لم ينسوا ولن ينسوا قتلاهم الـ 241 من مشاة البحريّة الأميركيّة (المارينز) في بيروت عام 1983 الذين أطاحهم الهجوم الانتحاري بشاحنة ملغّمة، إذ أثبتت التحقيقات وقتها تورّطاً إيرانياً سورياً فيه من خلال حزب الله الناشئ حديثاً آنذاك. هذا لا يعني بالضرورة عدم وجود تقاطع بالمصالح بين هذه الأطراف، بل على العكس من ذلك كان من الواضح من خلال المنعطفات الكبرى في المنطقة وجود تعاون بينها رغم كلّ الخلافات السابقة، وأكبر مثال على ذلك صفقات الأسلحة التي كانت توردها أميركا لإيران عن طريق إسرائيل خلال حربها مع العراق.

إنّ تفسير هذا التمدّد الإيراني في الخواصر الرخوة للمنطقة المحيطة وفق نظريّة المؤامرة يعني استهتاراً فجّاً وغير مسؤول بقوّة الخصم أو العدوّ إن أردنا الإنصاف، فالإيرانيّون يحاولون بكلّ قواهم إعادة أمجاد إمبراطوريّاتهم الممتدّة من عهد الأسر الكسرويّة حتى عهد الشاهنشاهيّة، وحتى وإن اختلفت الوسائل والإيديولوجيا التي يستخدمها نظام الملالي عمّا كان يستخدمه نظام الشاه، يبقى أنّ ما يميّز هذا السعي هو العملُ الدؤوب للوصول إلى هدف السيطرة والاستحواذ بكلّ عزم وتصميم من خلال استخدام مقدّرات الشعب الإيراني ومقدّرات شعوب دول الجوار. في المقابل تراهن معظم أنظمة الحكم العربيّة على أميركا وإسرائيل لتنتصف لها من التدّخل الإيراني، وقد نسيت عِبَرَ التاريخ وتناست بكلّ خفّة وغباء المثل القائل "عدوّ جدّك ما بودّك."

المشروع الثالث والأهم من بين هذه المشاريع والأوفر حظاً بالنجاح هو المشروع الإسرائيلي، فالجميع يتسابق للارتماء بحضن نتنياهو مقدّماً ما لا يمكن أن يخطر على بال أحد من مؤسسي هذا الكيان من تنازلات، فحتى في أحلامه ما كان لتيودور هيرتزل أن يتخيّل هذا الحال من تهافت الحكّام العرب على التطبيع مع إسرائيل واستجدائها والتماهي مع سياسات حكّامها الأكثر تطرّفاً منذ نشوئها قبل واحدٍ وسبعين عاماً خلت.

لقد حاولت النخبُ العربيّة منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أن تؤسس لنهضة عربيّة في هذه البقعة ضمن أجواء

لم يكن العسكر أمام العسكر حليفاً أفضل من إسرائيل التي وجدوا فيها ضالّتهم للاستيلاء على السلطة ومن ثمّ تأبيد حكمهم ولاحقاً توريثه

محمومة من الصراع على نهب تركة السلطنة العثمانيّة المريضة والآيلة للسقوط، وقد ساهمت هذه النخبُ خاصّة في مصر وبلاد الشام والعراق في إرساء بعض قواعد العمل السياسي من خلال تبنّي الرؤية الأوروبيّة عن القوميّة والدولة والحداثة، لكنّ عدم جاهزيّة مجتمعات بلادنا في ذلك الوقت وابتلاء المنطقة بالاستعمار الغربي ثم بالاستعمار الصهيوني الاستيطاني في فلسطين أدّى إلى إحباط هذه المحاولات الأوّلية للنهضة.

لقد تبدّلت مناهج العمل من السير في ركاب الديمقراطيّة لبناء الدولة الوطنيّة القائمة على احترام إرادة شعبها، إلى السير في ركاب الديكتاتوريّة من خلال الانقلابات العسكريّة المتتالية. لم يكن هذا الأمر قدراً محتوماً بكل تأكيد، لكنّ سياق تطوّر الأمور بفعل عدم النضج المجتمعي من جهة وبفعل حداثة التجربة من جهة ثانية وبفعل العوامل الخارجيّة المتمثّلة بالاستعمار وإنشاء الكيان الصهيوني من جهة ثالثة جاء بهذه النتائج المأساويّة التي نعيش فصولها الآن.

لم يكن العسكر أمام العسكر حليفاً أفضل من إسرائيل التي وجدوا فيها ضالّتهم للاستيلاء على السلطة ومن ثمّ تأبيد حكمهم ولاحقاً توريثه. لقد كان فقد الشرعيّة الداخلية سبباً رئيساً وراء طلبها من خارج حدود الوطن، ولم يكن أمام هؤلاء الغاصبين للسلطة من غير اقتدار سوى التحالف مع صاحب المشروع الأقوى والمدعوم من أهمّ دول العالم، لذلك نجدهم يتسابقون الآن لتقديم الولاءات من خلال التطبيع ومن خلال التنازل عمّا لا يملكونه أساساً من حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والمكفولة بالقوانين الدولية وبقرارات الأمم المتحدة.

قمّة العجز أن نترجّى من أنظمة فاقدة للشرعيّة والمشروعية مجابهة مشاريع السيطرة المتوثّبة لافتراس منطقتنا وشعوبها. نتأمّل من هذه الأنظمة ما لا يمكنها أن تقدّمه، فيصيبُنا ما يصيبُ المستجيرَ من الرمضاء بالنّار. لقد حاولت شعوبنا جهدها إزاحة الطغيان عن كواهلها وقدّمت في سبيل ذلك الغالي والنفيس، لكنّها تفاجأت بالوجه البشع للشيطان الذي قال عنه الشهيد الساروت في آخر أغانيه:

ندري طواغيت العرب، ناموسهم شهوة وطرب، نسيوا إذا الشعب انغلب، ما عاد سيف يفيد... ما عاد سيف يفيد.