icon
التغطية الحية

وجهة نظر إيرانية بالقضية السورية: الحل في أستانا

2020.12.27 | 15:00 دمشق

ly-khamnyy-wbshar-alasd.jpg
المجلس الروسي للشؤون الدولية- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

نشر المجلس الروسي للشؤون الدولية بالشراكة مع معهد الدراسات الإيرانية- اليوروآسيوية ورقة بحثية تتناول نقاط الخلاف والاتفاق بين طهران وموسكو في سوريا، وتسلط الضوء على العلاقة المركبة للطرفين والتي لم ترقَ إلى درجة الشراكة الاستراتيجية الحقيقية بحسب وصف معدي البحث.

ويقدم موقع تلفزيون سوريا ترجمة البحث على أجزاء دون التدخل في تحريره لنقل وجهة نظر "خبراء" البلدين في الملف السوري كما هي.

الجزء الثاني:

على مدار سنوات طويلة، اشتهر الشرق الأوسط بحكوماته التي تقوم ببيع النفط لتشتري السلاح. وخلال العقود الأخيرة، أضيفت صفة الإرهاب والتطرف لهاتين الصفتين التقليديتين. إذ إن الإحساس بانعدام الأمن المتجذر في هذه المنطقة، والمرتبط بعدم حل قضية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي خلق تربة خصبة لنمو الإرهاب والتطرف بسبب التدخل اللامسؤول للقوى الغربية، خاصة في السنوات القليلة الماضية.

الجزء الأول: روسيا وإيران في سوريا وما بعدها: التحديات المقبلة

وخلال العقود الأخيرة الماضية، تميز الشرق الأوسط بسمة واضحة عن غيره من المناطق، وتتمثل بتنوع واختلاف المقاربات والمناهج التي تتصل برسم وتحديد مستقبل المنطقة بالاعتماد على كل الأدوات الصلبة والناعمة المشروعة منها وغير المشروعة.

وهكذا أخذت كل العناصر الفاعلة من قوى العالم الكبرى مثل الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وكذلك القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا وإسرائيل والسعودية، بل حتى الجماعات المقاتلة الكبيرة في المنطقة (التي يفوق عددها عدد دول المنطقة بعدة أضعاف) تبذل أقصى ما بوسعها لزيادة نصيبها من السلطة في هذه المنطقة بين الحكومات الإقليمية.

واليوم، وبعد الثورة الإسلامية في إيران (أي بعد أكثر من أربعة عقود)، التي غيرت علاقات القوة بناء على قواعد الحرب الباردة في المنطقة، تقدم هذه الثورة مخططاً جديداً للتيارات السياسية في المنطقة، إذ بعد المخطط الجدلي القائم على التدخل الذي طرحه الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش (قبل عقدين من الزمان) لخلق ما يعرف بشرق أوسط أكثر ديمقراطية وازدهاراً، أصبحت المنطقة تواجه رغبة تركية واضحة بتوسيع نطاق سلطتها وقوتها في المنطقة، إلى جانب رغبة السعودية (وبعض حلفائها) في الحفاظ على النظام السابق، ورغبة الكرد بتشكيل دولة مستقلة، ورغبة الجماعات المتطرفة بإحياء الخلافة الإسلامية. وبالإضافة إلى كل ذلك هنالك رغبة إسرائيل التي تسعى لفرض السلام على الفصائل الفلسطينية ونشر الاستقرار في الأراضي المحتلة، ورغبة روسيا بتأمين وضمان مصالحها الأمنية في المنطقة ولعب دور أكثر فاعلية في علاقات القوى الإقليمية. ونجم عن المجابهة بين تلك المناهج والمقاربات حنى الآن نزاع مسلح، ونمو للتطرف، ونزوح ملايين البشر في العراق وأفغانستان وسوريا واليمن، وظروف اقتصادية مزرية في الكثير من الدول.

وبالرغم من أن هذه المناهج المتضاربة تجعل أي أزمة في المنطقة مقلقة ومزعجة، فإن هنالك قضيتين على الأقل من المحتمل أن يكون لهما تأثير مباشر على التطورات التي ستحدث في الشرق الأوسط مستقبلاً، أولهما مستقبل التطورات في سوريا، وثانيهما مستقبل التوتر بين إيران والولايات المتحدة.

الأزمة في سوريا: التحديات ما تزال خطيرة

أتت أولى ردات الفعل الإيرانية تجاه التطورات في سوريا متناقضة، إذ من جهة أولى، أبدى قادة إيران دعمهم بشكل عام ومن حيث المبدأ للتطورات التي حدثت في الدول العربية بين عامي 2010-2011 (فيما يعرف داخل إيران باسم الصحوة الإسلامية)، ومن جهة ثانية، كانت هنالك علاقات استراتيجية بين إيران وسوريا، إلا أن تحول الاحتجاجات في سوريا من اضطرابات سياسية إلى نزاع مسلح وظهور الدعم الصريح بالسلاح من قبل بعض الدول في المنطقة التي تعادي نظام الأسد لم يدع مجالاً للشك بأن سوريا تحولت إلى مكان خصصته تلك الدول لتحقيق أهدافها ومطامحها.

وبعد مرور تسع سنوات على بداية الأزمة السياسية في سوريا، تحسن موقف إيران في تلك الدولة وبشكل عام في ظل توازن القوى الإقليمية مقارنة بما كان عليه موقفها خلال السنوات الأولى من الأزمة. إذ بالرغم من ظهور مخاوف كثيرة حيال المستقبل، اختفت الخطوط الحمراء التي دفعت إيران من أجلها أثماناً سياسية واقتصادية وعسكرية باهظة حتى تبقى في سوريا وتحافظ عليها، فلم تعد موجودة. كما أن حكومة الأسد ما تزال تواصل عملها، بعدما ظلت صلة الوصل الرئيسية ضمن محور المقاومة. وكذلك بقيت المراقد الشيعية المقدسة في سوريا والعراق آمنة بعيداً عن تهديد تنظيم الدولة، وأصبح بوسع إيران الوصول براً إلى شرق المتوسط وذلك عبر فتح معبر البوكمال-القائم الحدودي. إذ إن تلك إنجازات مهمة بالنسبة لإيران، ولكن الأهم هو الحفاظ عليها مستقبلاً.

ما تزال الأزمة السورية بعد مرور عقد من الزمان تقريباً بعيدة كل البعد عن الاستقرار الكامل، وذلك لأن بعض أجزاء سوريا ما تزال بأيدي جماعات رهنت حياتها لمحاربة الحكومة المركزية، وبوجود شيء من الدعم الإقليمي والدولي لتلك الجماعات، من غير المرجح لها أن تفكر بالانسحاب أو التراجع بكل بساطة.

في حين ظلت المناطق التي يسيطر عليها الكرد مثار خلاف بالنسبة للعلاقات الكردية مع تركيا وكذلك لعلاقاتهم مع الحكومة المركزية (نظام الأسد) في ظل مستقبل مجهول. ولعل المشكلة الأعقد من ذلك هي مشكلة أكثر من عشرة ملايين لاجئ سوري يعيشون إما في دول الجوار أو نازحين في الداخل السوري. ولهذا لا بد أن يراعي أي حل لمستقبل سوريا قبل كل شيء الطريقة التي يمكن للاجئين من خلالها العودة إلى بيوتهم، إلا أن واقع سوريا يجعل اللجوء إلى هذا النوع من الحلول أمراً مستحيلاً في المستقبل القريب. لذا يتعين على إيران وروسيا، حتى ذلك الحين على الأقل، بوصفهما داعمتين للحكومة المركزية في سوريا، أن تعالجا هذين التحدين الكبيرين:

يتمثل التحدي الأول بكيفية إعادة بناء النظام السياسي السوري، إذ لا توجد رؤية واضحة لتحقيق ذلك حتى اليوم، كما أن فترة الأسد الرئاسية ستنتهي في عام 2021، ومن الصعب جداً بالنسبة له البقاء في السلطة.

وبالنسبة لروسيا، التي تجاهلت الأسد في الماضي بالنسبة لبعض الملفات، أصبح رحيل الأسد واستبداله بشخصية لا تعاني من أي من مشكلاته، مع حفظ الإرث الذي سيخلفه الأسد، خياراً أفضل بالنسبة لها.

وبالرغم من بذل جهود كبيرة حتى الآن ضمن عملية أستانا وما بعدها، وبرغم الدعم الذي قدمته الأمم المتحدة لتشكيل اللجنة الدستورية السورية، يبقى من الصعب، بل من المستحيل في بعض الأحيان، أن نخرج بآلية ترضي الجميع. فبعض الفاعلين يرغبون بتحقيق أمور على طاولة المفاوضات لا يمكن لهم تحقيقها في ساحة الحرب. ولهذا السبب، من المحتمل أن تكون الجولة التالية من المفاوضات السياسية خلال السنة المقبلة صعبة ومرهقة كالنزاعات العسكرية. وبالنسبة لروسيا، التي تجاهلت الأسد في الماضي بالنسبة لبعض الملفات، أصبح رحيل الأسد واستبداله بشخصية لا تعاني من أي من مشكلاته، مع حفظ الإرث الذي سيخلفه الأسد، خياراً أفضل بالنسبة لها. إلا أن ذلك بالطبع ليس بالأمر اليسير، إذ لا يوجد بديل للأسد يمكن الوثوق به، وثمة فرق واضح بين عملية أستانا وعملية جنيف من حيث شرعية إحداهما بالنسبة لصياغة دستور جديد، إذ من الصعب التوصل إلى اتفاق حول دستور جديد حتى ضمن عملية أستانا. كما أنه بعد مرور عشر سنوات تقريباً على الحرب الأهلية أصبحت البنية العرقية-الدينية المتنوعة عائقاً أمام التوصل لاتفاق حول أهم مبادئ وأسس التعايش السلمي في الداخل السوري.

وبالرغم من عدم وجود شخصية ثقة كالأسد بالنسبة لإيران، فإنه لا شك أنه لم يعد بوسع الأسد البقاء في السلطة للأبد، هذا أولاً، وثانياً، لقد دعمت إيران من حيث المبدأ دوماً فكرة قيام اتفاق وطني في سوريا. ولهذا السبب، تواصل إيران التعاون بشكل بناء مع عملية أستانا، كما تواصل الجهود لتشكيل لجنة دستورية. وإذا لم تتأثر عملية صياغة دستور جديد بالمحن أو بالدعاية أو بالضغوط الخارجية، فمن غير المحتمل للقوى الموالية للأسد أن تحصل على حصة كبيرة من السلطة عند اعتماد أكثر الطرق ديمقراطية. وثمة احتمال آخر يرجح بأنه في حال فشلت اللجنة بالتوصل إلى نتيجة حول دستور سوريا الجديد مع نهاية عام 2021، عندها قد يتم تأجيل الانتخابات بموجب المادة 87 من الدستور الحالي، وستواصل الحكومة الحالية عملها إلى أن تعقد انتخابات، أو يمكن إجراء انتخابات جديدة بموجب الدستور الحالي. وفي تلك الحالة، يمكن لبشار الأسد أن يترشح لولاية جديدة مدتها سبع سنوات، بالرغم من اعتراض المعارضين بل حتى الكثير من حلفائه على ذلك.

وبالنسبة لإيران، لا تمثل الحكومة السورية كل شيء بكل تأكيد، وذلك لأن تجربة العمل في الشرق الأوسط علمت قادة إيران بأن لعب دور فاعل في التطورات الإقليمية يحتاج إلى وجود خيارات متعددة. ولهذا كان الوجود الاستشاري لإيران في سوريا على مدار السنوات الماضية بمثابة فرصة لإيران للخوض بشكل فاعل ضمن التجمعات الدينية والاجتماعية المتنوعة، ولبناء إمكانيات تهدف إلى منع ظهور مراكز خطر معادية لها. وإلى أن يحل السلام في سوريا بشكل كامل، سيتم القضاء على كل التيارات الإرهابية، وستتوسع سيطرة الحكومة المركزية على كامل الأراضي السورية، وسيظل تفاعل إيران مع تلك المجموعات أداة من بين الأدوات التي تستخدمها إيران لضمان أمنها القومي.

وبما أن عملية أستانا لم تأت نتيجة مطالبة كل القوى والقوات المؤثرة في التطورات التي تحصل في سوريا، ويشمل ذلك السعودية، والولايات المتحدة، وبعض جماعات المعارضة، لذا فإن أي حكومة مستقبلية يتم رسمها ضمن هذه العملية ستظل تتعرض للضغوط والعداء من قبل تلك القوى على الأغلب. ولهذا السبب، يتعين على الدول الضامنة لعملية أستانا أن تحتفظ بأدوات الدعم لديها من أجل الحكومة الجديدة.

إن التحدي الثاني الذي تواجهه سوريا خلال السنة المقبلة يتمثل بالمشكلات الاقتصادية التي سببتها الحرب، إلى جانب العقوبات، ناهيك عن غياب الكفاءة وتفشي الفساد. إذ بعد بداية الحرب، أصبحت مصادر دخل الحكومة السورية محدودة للغاية، فقد تعرضت الكثير من مراكز الإنتاج إما للتدمير أو الإغلاق بسبب عدم توفر المواد الأولية وغير ذلك من المشكلات. لذا فمع وجود استقرار نسبي للوضع السياسي والأمني، لابد أن تزداد المطالبة بتحسين ظروف المعيشة، وفي حال عدم تلبية الاحتياجات الأساسية للناس، عندها يمكن أن تخرج احتجاجات جديدة في البلاد.

ولسوء الطالع، ما تزال سوريا تواجه عقبات عديدة بالنسبة لعملية إعادة الإعمار، وذلك لأن الدول القادرة على الاستثمار في عملية إعادة الإعمار بسوريا ترفض القيام بذلك لأسباب سياسية، والدول التي ترغب بالقيام بذلك لا تتوفر لديها الإمكانيات اللازمة لإعادة إعمار سوريا. وفي الوقت ذاته، تحاول بعض الدول استغلال قضية إعادة الإعمار لكسب تنازلات سياسية. وتواجه سوريا اليوم أيضاً مشكلات بسبب العقوبات المفروضة عليها، فخلال الشهور الماضية، تم فرض حزمة عقوبات أميركية جديدة على 39 مسؤولاً ومؤسسة سورية بموجب قانون قيصر مما صعب على البلاد مهمة العودة إلى الوضع الاعتيادي. كما استهدفت العقوبات الأجانب الذين يقدمون أي دعم مالي أو مادي أو فني كبير للحكومة السورية، إلى جانب التلويح بفرض عقوبات متنوعة على كل من يوافق على المشاركة بعملية إعادة إعمار المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية. وبما أن جميع المعاملات المصرفية بين المؤسسات السورية والبنوك تخضع للعقوبات الأميركية منذ سنوات، لذا يبدو أن هذه العقوبات تستهدف مجال عمل هؤلاء المسؤولين الذين يمكنهم لعب دور جدي في مستقبل سوريا، سواء في الانتخابات أو في صياغة دستور للبلاد.

وبالرغم من أنه بعيد دخول العقوبات حيز التنفيذ، قام النائب الأول للرئيس الإيراني مباشرة بالإعلان عن أن إيران لن تتوانى عن اتخاذ أي إجراء للحد من الضغوط التي تتعرض لها سوريا، بيد أن الوضع الاقتصادي لإيران بعد عودة فرض العقوبات الأميركية إلى جانب سياسة الضغوط القصوى التي تمارسها الولايات المتحدة على إيران لم تترك أي فسحة للمناورة بالنسبة لسوريا. فالجمهورية الإسلامية الإيرانية، على الرغم من اهتمامها بالتدخل في سوريا بشكل أكبر من الناحية الاقتصادية، فإن إمكانياتها محدودة ولا تسمح لها بلعب دور فاعل في عملية إعادة إعمار سوريا نظراً للعقوبات وللمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها إيران في الداخل. إلا أن التعاون الاقتصادي بين إيران وسوريا حقق زخماً أكبر على مدار السنوات الماضية، حيث تم التوقيع على اتفاقية تعاون اقتصادي استراتيجي طويلة الأمد بين البلدين في مطلع عام 2020 أثناء زيارة قام بها النائب الأول للرئيس الإيراني إلى دمشق. وخلال تلك الزيارة، أتيحت الفرصة لمجموعة من رجال الأعمال والصناعيين الإيرانيين لدراسة النواحي التي بوسعهم من خلالها دخول الأسواق السورية بشكل أكثر فاعلية.

كل الآمال معلقة بعملية أستانا

منذ بداية عام 2017، عندما أثمرت جهود التعاون الإقليمي في إدارة الأزمة السورية، ونتج عن ذلك محادثات ثلاثية بين إيران وروسيا وتركيا حملت اسم عملية أستانا، تم تحقيق إنجازات مهمة في إدارة النزاعات والحد من النزاعات العسكرية في سوريا، إذ لم يسهم ذلك في عودة الأمن للكثير من المناطق في البلاد وحسب، بل أيضاً أصبحت كل الافتراضات حول عدم ظهور أي فرصة للتعاون في هذه المنطقة موضع تشكيك.

وهكذا لم يكن التعاون بين إيران وروسيا وتركيا أحد الطرق الممكنة لإدارة الأزمة السورية، بل لعله السبيل الوحيد للقيام بذلك. إذ تتمتع هذه الدول الثلاث بإمكانيات ومصالح في المنطقة، لذا من غير الممكن ولا المنطقي تجاهلها أو إقصاؤها. وبالطبع هنالك دواع وأسباب بالنسبة لهذه الدول-تتجاوز إدارة الأزمة السورية- دفعتها نحو هذا التعاون الثلاثي الموسع، غير أن القضية السورية حالياً تمثل السبب الأهم لقيام حوار استراتيجي فيما بينها. والشيء الواعد بالنسبة لهذا التعاون هو ما ينجم عنه من مصالح مهمة واستراتيجية بالنسبة لتلك الدول الثلاث، في حين أن غياب التعاون بينها يمكن أن يعود عليها بعواقب استراتيجية وخيمة.

وبما أن الأسباب الأيديولوجية المتمثلة بالصداقة والعداوة قد اختفت منذ حقبة ما بعد الحرب الباردة، لذا أصبح التعاون الاستراتيجي بين الدول القائم على تحقيق منفعة استراتيجية أو منع حدوث خسارة استراتيجية هو الأساس. وبالنسبة لإيران وروسيا وتركيا، فإن التعاون على إدارة الأزمة السورية يمثل فرصة لكسب منفعة استراتيجية ولتجنب خسارة استراتيجية في الوقت ذاته. ويصح الأمر نفسه بالنسبة للتعاون بين إيران وروسيا في سوريا، ولكن يبدو أنه بعد الحادثة التي وقعت في 24 تشرين الثاني من عام 2015، عندما قامت تركيا بإسقاط طائرة مقاتلة روسية بأن العلاقات بين البلدين قد بردت لفترة قصيرة، وعندها أدركت تركيا أهمية هذه القضية، ويعود ذلك للعواقب الوخيمة التي ستترتب على قطع العلاقات والتي ستضر باقتصاد كلا البلدين من جهة، واعتقاد القادة الأتراك بأن الإصرار على تنحي بشار الأسد وإبعاده عن المشهد السياسي السوري لم يتسبب باستمرار الحرب وانعدام الاستقرار في هذه الدولة وفي كامل المنطقة فحسب، بل أيضاً ساعد الكرد على توسيع مجال سيطرتهم السياسية والعسكرية، خاصة في المناطق المجاورة لتركيا، من جهة أخرى، وكل ذلك مهد الطريق أمام إطلاق عملية تعاون ثلاثية الأطراف لإدارة الأزمة السورية.

هذا ويعتبر التعاون بين إيران وروسيا وتركيا نموذجاً فريداً من نوعه بالنسبة للتعاون بين القوى الإقليمية خلال حقبة ما بعد الحرب الباردة. فلا أحد ينكر بأن تلك الدول الثلاث تلتزم بمبادئ وتسعى لتحقيق أهداف مختلفة، إلا أن جميع تلك الدول تقبلت لحسن الحظ فكرة عدم قدرة أي منها على تجاهل الأخرى. والأهم من ذلك، أنها اتفقت على أن تصعيد النزاع والعداوة فيما بينها لا بد أن تدمر وبصورة عملية المصالح المحدودة التي تؤمنها حالة التعاون. فتاريخياً، وخلال القرون القليلة الماضية، لم تفض الخلافات والعداوات بين تلك القوى الثلاث وهي إيران وروسيا والإمبراطورية العثمانية إلا للتخلف عن ركب الأمم في مجال التطور الصناعي والاقتصادي.

لذا طالما بقي مثلث إيران-روسيا-تركيا متساوي الأضلاع، فيمكننا أن نتوقع من تلك الدول الثلاث أن تولي الاهتمام ذاته تجاه مواصلة التعاون. وحالياً، يركز التعاون الإيراني-الروسي بشكل أكبر على المصالح السياسية، في حين يعتمد التعاون الروسي-التركي بشكل أكبر على المصالح الاقتصادية. أما التعاون بين إيران وتركيا، فبالرغم من الاختلافات الكثيرة الواضحة بينهما إلى جانب وجود تفاعلات اقتصادية موسعة بين الطرفين، فإن هذا التعاون يقوم على الفرضية التي تقول بأن تحويل التنافس إلى نزاع لن يفيد أي طرف.

وهذه السمات المرتبطة بكل ضلع من أضلاع هذا المثلث بطريقة متوازنة، تمثل الحد الأدنى من الأسباب التي تدفع لمواصلة هذا التعاون، لكنها لا تنهي الخلافات بين تلك الأطراف. إذ خلال السنوات الماضية، اتبعت تركيا سياسة خارجية طموحة وعدوانية على المستويين الإقليمي والدولي، وسعت بكل فخر لتحقيق مصالحها في مناطق مختلفة، بدءاً من القوقاز وحتى سوريا والعراق وليبيا، بل حتى في خليج فارس. بيد أن العملية العسكرية التركية على سوريا (في تشرين الأول 2019) لم تقابل بمعارضة كبيرة من قبل إيران وروسيا، بل إن دعمها للجماعات الموجودة في إدلب أدى إلى وقوع مواجهة بين إيران وروسيا وتركيا بعد ذلك ببضعة أشهر. ففي مطلع شهر آذار، صدر بيان عن المستشارية الإيرانية في الشمال السوري يشتمل على تحذير للقوات التركية ومطالبتها بوقف قصف المواقع الإيرانية. وقد شدد ذلك البيان على أن القوات الإيرانية تلقت أوامر من قادتها بضبط النفس وعدم الرد على الجنود الأتراك ضمن مجال الرمي. وقبل يومين من وقوع تلك الاشتباكات، قتل 33 جندياً تركياً كانوا قد خرجوا من مواقعهم ورافقوا (الفصائل) وذلك في غارات جوية شنتها سوريا (نظام الأسد) على أطراف محافظة إدلب.

وبالرغم من كل ما جرى فإن ذلك لم يؤدِّ إلى حدوث انفصال كامل بين تركيا وروسيا وإيران، إذ على الرغم من تهديدات أردوغان بالانسحاب من عملية أستانا، فإن القمة السادسة التي جمعت تلك الدول الثلاث عقدت في الأول من تموز لتوضح بأن عملية أستانا ما تزال على قيد الحياة، وبأنها قد تصبح الحل لتلك المشكلات.

الدور السلبي لإسرائيل

إن الدور الغامض لإسرائيل في الأزمة السورية، منذ بدايتها حتى اللحظة، يمكن معالجته بشكل أفضل وبدقة أكبر مستقبلاً، ولكن ثمة مشكلة واضحة على الأقل بالنسبة للمحللين الإيرانيين وهي أن إسرائيل تمثل النقطة السوداء الوحيدة في العلاقات الإيرانية-الروسية بالنسبة لسوريا.

إذ منذ وجود القوات الروسية في سوريا، استهدف الجيش الإسرائيلي وبشكل متكرر بعض القواعد العسكرية للجيش السوري (قوات النظام)، أو التي تعود للميليشيات الحليفة له وذلك عبر غارات جوية أو صاروخية. وحتى الآن، قتل عدد كبير من قوات "الجيش السوري" أو القوات التابعة لحلفائه، كما تم تدمير الكثير من المرافق. ففي إحدى تلك الهجمات التي استهدفت قاعدة "تي فور" في حمص بسوريا (في نيسان 2018) قتل سبعة جنود إيرانيين على الأقل. كما أن الهجمات الإسرائيلية على سوريا أضرت بالقوات الروسية الموجودة هناك أيضاً. فالحادثة التي تم فيها استهداف طائرة روسية بالخطأ من قبل الدفاع الجوي السوري، وأدى ذلك إلى مقتل 14 جنديا روسيا، بحسب ما نقله مسؤولون عسكريون روس، أتت نتيجة عملية مخادعة نفذتها طائرات حربية إسرائيلية في الأراضي السورية.

وعقب تلك الحادثة، أعلنت روسيا عن تسليم سوريا منظومة إس-300 لدعم دفاعاتها الجوية ورفع مستوى الدقة لديها. ومع ذلك تواصلت الغارات الجوية الإسرائيلية على قواعد عسكرية سورية خلال الأشهر التالية، ولم تتمكن منظومة إس-300 من التصدي لتلك الهجمات بشكل فعال. ولهذا دفعت هذه الحوادث الكثير من المحللين الإيرانيين إلى الاعتقاد بأن الضربات الإسرائيلية المتكررة على الأراضي السورية تنفذ بسبب تساهل من قبل روسيا، إذ ذكر حشمة الله فلاهات بيشيه الذي كان وقتئذ يشغل منصب رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني في مقابلة أجريت معه بأن: "الدفاعات الجوية التي تضم منظومة إس-300 الروسية المقامة في سوريا قد تعطلت خلال الهجمات الإسرائيلية على البلاد. وهنا لا بد من توجيه انتقاد حاد لروسيا، لأنه إذا كانت منظومة إس-300 الروسية تعمل بشكل جيد، عندها لن يتمكن النظام الصهيوني من تنفيذ هجمات في الأراضي السورية بهذه السهولة".

ولا يمكن عزو دقة تلك التخمينات لأي سبب، إلا أنه لا يمكن التقليل من أهمية مخاوف المحللين الإيرانيين في الوقت ذاته. ولمعالجة بعض تلك المخاوف، سعت إيران لدعم إمكانيات الدفاع الجوي السوري بشكل مباشر. إذ بحسب تقارير نشرت بعد زيارة اللواء محمد باقري قائد أركان القوات المسلحة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى سوريا في مطلع تموز من هذا العام، أصبح بإمكان إيران نشر عدد من نظم الدفاع الجوي المحلية وهي خورداد3 وخورداد15 وبافار 373 ضمن الجيش السوري (قوات النظام). إذ تم إسقاط الطائرة الأميركية المسيرة غلوبال هوك باهظة الثمن بواسطة خورداد 3 في حزيران من عام 2019 بالقرب من مضيق هرمز في الخليج الفارسي.

وفوراً عقب الإعلان عن نبأ إبرام الاتفاقية العسكرية بين إيران وسوريا، حاول بعض الدبلوماسيين الغربيين تأويل ذلك على أنه إشارة لروسيا ودليل على تصدع العلاقة بين إيران وروسيا في سوريا. إذ في حال اعتبرت الغارات الجوية الإسرائيلية على سوريا نتيجة لتساهل أو حتى ضوء أخضر من قبل روسيا، فإن الاتفاقية العسكرية بين إيران وسوريا يمكن أن تفسر في ضوء ذلك. إلا أنه بالرغم من وجود بعض الاختلافات في المنهج والتطبيق، فلا يوجد سبب للفصل بين إيران وروسيا في سوريا، وذلك لأن هذا الفصل لا بد أن يعود بعواقب وخيمة لا تمحى آثارها على كل الطرفين. وثمة شيء آخر لا بد من ذكره هنا، وهو أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قد حاولت حتى اليوم أن تبعد عملية إدارة الأزمة في سوريا عن تأثير النزاعات الإقليمية بين إيران وإسرائيل، وهذا ما جعل المسؤولين الإسرائيليين يسيئون فهم بعض الملفات بل وينتهكونها، وهذا لا بد وأن تترتب عليه عواقب خطيرة في حال استمراره.

أستانا

من الصعب الحفاظ على النظام والأمن بصورة دائمة في الشرق الأوسط، وإنها لفكرة خاطئة تلك التي ترى بأن تفاعل القوى الكبرى كما حدث خلال حقبة الحرب الباردة يمكن أن يرسم ويعزز قواعد النظام في هذه المنطقة. ناهيك عن أنه لا يمكن تجاهل أي عنصر من العناصر الفاعلة في الشرق الأوسط، ولهذا لا يسعنا إلا أن نقول ونؤكد بأن معركة الرغبات في الشرق الأوسط لا بد أن تستمر لفترة غير معلومة. ولهذا السبب، لا يمكن اعتبار مشكلات الشرق الأوسط بأنها مشكلات تتصل بالعتاد، كما لا يمكن حلها عبر هندسة المساعي ضمن مشروع كمشروع الشرق الأوسط الكبير. 

كما أن خطر الإرهاب لن يبارح الشرق الأوسط طيلة السنوات القادمة بكل تأكيد، إلا أن إنشاء تنظيم الدولة الإسلامية ما هو إلا محاولة فاشلة بالنسبة لمن هندس هذا المشروع. ومن غير المحتمل أن تتمكن أي مجموعة في المستقبل القريب من تجنيد شباب من مختلف بقاع العالم والسعي لتحقيق أهدافها عبر الترويع والتخويف كما سبق لتنظيم الدولة أن فعل. ولكن حتى مع استئصال شأفة تنظيم الدولة بشكل كامل، لا يمكن استبعاد قوتين مؤثرتين عن هذه المنطقة، وهما فكرة إحياء الخلافة الإسلامية في بعض أجزاء المجتمع السني، وثانيهما فكرة تنافس القوى الإقليمية على مد مجال نفوذها. ففي لحظة ما، قامت هاتان القوتان بتمهيد الطريق لصعود تنظيم الدولة، ولهذا بوسعهما خلق مشكلات جديدة في المستقبل أيضاً.

ومع زيادة احتمال وقوع مواجهة في الشرق الأوسط، لم يتبق مكان يتسع للتفكير الإيجابي، غير أن القضاء على تنظيم الدولة في الكثير من المناطق بالعراق وسوريا أعاد الحياة إلى سابق عهدها في تلك المناطق، وهكذا أصبحت فكرة إعادة الإعمار تحتل أعلى درجة ضمن سلم الأولويات هناك. وفي حال عدم القيام بعملية إعادة الإعمار بشكل ملموس وواقعي في هذه المناطق، عندها ثمة احتمال كبير لظهور اضطرابات جديدة.

ولسوء الحظ، وفي ظل هذه الظروف، تحاول الولايات المتحدة فرض العديد من العقوبات على دول مثل إيران وسوريا (نظام الأسد)، وهذا لا يخلق حالة ركود سياسي واقتصادي في المنطقة فحسب، بل أيضاً يهيئ مناطق جديدة لتشهد حالة تصعيد الأزمات الموجودة في المنطقة. إذ إن العقوبات الأميركية الجديدة على سوريا أدت إلى هبوط قيمة العملة السورية، مما أدى إلى إفقار الشعب، ومن المتوقع أن تسبب تلك العقوبات مزيد من المشكلات للاقتصاد اللبناني الذي يعاني من أزمة هو أيضاً، وذلك لأن الاقتصاد اللبناني يرتبط بشكل تقليدي بالاقتصاد السوري، ولهذا لا بد من أن يعاني لبنان أكثر من أي دولة أخرى بسبب هذه العقوبات. كما أن تصعيد الأزمة الاقتصادية في لبنان يمكن أن يغرق البلاد مجدداً وبكل سهولة في بحر انعدام الاستقرار على المستوى السياسي.

وفي ظل الوضع الراهن، يأتي بصيص الأمل الوحيد بالنسبة للتطورات الإقليمية عبر مواصلة عملية أستانا بالرغم من كل المشكلات والعقبات القائمة. فإيران وروسيا وتركيا ثلاث قوى إقليمية مؤثرة يمكنها أن تحدث التغيير في المنطقة في حال قامت بحشد إمكاناتها معاً. إذ خلال السنة الماضية، كان أمام تركيا أكثر من مبرر للانفصال عن صيغة التعاون الثلاثي مع إيران وروسيا، لكنها لحسن الحظ بقيت بالرغم من الاختلافات القائمة بين تركيا وروسيا من جهة، وبين إيران إلى حد ما من جهة ثانية وذلك حول الوضع في إدلب والشمال السوري وغير ذلك من القضايا، وذلك لأن لدى قادة تلك الدول الثلاث رغبة بمواصلة تلك المحادثات الثلاثية.

وفي الوقت ذاته يمكن القول بأن السعي لتوسيع هذا التعاون الاقتصادي الثلاثي لن يسهم في تعزيز الحوار السياسي وحسب، بل أيضاً لا بد أن يخلق فرصاً جديدة أمام تلك الدول الثلاث. ويمكن اعتبار التعاون الثلاثي في مجال الطاقة وإنشاء منطقة تجارة حرة بين إيران وتركيا والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ضمن مجالات التعاون بين تلك الدول الثلاث.

ومن هنا يتضح لنا بأنه يتعين على روسيا وتركيا وإيران بوصفها دولاً ضامنة لعملية أستانا أن تجري مزيدا من المحادثات الجدية حول قضية إعادة الإعمار، بالإضافة إلى قيامهم بحل المشكلات السياسية. ففي ظل الوضع الحالي، يبدو أنه لا مفر من عقد مؤتمر دولي يضم كل الدول ذات المصلحة، وبينها الصين وأوروبا، حتى تتم مناقشة قضية إعادة إعمار سوريا. وبالطبع يمكن لهذا المؤتمر في بدايته ألا يتعدى كونه مجرد منتدى لتبادل الآراء دون أن يكون الغرض منه استقطاب رؤوس الأموال. كما ينبغي مراعاة نهج التعاون الذي انتهجته إيران وروسيا وتركيا بالنسبة للتسوية السياسية للأزمة السورية والذي يقوم على مبدأ التعاون في المجالات المشتركة والتفاوض والمساومة على المناطق المتنازع عليها، وذلك في مجال إعادة إحياء الاقتصاد.

 

الجزء الثالث: وجهة نظر روسية بالقضية السورية: نحتاج حكومة مستقرة

 

المصدر: المجلس الروسي للشؤون الدولية