واشنطن وباريس.. تقاطع مفقود بالملف اللبناني!

2023.01.18 | 06:17 دمشق

واشنطن وباريس.. تقاطع مفقود بالملف اللبناني!
+A
حجم الخط
-A

الدول الغربية ليست "على قلب رجل واحد" بما يخص الملف اللبناني. بينما تنكبّ الدول الأوروبية، بمقدمتها باريس، منذ أسبوع، على إرسال الوفود القضائية من أجل التحقيق بتهم اختلاسات وفساد وتبييض أموال موجّهة إلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه وبعض المصرفيين اللبنانيين، لم تصدر من العاصمة واشنطن أو من السفارة الأميركية في بيروت، أيّ إشارة أو بيان يوحي بأنّها داعمة أو موافقة على هذه التحقيقات.

وعلى الرغم من أهمية التحقيقات الأوروبية، لناحية كشف الكثير من التفاصيل التي بقيت مخفية عن سائر الجمهور اللبناني لسنوات طويلة، وعلى أهميتها في إحداث خروقات في مجال حضّ السلطة على السير بالإصلاحات وتهديدها بفرض عقوبات على الأشخاص الذين ستطولهم التحقيقات وتُثبت إدانتهم، إلاّ أن عدداً من المراقبين يقرّون في المقابل، بأنّ أيّ عقوبات لا تنخرط بها واشنطن، لا يمكن أن تبصر النور أو تؤدي إلى أي نتيجة مطلوبة، باعتبار أنّ الولايات المتحدة هي عصب  العقوبات التي تُفرض حول العالم.

اهتمامات واشنطن

المراقب للسياسة الأميركية، يكتشف أنّ إدارة الرئيس جو بايدن لا تملك "أجندة" خاصة بلبنان، بل جلّ اهتماماتها في الملف اللبناني الشائك اليوم، تنصب على ملفين حصراً، وهما: ملف حاكمية مصرف لبنان وملف قيادة الجيش.

هذان المركزان، يفترض أن يشهدا شغوراً خلال هذا العام: ولاية الحاكم رياض سلامة تنتهي خلال شهر تموز/ يوليو المقبل، بينما ولاية قائد الجيش جوزف عون تنتهي مع بلوغه السن القانونية في العاشر من كانون الثاني/يناير المقبل.. وللمفارقة فإن المركزين مارونيان، وهما الأهم من بعد منصب رئاسة الجمهورية الماروني.

في الدعم الذي تقدّمه واشنطن لسلامة، فإنّ المعلومات المستقاة من مصادر لبنانية، تفيد بأنّ الخزينة الأميركية وجّهت دعوة لحاكم مصرف لبنان سلامة من أجل زيارة واشنطن، عشية الحديث عن التحقيقات الأوروبية، في إشارة منها إلى موافقتها الضمنية على بقاء سلامة في منصبه وربّما رفض تلك التحقيقات. بينما مصير تلك الزيارة مجمّد من سلامة نفسه، الذي يخشى من ردّ فعلٍ قضائيّ داخليّ، ينتهي بتوقيفه في مطار بيروت.

وعليه، لا يبدو أنّ واشنطن مهتمة لأمر تبديل سلامة الآن، أو حتى عزله عن حاكمية مصرف لبنان، وإنّما ما زالت ترى فيه أفضل خيار لحماية مصالحها، وبالتالي فإنّ هذا ما يفقد التحقيقات الأوروبية زخمها.

أمّا في دعم قائد الجيش، فثمّة معلومات تفيد أيضاً بأنّ واشنطن لا تبدي حماسة لوصول عون إلى سدة الرئاسة، برغم كل ما يُحكى عن نقاشات دولية واجتماعات تمهّد للتوافق على اسم عون كمرشح للرئاسة (من بين تلك الاجتماعات، اجتماع باريس الذي كان يُفترض أن يعقد هذا الشهر وتأجل إلى الشهر المقبل). التوجّس الذي ينتاب واشنطن من رحيل عون عن ذاك المركز، يعود إلى الاسم البديل الذي سيحلّ مكان عون في قيادة الجيش، إذ يبدو أنّها تفضّل بقاء الأخير قائداً للجيش على أن تأتي شخصية أخرى مجهولة الانتماء والتوجّه، يرهقها في وضع منسوب الثقة نفسه الذي تضعه في عون (يُحكى أنّ تبديل السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا سببه غياب الودّ مع قائد الجيش).

أين مكمن الخلاف؟

واقع الحال، يفيد بأنّ فرنسا (المدعومة ضمناً من الاتحاد الأوروبي) تملك ما يشبه التفويض الأميركي لإدارة ملف لبنان، وقد حصل ذلك مع وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض. هذا التفويض لم تستطع باريس ترجمته بأيّ ملف لبناني يُذكر. زيارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان وانفتاحه على أقطاب السلطة والأحزاب السياسية، ثم تعويم الطبقة السياسية، كلها تحركات لم تجدِ نفعاً.

أخفقت باريس – ماكرون، في الضغط من أجل تشكيل حكومة بعد ثورة 17 تشرين الأول 2019، ثم أخفقت في ملف التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت في   العام 2020، واليوم تراكم الإخفاق تلو الإخفاق في تذليل العقبات أمام انتخاب رئيس جديد للبلاد.

بينما في المقابل، استطاعت واشنطن المنكفئة عن الملف اللبناني، أن تتدخّل بقوة قبل نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، لفرض ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، وألزمت "حزب الله" على الموافقة على تلك الصفقة، ثم انسحبت!

هذا الإنجاز تنظر إليه باريس بعين الحسد، وتعتبر أنّ ما قدّمه اللبنانيون لواشنطن "الغائبة" كان بمنزلة "صفعة"، برغم كل الاهتمام الذي توليه باريس – ماكرون إلى لبنان واللبنانيين.  

ومن هذا المنطلق، أتت التحقيقات الأوروبية، التي ترى فيها باريس "بوابة ضغط" على السلطة، خصوصاً أنّها تستهدف "حامي المنظومة" وحارسها رياض سلامة الذي ينوب عن الحكومة اللبنانية المشلولة، ويدير البلاد اقتصادياً ومالياً.

تعتبر باريس أنّ الضرب على "رأس" السلطة (سلامة) كفيل بحضّها على الإذعان في جميع الملفات، وتقديم التنازلات.

أمّا الترجمة الواقعية لهذا التباين في الأولويات وتضاربها بين واشنطن وباريس (وبروكسل بطبيعة الحال)، فيبدو أنّ مفاعيله ستؤثّر على الانتخابات الرئاسية، والفراغ سيدوم... بل ربّما سيدوم طويلاً!