هنري كيسنجر وحافظ الأسد.. بين روايتين

2023.06.16 | 07:31 دمشق

آخر تحديث: 30.11.2023 | 16:01 دمشق

هنري كيسنجر وحافظ الأسد.. بين روايتين
+A
حجم الخط
-A

يرتبط هنري كيسنجر، في ذاكرة العامة من السوريين، بمنعطفين تاريخيين. الأول، اتفاقية فصل القوات بين سوريا وإسرائيل في أيار عام 1974، والتي منحت دولة الاحتلال حدودها الأكثر أماناً طوال نحو أربعة عقود، قبل أن تتغلغل إيران في الساحة السورية، خلال العقديّة الأخيرة. أما المنعطف الثاني، فهو دخول القوات السورية إلى لبنان في حزيران عام 1976، بضوء أخضر أميركي، هندسه ودعمه، كيسنجر نفسه، الذي وصف في نيسان 1976 (أي قبل شهرين)، الطرف السوري (النظام) بأنه يتميز بروح "المسؤولية" والحفاظ على سلامة الطوائف، معتبراً الدور السوري بنّاءً، وذلك في إفادة قدمها أمام لجنة من لجان الكونغرس الأميركي، يومها.

أما في الذاكرة الرسمية للنظام السوري، فلكيسنجر مكانة خاصة، حتى أن بشار الأسد، منح مستشارته الإعلامية، بثينة شعبان، إمكانية الوصول إلى أرشيف القصر الجمهوري، لتُعد كتاباً خصيصاً، صدر عام 2017، بعنوان "حافة الهاوية – وثيقة وطن: الرواية التاريخية لمباحثات حافظ الأسد وهنري كيسنجر"، ضم رواية النظام لتفاصيل ما حدث بين الأسد الأب وكيسنجر، بين عامي 1973 و1976. وقد حظيت تلك الرواية بترويج من جانب بعض الكتاب الغربيين الكارهين لـكيسنجر، المُتهم بالتورط في انقلابات ضد زعماء منتخبين ديمقراطياً، وإعادة رسم حدود دول أخرى، خلال فترة وجوده في الإدارة الأميركية بالسبعينيات.

ووفق تلك الرواية فإن كيسنجر، المتبجح، تعرّض لمعاملة مدروسة خلال أول زيارة له إلى دمشق، عام 1973، حيث تم تأخير اجتماعه مع حافظ الأسد لساعات، وخلال الاجتماع الذي استمر ساعات أخرى، جلس كيسنجر مقابل لوحة تظهر معركة "حطين"، التي هزم فيها صلاح الدين الأيوبي، الصليبيين، وحرّر القدس بعدها.

كان النظام يكابد بصعوبة، مخاطر طالت وجوده، بعد أن هشّمت ثورة العام 2011، شرعيته برمتها. لذا كان النيل من هنري كيسنجر، إحدى وسائل ترميم تلك الشرعية المُهشّمة

وللاهتمام الرسمي من جانب النظام بتقديم رواية خاصة لما تم بين الأسد الأب وكيسنجر، في السبعينيات، ما يبرره. فهو يتصدى لرواية أخرى، تقدّم المنعطفين التاريخيين المشار إليهما في بداية هذا المقال، (فصل القوات عام 1974، والدخول إلى لبنان)، من زاوية أخرى تماماً، تنال من سمعة الأسد الأب التاريخية، التي ارتبطت بصلابته في مواجهة الغرب، وفق البروباغندا الرسمية للنظام، على مدار العقود الخمسة الفائتة. ناهيك عن الحاجة الملحة لتعزيز هذه البروباغندا، منتصف العقدية الفائتة، حينما كان النظام يكابد بصعوبة، مخاطر طالت وجوده، بعد أن هشّمت ثورة العام 2011، شرعيته برمتها. لذا كان النيل من هنري كيسنجر، إحدى وسائل ترميم تلك الشرعية المُهشّمة. خاصة وأن الدبلوماسي الأميركي، الذي احتفل في نهاية أيار الفائت فقط، بعيد ميلاده المئة، ما يزال مؤثراً في الساحة السياسية الدولية، وما تزال آراؤه تحظى بالتفاعل من جانب أبرز قادة العالم، حتى يومنا هذا. إلى جانب أنه يُصنّف، لدى الكثير من المراقبين، كأبرز وزير خارجية أميركي، وبوصفه أكاديمياً نادراً من نوعه، في مجال العلوم السياسية، مزج بين النظرية والتطبيق، وأُتيح له أن يختبر عملياً، دراساته النظرية، تحديداً على صعيد نظريته المحببة في العلاقات الدولية، -توازن القوى-.

وبوحي من نظريته تلك، هندس كيسنجر، عام 1976، دخول الأسد الأب إلى لبنان. ففي الجزء الأول من مذكراته المنشورة، كتب أنه "إذا كان التاريخ يعلمنا شيئاً، فهو عدم وجود سلام دون توازن..". وبغض النظر عن البعد البراغماتي الذي يجلل الاستخدام المتكرر لـ كيسنجر، لمبدأ التوازن ذاك، فإنه كان السبب في أن يفضّل دوراً لنظام الأسد في لبنان، على الدور المصري في عهد أنور السادات، الذي كان يدعم "الحركة الوطنية"، بقيادة كمال جنبلاط، والمتحالفة يومها مع منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، الممقوت من جانب الأسد الأب. مبدأ التوازن ذاك، دفع كيسنجر لإقناع إسرائيل، بأن تعطي الضوء الأخضر للدخول السوري التاريخي إلى لبنان. وهو دخولٌ أسس لتفاهمات أميركية – أسدية في لبنان، تعرضت لخضّات عدة، لكنها لم تنهر، واستمرت 29 عاماً، حتى أنهت واشنطن ضوءها الأخضر للوجود السوري في لبنان، فانسحب الأسد الابن من هناك، عام 2005، بعيد اغتيال رئيس الوزراء السابق، رفيق الحريري.

ذاك الحديث عن تلك التفاهمات، بين الأسد الأب والأميركيين، هو ما كان دوماً يؤرق النظام، ويدفع منظّريه، للبحث عن سبل للذود عن سمعته، بوصفه أبرز مناوئي الغرب في المنطقة، لعقود. لكن رواية كيسنجر لما دار بينه وبين الأسد الأب، خلال زياراته المكوكية الكثيرة لدمشق بين عامي 1973 و1976، كانت مختلفة تماماً. ففي جزء آخر من مذكراته، حمل عنوان "سنوات التجديد"، تحدث كيسنجر الموصوف بـ "الثعلب العجوز"، عن جلسات مفاوضات عقدها مع الأسد الأب عام 1975، ولفت إلى حيثية مثيرة للاهتمام، للغاية. إذ قال: "عندما تفاوضت معه، اتبع الأسد إجراءً من ثلاث مراحل، مما عكس أساس قوته وسلطته. أولاً كان يقابلني مع مترجمي وحدنا. الأمر الذي كان يمكّنه من التحكم فيما سيُنقل إلى مساعديه. ثم كان يستدعي مجموعة ضباط عسكريين ليستمعوا إلى نسخة مختصرة من حوارنا. وأخيراً، كانت تنضم إلينا مجموعة مدنية للاستماع لشرح أشد اختصاراً".

تكشف هذه اللفتة -التي لا بد أن كيسنجر يدرك بما تفيد- أن الأسد الأب كان حريصاً على التفاوض مع الأميركيين، وحده. ووحده فقط. وأنه كان حريصاً على التحكم بما سيعرفه مساعدوه من محتوى ذاك التفاوض. وأن أقرب مساعديه كانوا من العسكريين، وربما تلك إشارة إلى ضباط أمنيين ذوي خلفية عسكرية. والأبرز، أن أدوار المستشارين المدنيين، كانت ضئيلة، وكانوا يطلعون على أضيق نُسخة متاحة مما جرى في التفاوض، وهو مما يقلل من الأدوار التي كانت تُنسب لوزير الخارجية يومها، عبد الحليم خدام. ويوحي ذلك، بوجود جوانب غير معروفة من التفاوض بين الأسد الأب وكيسنجر، حتى لدى المقرّبين من الأسد الأب. فالأخير، كان لا يأتمن أحداً على ما يدور بينه وبين الأميركيين، فكان يكتفي بـ كيسنجر والمترجم المحسوب على الأميركيين أيضاً. بطبيعة الحال، هذا الجانب من الرواية عما كان يجري بين الأسد الأب وكيسنجر، بين عامي 1973 و1976، لا يظهر في الرواية الرسمية للنظام.

أما الحيثية الأخرى، التي لا تقل أهمية، والتي تنتقص هي الأخرى من سمعة الأسد الأب، التاريخية، بوصفه مفاوضاً لا يشق له غبار، حينما قال كيسنجر عنه: "كان الأسد اختصاصياً في المضي بالتفاوض ساعياً وراء الحصول على كل تنازل ممكن، حتى لو عنى ذلك تعريض كل المفاوضات للخطر، وإضعاف موقف سوريا بشكل عام". وهنا، يظهر التقييم الحقيقي من جانب كيسنجر، للحس التفاوضي لدى الأسد الأب، بعيداً عن توصيفات مجامِلة ظهرت في مواقع أخرى من مذكراته. فهي تكشف أن الأسد الأب كان عنيداً، وكان لا يعرف متى يجب أن يتراجع، كي لا يخسر كل شيء. 

وهو ما لفت إليه كيسنجر في موضع آخر من مذكراته، حينما أشار إلى زيارة وزير الخارجية وقتها، عبد الحليم خدام، إلى واشنطن، في صيف العام 1974، إذ قال: "لم يستعرض (خدام) أياً من المواقف النضالية التبجحية في واشنطن والتي كانت تميز لقاءاتنا الأولى في دمشق، وتجنب الإشارة إلى أي تهديدات بخصوص التحرك العسكري السوري المنفرد". كان ذلك، بعد أن فوّت الأسد الأب إمكانية الانخراط في محادثات سلام جدية مع إسرائيل، إذ اتخذت مصر مساراً منفرداً في ذلك، وخشي الأسد الأب أن يتعرض للعزلة، وقَبِل وفق رواية كيسنجر، بانسحاب إسرائيلي جزئي آخر من جزء من الجولان، على غرار الانسحاب من القنيطرة، الذي أسس لاتفاق فصل القوات.

لاحقاً، تعلّم الأسد الأب من إخفاقاته السابقة، وهو ما أشار إليه كيسنجر، حينما قال إنه وجد الأسد قد تغيّر كثيراً بعد سنة ونصف من أول لقاء به، إذ كان مستعداً للمشاركة في عملية السلام، ومتقبلاً لفكرة المفاوضات الرسمية لإعلان وقف الحرب بين سوريا وإسرائيل. وحظي كيسنجر، وفق وصفه، باستقبال حارٍ، وبشكل غير عادي، في دمشق. لكن الإسرائيليين يومها، كانوا يرفضون بشكلٍ مطلق، تقديم أي تنازلات أخرى في هضبة الجولان، بعد اتفاق فصل القوات، وهو ما أجهض أي مسار محادثات ثنائي بين سوريا وإسرائيل، حتى التسعينيات.

فيما تُولي بروباغندا النظام الكثير من الإجلال لتلك المرحلة من سياسة الأسد الأب الخارجية، المبكّرة، حينما اشتبك مع أبرز دهاة السياسة في العالم، هنري كيسنجر، تُظهر رواية هذا الأخير، الأسد الأب، بأنه غير واثق بأقرب مساعديه، ويريد التحكم بكل شيء

أما الحيثية الثالثة، التي تستحق الوقوف عندها في مذكرات كيسنجر، إشارته إلى أن الأسد الأب اكتفى بالمعارضة الكلامية لمسار السلام المنفصل بين مصر وإسرائيل. وبرر كيسنجر ذلك، بأن الأسد الأب كان أكثر حكمة من أن يتورط في حرب جديدة مع إسرائيل. وأنه لم يكن يريد أن يخسر احتمالات الوساطة الأميركية. وهو ما يتعارض مع بروباغندا النظام حول مناوءة الأسد الأب، التاريخية، للغرب.

وفيما تُولي بروباغندا النظام الكثير من الإجلال لتلك المرحلة من سياسة الأسد الأب الخارجية، المبكّرة، حينما اشتبك مع أبرز دهاة السياسة في العالم، هنري كيسنجر، تُظهر رواية هذا الأخير، الأسد الأب، بأنه غير واثق بأقرب مساعديه، ويريد التحكم بكل شيء، وعنيد، ولا يعرف متى عليه أن ينتهز الفرصة أو يتوقف عن العناد التفاوضي.

وفيما تُروّج بروباغندا النظام اليوم، لدور سوريا المحوري في تشكيل نظام عالمي جديد، لا تشغل سوريا، بال كيسنجر في مئويته، مطلقاً. فالرجل الذي ما يزال متقد الذهن -رغم العمى الذي أصاب إحدى عينيه، وسمعه الذي أصبح ضعيفاً- ينغمس الآن في إعداد كتابين جديدين له، ويجادل بكثافة حول مخاطر كبرى، تتعلق بالعلاقة مع الصين، وبأزمة الصراع مع روسيا، وتحديات الذكاء الاصطناعي. فيما تمضي سوريا على هامش تلك الأحداث الكبرى، كساحة لها فقط، بفضل سمات الأسد الأب، التي ورثها الابن، والقائمة على العِناد التفاوضي الذي تضيع معه الفرص، الواحدة تلو الأخرى.