"هنري كيسنجر" ثعلب الديبلوماسية وضبع السياسة 1

2023.12.28 | 07:17 دمشق

آخر تحديث: 28.12.2023 | 07:17 دمشق

هنري كيسنجر
+A
حجم الخط
-A

لفتني ما نشره الكاتب ديفيد هارساني عن هنري كيسنجر في مقال افتتاحي لصحيفة نيويورك بوست بعد وفاته "اليساريون يرقصون بشكل مثير للاشمئزاز على قبر كيسنجر، وهم إنما يفعلون ذلك لأنهم يكرهون أميركا".

مضت عقود على الفترة التي كنت أتحسس خلالها لأي انتقاد لليسار، ومع ذلك شعرت بالاشمئزاز لتلك الجملة التي تفتقد للنزاهة والأخلاق، دفاعاً عن رجل يحمل في تاريخه، بحسب وثائق أميركية رسمية، الكثير من المساهمات الحاسمة في قرارات أدّت أو دفعت لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. جرائم كان حريّاً أن يحاكم عليها.

العديد من ردود الفعل السلبية على وفاة كيسنجر أقرّت أن سياساته خلال وجوده في الإدارة، انتهكت القيم الأميركية، بحسب مثقفين وكتاب وسياسيين من مواطنيه، وكان لافتاً أن يصدر عن عدد من أعضاء مجلس النواب الأميركي ردود فعل انتقادية حادة لحظة وفاته.

كتب النائب جيري كونولي أن "لا مبالاة كيسنجر تجاه المعاناة الإنسانية ستشوّه اسمه إلى الأبد، وتشكل إرثه الرديء"، ووصفه مقال في "HuffPost" بأنه "مجرم الحرب الأكثر شهرة في أميركا"، بينما نشرت مجلة "Teen Vogue" مادة عنه تحت عنوان: "مجرم الحرب المسؤول عن ملايين القتلى يموت عن عمر ناهز 100 عام".

إذاً، مات نهاية الشهر الماضي، 29 من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، السياسي الأميركي الأكثر شهرة في القرن العشرين هنري كيسنجر، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي ثم وزير الخارجية في إدارتي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد، خلال ثماني سنوات من عام 1969 حتى عام 1977.

وإذا كان قد عُرف بسياساته التي شكّلت انعطافات في الديبلوماسية الأميركية، وخصوصاً الانفتاح على الصين والاتحاد السوفييتي، وبتحركاته التي دُعيَت "الديبلوماسية المكوكية" في الشرق الأوسط إثر حرب عام 1973، ما جعله يحوز لقب ثعلب الديبلوماسية الأميركية، فإن هذا لا يغير أنه كان من خلف الستار ضبع اغتذى على الكثير من جثث الضحايا الأبرياء.

في تراثنا وموروثنا ما يشير إلى ضرورة الترحُّم على الميت، وهذا موضع خلاف يصل حدود الفكاهة أحياناً. مع ذلك وأنا مرتاح الضمير، أستطيع اعتبار كيسنجر ممن يستحقون أن يكونوا من الاستثناءات على المستوى العالمي، فلو تخيلنا على سبيل الافتراض، أن هناك عالماً تسوده العدالة المطلقة، عالماً لا يُحابي مراكز القوّة، لكان كيسنجر واحداً من أهم المطلوبين للعدالة في عصرنا.

وإذا كنا نعرف الكثير عنه فيما يخص السياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط، فإن ما لم نطلع عليه من أدواره في السياسة الأميركية الخارجية تجاه مناطق أخرى في العالم، فيه الكثير مما يجعل إرثه مجللاً بما يدعو للخجل الأخلاقي والإنساني عموماً، وهو ما بحثتُ عنه، وسأحاول هنا المرور عليه باقتضاب.

في إشارة إلى ما خلّفه القصف الأميركي على كمبوديا إبّان حرب فيتنام، كتب أنتوني بوردان الشخصية التلفزيونية الأميركية المعروفة: "بمجرد أن تذهب إلى كمبوديا وتشاهد ما فعله هناك، لن تتوقف أبداً عن الرغبة في العراك مع هنري كيسنجر، بيديك العاريتين حتى تنهي حياته، ولن تفهم أبداً سبب عدم جلوسه في قفص الاتهام في محكمة لاهاي بجوار ميلوسيفيتش".

كان كيسنجر مهندس القصف الأميركي السرّي على كمبوديا اعتباراً من آذار/مارس عام 1969، وكانت تعليماته "يجب ألا يكون هناك أي تعليق من أي شخص، وعلى أي مستوى، بأننا نقصف هناك".

خلال عام تقريباً نفّذ الجيش الأميركي الهجوم الأشرس على كمبوديا، مخلّفاً عشرات الآلاف من الضحايا الأبرياء. كانت "حملة قصف ضخمة، يشارك بها كل شيء أميركي يطير، على أي شيء كمبودي يتحرك"، بحسب وصف كيسنجر للأمر القتالي، وهو ينقله إلى مساعده العسكري ألكسندر هيج.

بعد شهرين من القصف افتضح الأمر أمام الرأي العام الأميركي، إثر نشر صحيفة نيويورك تايمز قصة الغارات الجوية السرية على كمبوديا، ما جعل كيسنجر يأمر بالتنصت على مكالمات هاتفية لعدد من المسؤولين الأميركيين من بينهم أحد مساعديه، لمعرفة مصدر التسريبات، وتلك فضيحة أخرى.

ومن بين مآثر فقيد أميركا، تشجيعه للجنرال الأندونيسي سوهارتو على غزو تيمور الشرقية، المستعمرة البرتغالية السابقة، عام 1975 في عهد الرئيس فورد.

عشية الغزو الإندونيسي، رافق كيسنجر الرئيس فورد إلى جاكرتا للقاء الجنرال سوهارتو، وعندما طرح الجنرال نواياه حول المستعمرة المستقلة حديثاً، كان تعليق كيسنجر أن "استخدام الأسلحة الأميركية يمكن أن يخلق بعض المشكلات، ومع ذلك فإن الأمر يعتمد على كيفية تفسيرنا لذلك. يجب أن يبدو الأمر دفاعاً عن النفس"، كانت تلك على ما يبدو هي التخريجة السياسية التي ينقلها كيسنجر لرئيسه وليس للجنرال.

أوضح كيسنجر أن علاقات الولايات المتحدة ستبقى قوية من إندونيسيا، وأن بلاده لن تعترض على ضم تيمور الشرقية، لكن أراد من ديكتاتور إندونيسا فقط أن يتم ذلك "بسرعة"، واقترح تأجيله إلى ما بعد عودتهم إلى واشنطن.

بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على مغادرة فورد وكيسنجر أندونيسيا سيبدأ الغزو، كانت النتيجة واحدة من عمليات الإبادة الشهيرة في التاريخ، وراح ضحيتها أكثر من ربع السكان التيموريين.

وفي محطة أخرى، في ربيع 1971، كتب آرتشر بلود القنصل الأميركي العام في "دكا" بباكستان الشرقية، التي ستصبح بنغلاديش بعد الاستقلال، "إننا نركع للخلف لاسترضاء حكومة باكستان الغربية. للأسف أصبحت الإبادة الجماعية قابلة للتطبيق في السياسة الأميركية، فقد أثبتت حكومة الولايات المتحدة أنها تعاني من الإفلاس الأخلاقي".

كانت تلك البرقية رسالة احتجاجية موجهة إلى وزارة الخارجية، وقع عليها إضافة إلى القنصل، عشرون من موظفيه، على إثر "رسالة الدم" وهو ما اشتُهرت به تلك البرقية، أنهى كيسنجر خدمات بلود في منصبه كقنصل، ونقله للعمل في قسم شؤون الموظفين بالوزارة.

إضافة إلى الاستهداف الانتقائي للمثقفين والكتاب والناشطين السياسيين من البنغال والهندوس، قتل جيش الجنرال الباكستاني آغا يحيى خان الذي سيوصف بمهندس الإبادة الجماعية، بدعمٍ من كيسنجر، ما يقرب من ثلاثة ملايين مدني، إضافة إلى عمليات اغتصاب طالت أكثر من ربع مليون من النساء البنغاليات، قبل أن تستقل بنغلاديش ويُهزم الجنرال، ويوضع تحت الإقامة الجبرية خلال فترة حكم ذي الفقار علي بوتو.

دعمت سياسات كيسنجر الجنرال يحيى، بسبب أنه لعب دوراً سرّياً مهماً في جهود الإدارة خلال التفاوض للانفتاح على الصين.. تسجّل إحدى وثائق الخارجية الأميركية، أمراً واضحاً للرئيس الأميركي نيكسون، مباشرة عقب اجتماعه مع كيسنجر: "إلى كل الأيادي، لا تضغطوا على الجنرال يحيى في هذا الوقت".

فيما بعد، بكلبيته السياسية المعهودة التي تحتقر أرواح البشر، سيسخر كيسنجر من مناوئيه في سياسته تجاه بنغلاديش، وخاصة تشجيعه على الإبادة الجماعية، فيصفهم بالذين يتألمون وينزفون حزناً من أجل "البنغاليين المحتضرين".