هل من الممكن إصلاح المجتمعات؟

2022.08.27 | 06:15 دمشق

هل من الممكن إصلاح المجتمعات؟
+A
حجم الخط
-A

هل من الممكن إصلاح المجتمعات ومن أين يجب أن نبدأ بعملية الإصلاح؟ سؤال لطالما شغل بال كثيرين من المهتمين بالشأن العام، وذلك في ظل تفشي الفساد بشكله الكبير سواء على صعيد الدولة أو الأفراد، بالإضافة لسوء الحياة المعيشية والاجتماعية.

تعددت وتفاوفت الإجابات بشكل كبير، وكلّ حسب أرضيته المعرفية والفكرية والنشأة والبيئة التي نشأ عليها، فالغالبية رأت البداية من الأم باعتبارها مدرسة وأساس التربية لكن لم يأخذوا بعين الاعتبار إعدادها وتأهليها، هذا من جانب ومن جانب آخر تجاهل دور الأب الذي لا يقل أهمية عن دور الأم في بناء شخصية الأبناء، ليأتي البدء من أنفسنا بالتطهر والتحلي بالقيم والأخلاق في المرتبة الثانية، لتتبعها أجوبة أخرى والتي تركز على الصحة والتعليم، وتثقيف المجتمعات كبارا وصغارا، وإصلاح الفساد الفكري والبيئي والاجتماعي، والإصلاح الديني.. إلخ

قلة قليلة من أشارت إلى أن البداية لا بد أن تكون من الدولة

ففي حقيقة الأمر الدولة هي رأس الهرم وكل ما ذكر أعلاه يندرج تحت مظلتها وما لم تكن الدولة صالحة فلن تصلح المجتمعات، والسبب أنها اتخذت على عاتقها قيادة المجتمع والمفروض أنها وجدت لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، والمسير في عملية التنمية والتطوير التي تساهم في إنعاش المجتمعات بكل الأصعدة، التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية والقضائية، فهي الوحيدة القادرة على توفير كل المقومات ابتداء من البنية التحية وتأهيل الكوادر القائمة على إدراة تلك البنى لترتقي بمجتمعها وانتهاء بسن القوانين التي تسهم في تنمية البلاد والشعوب.

نعود إلى السؤال من أين نبدأ؟ من الأم؟ مما لا شك به أن الأم بل الأسرة لها دور مهم في عملية التربية وتأهيل الأجيال إلا أنها لن تجدي ما لم يكن الواقع المحيط قائم على القيم والأخلاق، من خلال دولة تقوم على تأمين كل احتياجات المواطن التي تضمن له العيش الكريم من خلال توفير التعليم والصحة الملائمة وتفعيل دور القضاء العادل وقانون المحاسبة (الجميع تحت مظلة القانون) وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة في توافر الفرص للجميع، وإلا سيُخلق لدينا أجيال تقف أمام خيارين إما التأثر بالمحيط الفاسد أو التيه والعزلة.

يجب أن تكون البيئة الكبرى المتمثلة بالمحيط والمجتمع والدولة مبنية على تلك المقومات التي تسهم بخلق مجتمع صحي

فعلى سبيل المثال التعليم الذي يلي التربية من الأم والأب ما لم تتوافر الأماكن والمناخ والكوادر التعليمية والتربوية المناسبة فلن ينتج جيلا خلاقا يساهم في عملية الإنتاج والتطوير لتلك البلاد على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، وهذا لن يتم بشكل فردي بل الدولة هي المسؤولة على تأمين ذلك المناخ الذي يسهم في بناء الإنسان ومتابعة المسير، كذلك بالنسبة للصحة وغيرها مما ذكرنا أعلاه. وهذا ينطبق على البدء بأنفسنا حيث يجب علينا تهذيبها وتحليها بالقيم والأخلاق، لكن بالمقابل يجب أن تكون البيئة الكبرى المتمثلة بالمحيط والمجتمع والدولة مبنية على تلك المقومات التي تسهم بخلق مجتمع صحي، لتبقى حالات فردية من لم تربه أسرته وبيئته، سيكون هذا من مهمة الدولة في تبني هؤلاء الأفراد، وفوق الجميع سيكون هناك القضاء العادل، الذي يمنع أي شكل من أشكال الفساد.

أما لو بدأنا كما عبر البعض من الإصلاح الفكري أو الديني وغيره، فهذا غير ممكن ضمن دولة لا تأخذ بحرية الرأي والتعبير وتشريع قوانين المبنية على الاستفتاء والرأي العام، فكيف سيتم تثقيف مجتمع وإصلاحه فكريا في ظل دولة تعاقب كل من طرح رأيا أو فكرة ظنا أنها تهدد وجوده؟ لذا فإن أي عملية إصلاح سواء كان من خلال أفراد أو مجموعات لن تثمر، إن لم تكن هناك دولة قائمة على الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي تكفل للمواطن أمنه من خلال القوانين المنصوص عليها في الدستور من حرية الرأي والتعبير، وتفعيل التعديل الدستوري والقوانين بما يتناسب مع المرحلة والشعب بكل أطيافه.

فالإصلاح بكل أشكاله لا يصلح في ظل الدول الدكتاتورية القمعية، إنما يحتاج إلى تغيير جذري لكل تلك المنظومة بما يسمى الثورة، فالفرق بين الإصلاح والثورة كبير، فالإصلاح يتم في ظل دولة ديمقراطية من خلال التعددية الحزبية التي تمثل كل أطياف الشعب وتعبر عن أرائهم وهم ما يسمون بالمعارضة  التي من مهامها الاعتراض على أي قوانين أو أحكام لا تتناسب مع المرحلة أو احتياجات الشعب وتقديم الحلول وإيجاد البدائل، كذلك تقويم بإصلاح الأخطاء لما فيه المصلحة العامة، إن المفهوم الحقيقي للمعارضة في الدول الديمقراطية هي بمنزلة جرس تنبيه فيما لو وقعت الدولة بأخطاء تفسد المصلحة العامة أي كلاهما يسعيان لتطوير البلاد والشعب. وليس العكس كما يفهم البعض إنها الجهة المعادية للدولة كما يحدث اليوم في البلدان العربية مما أدى إلى تدمير البشر والحجر من أجل السلطة والمصالح الفردية.

يجب هدم المعبد من خلال التغيير الجذري المتمثل بثورة والبدء ببناء جديد، وإعادة هيكلة المنظومة كاملة وفق المعايير التي تتناسب مع المجتمع

أما الثورة هي نظام تغيير جذري من رأس الهرم لأسفله لمنظومة فاسدة قائمة على جبل من الفساد والملحق بالتدهور والانهيار على كل الأصعدة، بمعنى ترميم المعبد المتهتك لا يصلح بالإصلاح إنما يحتاج إلى هدم المعبد وبنائه من جديد وهذه هي الثورة.

لذا فإن المجتمعات التي انغمست بالفساد من رأسها حتى أخمص قدميها ابتداءً بالدولة وانتهاء بالأفراد الإصلاح لن يكون ممكنا، حيث يجب هدم المعبد من خلال التغيير الجذري المتمثل بثورة والبدء ببناء جديد، وإعادة هيكلة المنظومة كاملة وفق المعايير التي تتناسب مع المجتمع لتسهم في التنمية الفكرية والأخلاقية والإبداعية، وسن قوانين تلزم الأفراد بالانضباط بكل المجالات حتى تصبح هذه القوانين سلوكيات طبيعية بين الأفراد لينتج فيما بعد دولة قوية اقتصاديا واجتماعيا.

عندما تكون الدولة قوية تسعى إلى تطوير البلاد والمجتمعات من خلال العدالة الاجتماعية وقانون المحاسبة بكل المجالات وما من أحد فوق القانون، عندها ستجني تربية الأم وتهذيب الأنفس ثمارها، فهناك ظهر قوي يدعم ما بدأته الأسرة من هيئة التربية والتعليم المدعمة بكوادر مؤهلة وبرامج تدعم التطوير والإبداع كذلك القضاء العادل، وسيجد حينذاك الإصلاح الفكري وأي إصلاح في المنظومة الاجتماعية وغيرها طريقا يسهم في ارتقاء الشعوب.

أما الاكتفاء بالأسرة والأنفس في ظل دولة فاسدة ما هو إلا وهم وأبر تخدير وضحك على الأنفس.

عمليه إصلاح المجتمعات لا تتم إلا من خلال حلقات مترابطة مع بعضها تبدأ من الدولة لتنتهي عند الأفراد وأي خلل دون ملاحقته وتداركه سيؤدي إلى الانهيار الكلي فيما بعد كما هو الحال اليوم في المجتمعات العربية.