icon
التغطية الحية

هل بوسع الولايات المتحدة إدارة ثلاث حروب؟

2023.10.26 | 11:28 دمشق

آخر تحديث: 26.10.2023 | 11:28 دمشق

الرئيس الأميركي جو بايدن وخلفه الأعلام الأميركية والإسرائيلية
الرئيس الأميركي جو بايدن وخلفه الأعلام الأميركية والإسرائيلية
The Economist - ترجمة وتحرير: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

بعد ثلاثة أيام على تسلل مقاتلي حماس عبر السياج الأمني لقطاع غزة، وقتلهم لأكثر من 1400 شخص، واختطافهم نحو 220 شخصاً آخرين، وصلت أحدث بارجة حربية أميركية تستخدم لحمل الطائرات، وتعرف باسم يو إس إس جيرالد فورد إلى شرقي البحر المتوسط مصحوبة بأسطول خاص بها من السفن الحربية. كما أبحرت مجموعة ثانية من حاملات الطائرات، ترأسها بارجة يو إس إس إيزنهاور إلى الشرق الأوسط، لتصل قرب إيران، ونشرت منظومات للطائرات الحربية والدفاع الجوي في المنطقة، وأصبحت القوات العسكرية على أهبة الجاهزية هي أيضاً.

وفي ذلك استعراض صادم لمدى سرعة وحجم القوة العسكرية التي بوسع أميركا أن تنشرها في مناطق بعيدة خارج حدودها، والولايات المتحدة عبر إظهارها لتلك القوة توجه رسالتين، إحداهما إلى إيران ووكلائها، مفادها: ابقوا بعيداً عن المشهد، والثانية لإسرائيل ومفادها: لست وحدك! ولهذا قد يُطلب من القوات الأميركية أن تبدأ بالتحرك وسط مؤشرات تفيد بتوسع رقعة الحرب، إذ تحاول إسرائيل عن تلجم نفسها وتمنعها من تنفيذ عملية برية، في حين يشتد العنف في الضفة الغربية، فضلاً عن تبادل إطلاق الصواريخ ونيران المدفعية بين إسرائيل وحزب الله، وفي ذلك ما ينذر بفتح جبهة ثانية.

أخطر لحظة

في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، حذر لويد أوستن وزير الدفاع الأميركي من احتمال حدوث تصعيد كبير ضد القوات الأميركية، إذ قبل ثلاثة أيام، ضربت سفينة حربية أميركية موجودة في البحر الأحمر صواريخ كروز ومسيرات كانت تستهدف إسرائيل أطلقتها ميليشيات الحوثي المتحالفة مع إيران في اليمن. كما تعرضت القواعد الأميركية في العراق وسوريا لهجوم بالصواريخ والمسيرات التي من المفترض أن وكلاء آخرين لإيران هم من أطلقوها، وعن ذلك يعلق ماثيو كروينغ من المجلس الأطلسي بواشنطن فيقول: "إن هذه أخطر لحظة منذ الحرب الباردة، إذ في حال تورط إيران وحزب الله، قد تضطر أميركا للرد، وعندئذ هل ستستغل الصين الفرصة لتحاول الهجوم على تايوان بطريقة ما؟"

وهكذا تحول جو بايدن إلى رئيس في زمن الحرب بشكل مخالف لكل التوقعات، ولهذا لم يبالغ عندما أعلن للأميركيين في خطاب متلفز بث مؤخراً بأن العالم وصل إلى نقطة الانحراف عندما قال: "إن القرارات التي نتخذها اليوم ستحدد مستقبل العقود القادمة".

عندما تحركت الولايات المتحدة لمساعدة أوكرانيا على مقاومة الغزو الروسي خلال العام الماضي، تساءل كثيرون عما إذا كانت الولايات المتحدة قد عمدت إلى هذه الطريقة لردع أي هجوم صيني يلوح في الأفق ضد تايوان، ويصبح السؤال ملحاً بصورة أكبر اليوم ونحن نرى أميركا وهي تحاول الدفاع عن إسرائيل أيضاً، إذ برأي بايدن، مساعدة الأصدقاء ليست أمراً ممكناً بل لازماً أيضاً، وهذا ما دفعه للقول: "ما يوحد العالم هو القيادة الأميركية، والتحالفات الأميركية هي التي تبقي أميركا آمنة".

غير أن الشكوك ما تزال تحوم، إذ يناقش أكاديميون ومثقفون فكرة عودة القطبين إلى العالم بعدما فرضت أميركا منطق القطب الواحد على الكوكب بعد الحرب الباردة، ومتى حدث ذلك، بما أن الولايات المتحدة أصبحت تخضع لتهديدات صينية لا سوفييتية، أم أن العالم أصبح يشتمل على أقطاب متعددة والكثير من مراكز القوى؟ يعرف جوزيف ناي، وهو شخصية أكاديمية في هارفارد، القوة القومية من خلال أبعاد ثلاثة، وهي البعد العسكري والاقتصادي والقوة الناعمة، أي القدرة على إقناع الآخرين بفعل ما تريده إلى جانب أمور أخرى.

عالم متعدد الأقطاب

بالنسبة للناحية العسكرية، ما تزال أميركا قوية، إذ يمثل ما تنفقه في مجال الدفاع 39% مما ينفقه العالم على الدفاع بحسب أسعار أسواق البورصة، وفقاً لما أورده معهد استوكهولم لأبحاث السلام، أما من الناحية الاقتصادية، فقد أصبح العالم ثنائي القطب بطريقة لم يعهدها خلال الحرب الباردة، وذلك بوجود ناتج اقتصادي للصين أصغر بنسبة بسيطة مما تنتجه الولايات المتحدة بحسب سعر الصرف في الأسواق، إلا أنها تتفوق على الولايات المتحدة في نسبة القوة الشرائية (على الرغم من أن الأميركيين ما يزالون أغنى من الصينيين). وبالنسبة للقوة الناعمة، فمن الصعب قياسها، ولكن من هذه الناحية، يمكن القول إن العالم أصبح متعدد الأقطاب بصورة أكبر بحسب ما يراه كرونيج.

ومع ذلك ما تزال الولايات المتحدة دولة لا غنى عنها في الشرق الأوسط، وذلك بعدما روجت وزيرة الخارجية الأميركية الراحلة مادلين أولبرايت لهذه الفكرة، إذ ما تزال الولايات المتحدة الدولة الوحيدة القادرة على التوسط بين قادة المنطقة ورسم شكل الأحداث، ويشمل ذلك تأمين منفذ لممر إنساني يصل إلى غزة (غير أن هذا لوحده لن يكون كافياً)، إذ يقول إيفو دالدر، وهو المندوب الأميركي السابق إلى حلف شمال الأطلسي: "إن الهاتف في بكين لا يرن، وكذلك الأمر بالنسبة للهاتف في موسكو، إلا أن الهاتف في واشنطن لا يكف عن الرنين".

وأمام هذا الدور المركزي لأميركا، نجد ثلاثة من الزعماء العرب، وهم العاهل الأردني الملك عبد الله، والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والفلسطيني محمود عباس، قد أغلقوا الخط في وجه بايدن، إذ كان من المفترض أن يلتقي بهم في عمان في 18 من الشهر الجاري بعيد زيارته لإسرائيل، ولكن قبل يوم على الموعد، تعرض مشفى في غزة للقصف وتسبب ذلك بمقتل العشرات إن لم يكونوا مئات من الفلسطينيين، فأعلن الجانب الفلسطيني بأن المجزرة وقعت بسبب غارة إسرائيلية، في حين أعلنت إسرائيل بأن القصف وقع نتيجة لصاروخ فلسطيني ضل هدفه، فبدا الرئيس بايدن كمن ساعد إسرائيل على الاستفادة من حالة التشكيك، ثم أعلن بصراحة فيما بعد بأنها غير مسؤولة عما جرى، في حين لم يفعل الرؤساء العرب الثلاثة ذلك، ولهذا ألغوا القمة بعدما أعلن الرئيس عباس عن فترة حداد على أرواح الضحايا لمدة ثلاثة أيام وعاد إلى بلده، وهكذا ظهرت أميركا كقوة يمكن الاستغناء عنها.

من أين سيبدأ بايدن؟

كانت أولوية بايدن عند تسلمه لمنصبه تنشيط الاقتصاد الأميركي، فاستعان لتحقيق ذلك العقلية التي تستند على فكرة الحماية التي تبناها سلفه دونالد ترامب، وأضاف عليها جرعات كبيرة من الدعم الحكومي والسياسة الصناعية بهدف التشجيع على التقانة الخضراء وتصنيع أشباه الموصلات وغيرها من الأمور. ومما يثلج الصدور أن الاقتصاد الأميركي تفوق بأدائه على أقرانه من أغنى الدول في العالم. وهذا ما جعل بايدن يطمح لأن تسهم تلك السياسات في الحد من الاستقطاب الاجتماعي والسياسي الذي يغذي الشعبوية، كما تمنى تحصين أميركا في سباقها المتزايد مع الصين، إذ عندما وصف مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، هذه الحقبة بأنها مرحلة من التنافس في عصر الاعتماد المتبادل، أعلن عن ترابط أكبر من أي وقت مضى في السياسات الخارجية والداخلية، وذلك بالنسبة للجهود الساعية لتنويع سلاسل التوريد مثلاً ولتقييد وصول الصين إلى التقانة المتطورة.

أما في الخارج، فقد سعى بايدن أيضاً لتنشيط التحالفات التي أهملها ترامب أو هدد بتقويضها، إذ جدد اتفاقية البداية الجديدة مع روسيا، فحد بذلك من الأسلحة النووية بعيدة المدى، وذلك ضمن جهوده الساعية لإقامة علاقة راسخة ومتوقعة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

تحويل الانتباه والتركيز

كانت أولوية بايدن بالنسبة للسياسة الخارجية في الشرق الأوسط الحد من الأنشطة الأميركية فيه، بما أن هذه المنطقة استهلكت طاقة كثير من الرؤساء الأميركيين، ولهذا سعى لإنهاء الحروب الأبدية في العراق وأفغانستان، ووعد بإحياء الاتفاق النووي مع إيران، الذي وقع عليه باراك أوباما في عام 2015 وخرج منه دونالد ترامب في عام 2018، وذلك بهدف احتواء خطر إيران النووية. وفي البداية، أعلن بايدن بأنه لابد من معاملة السعودية كدولة منبوذة، ثم رجع إلى التأييد الأميركي القديم لفكرة حل الدولتين، أي إقامة دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية، على الرغم من أنه لم يبذل كبير جهد في هذا الملف.

إلا أن كل ذلك لم يفلح، إذ بعيداً عن العلاقة المستقرة والمتوقعة، غزا بوتين أوكرانيا وتم تعليق عملية تبادل المعلومات بموجب اتفاقية البداية الجديدة، أما الخروج الأميركي الفوضوي من أفغانستان فقد سمح لطالبان بالعودة إلى السلطة على الفور. وفي تلك الأثناء، حظيت الصين باستحسان دول الخليج بعدما تمكنت من إعادة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية، فبدت كمن يملأ الفراغ الذي خلفته أميركا بعدم اكتراثها.

التجاهل الحميد

سافر بايدن إلى مدينة جدة السعودية في تموز من العام الفائت وذلك ليصلح الأمور مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إلا أن الرئيس الأميركي لم يقنع الحاكم الفعلي لأكبر دولة مصدرة للنفط في العالم بجعل أسعار النفط معقولة، ولهذا تمسكت السعودية باتفاقية إنتاج وقعتها مع روسيا تقضي بإبقاء أسعار النفط مرتفعة، كما وضع محمد بن سلمان سقفاً مرتفعاً للتطبيع مع إسرائيل والذي كان بايدن يأمل بأن يتحقق على يده عبر تقديم تنازلات تتصل بالقضية الفلسطينية، مع توقيع اتفاقية دفاع مشترك مع أميركا، وتخصيب اليورانيوم في السعودية لخلق حالة توازن في وجه البرنامج النووي الإيراني. إلا أن فريق بايدن غالباً ما ينجح في الاستعانة بالتجاهل الحميد، إذ أعلن مستشار الأمن القومي سوليفان قبل أيام من هجوم حماس بأن: "منطقة الشرق الأوسط أصبحت أهدأ اليوم مما كانت عليه قبل عقدين من الزمان".

على ما يبدو، فإن حلفاء أميركا في مختلف بقاع العالم، وخاصة في آسيا، يطرحون سؤالين متناقضين، بحسب ما تراه كوري سايك من معهد المشروع الأميركي بواشنطن، إذ إن السؤال الأول: هل ستحول أميركا مواردها واهتمامها إلى الشرق الأوسط؟ والثاني: هل ستثبط عزيمة أميركا بسبب أزمة أو أخرى؟ وتناقش كوري الفكرة بقولها: "إن سمحتم بزعزعة الأمن في أوروبا بسبب العدوان الروسي، أو سمحتم لإسرائيل بأن تتعرض لهجوم إرهابي مريع، فسيصدق هؤلاء بأننا لن نكترث حيال أي مشكلة أخرى".

إن الثقة بأميركا كحليف تعتمد على مصداقيتها وإمكانياتها، وبناء على التحالفات الكثيرة التي تتمتع بها أميركا، يناقش الباحثون منذ أمد بعيد أهمية فكرة المصداقية، إذ هل يمكن أن يؤثر الفشل في تحقيق الالتزامات مع أحد الحلفاء على الالتزامات الأخرى تجاه الحلفاء الآخرين؟ فلقد تسبب خروج أميركا من حرب فيتنام مثلاً بأضرار طالت رغبة أميركا في الذود عن أوروبا الغربية، في حين تابع الغرب انتصاراته في الحرب الباردة.

إن السؤال المطروح هذه الأيام هو: هل الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان أضر بالمصداقية الأميركية وشجع روسيا على غزو أوكرانيا؟ يرى تود ولترز، وهو عسكري سابق لدى قوات حلف شمال الأطلسي، بأن ذلك كان أحد عوامل كثيرة، في حين يؤكد سوليفان بأن الانسحاب من أفغانستان حسن القدرات الاستراتيجية الأميركية في الرد على غزو أوكرانيا وتهديد تايوان.

بالنسبة للإمكانيات العسكرية، يجب على أميركا أن تمد أوكرانيا بالسلاح، وكذلك الأمر بالنسبة لتايوان، وينطبق الأمر نفسه على إسرائيل اليوم، وهذا ما يثير الشكوك حول إمكانية تلبية الصناعات العسكرية الأميركية لتلك الاحتياجات إلى جانب سد احتياجات الولايات المتحدة الأميركية. عموماً، ترسل أميركا أسلحة مختلفة إلى الدول الثلاث، إلا أن هنالك شيئاًَ من التداخل بين الطلبات، إذ هنالك نقص مثلاً في قذائف المدفعية من عيار 155 ملم، ولهذا أعلنت أميركا أنها حولت إلى إسرائيل الشحنة التي كان من المقرر إرسالها إلى أوكرانيا. كما كشفت الحرب في أوكرانيا بأن النزاع بين دولتين كبيرتين يستهلك كميات هائلة من الذخيرة، وكما توحي لعبة الحرب، فإن أي حرب تقوم من أجل تايون ستؤدي إلى نفاد سريع للصواريخ الأميركية المضادة للسفن بعيدة المدى والتي سيكون لها الدور الأهم في صد الغزو الصيني لتايوان.

بيد أن مشكلات كهذه يمكن أن تحل بمرور الزمن وتدخل المال، إلا أن الوقت والمال غير متوفرين نظراً لحالة الاستقطاب الأميركية والشلل الذي يعم الكونغرس، فالجمهوريون من أصحاب شعار ترامب: "أميركا أولاً" صاروا يشككون أكثر بالحرب في أوكرانيا، والأنكى من ذلك أن الكونغرس لم يتمكن من تمرير مشاريع القوانين منذ إقالة المتحدث باسم مجلس النواب كيفن ماكارثي.

يأمل بايدن اليوم بأن يحل عقدة الأمور ذلك التعاطف العابر للأحزاب تجاه إسرائيل، فقد طلب من الكونغرس مبلغاً كبيراً قدره 106 مليارات دولار لزيادة الإنفاق على الأمن القومي، كما يسعى إلى أن يستبق عملية التصويت المثيرة للانقسام حول أوكرانيا عبر تخصيص مبلغ قدره 61 مليار دولار كمساعدات عسكرية واقتصادية لهذا البلد، والهدف من كل ذلك التفوق في موسم الانتخابات المحموم الذي سيجتاح أميركا في عام 2024. وحتى يصبح الأمر مستساغاً أكثر، غطاه بايدن بنفقات لابد أن تروق للجمهوريين، وقد شمل ذلك مبلغاً يعادل 14 مليار دولار خصصت لإسرائيل، وملياري دولار لنقل المعدات العسكرية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادي (ومن المرجح أنها مخصصة لتايوان)، ونحو 12 مليار دولار خصصت لإجراءات متنوعة تتصل بتعزيز عملية معالجة أمور المهاجرين على الحدود الأميركية الجنوبية، ومبلغ 3 مليارات دولار لإنشاء قاعدة صناعية-دفاعية مخصصة للغواصات.

تناقضات الإدارة الأميركية

أعلن بايدن بأن: "حماس وبوتين يمثلان تهديدين مختلفين، إلا أنهما يتشركان بشيء واحد، وهو أن كلاهما يريد القضاء على الديمقراطية الموجودة في بلد مجاور". إلا أن حرب إسرائيل تختلف عن حرب أوكرانيا بنواح عديدة، أولها يتصل بالتصورات الدولية، إذ تساعد أميركا أوكرانيا باسم ميثاق الأمم المتحدة، وباسم حرمة حدود دولة ذات سيادة، وباسم حقوق الإنسان أيضاً. أما بالنسبة للدفاع عن إسرائيل، فإن أميركا تدعم هذا الكيان الذي يخرق القانون الدولي عبر بنائه لمستوطنات يهودية في الأراضي المحتلة، ويرفض قيام دولة فلسطينية، كما أنه كيان متهم بفرض عمليات عقاب جماعية بحق الفلسطينيين، هذا فضلاً عن ارتكابه لجرائم حرب، وقصفه لغزة وفرضه حصاراً عليها.

في الوقت الذي وحد الحلفاء الغربيون صفهم في الدفاع عن أوكرانيا، انقسموا حول القضية الفلسطينية، إذ طالب قرار صادر عن مجلس الأمن بفترات كف عن القتال في غزة لأسباب إنسانية، وأيدته في ذلك فرنسا و11 دولة أخرى، في حين امتنعت بريطانيا عن التصويت وكذلك روسيا، وعرقلته أميركا على الفور نظراً لعدم اعترافه بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

 

 

ثمة عامل آخر وهو الدور الأميركي نفسه، إذ في أوروبا تصرفت أميركا بكل أريحية، حيث أرسلت السلاح وأمدت أوكرانيا بمعلومات استخبارية وأموال، من دون أن تمدها بالجنود. أما في الشرق الأوسط، فقد نشرت الولايات المتحدة قواتها لتحمي إسرائيل من أي هجوم إيراني أو من قبل أحد حلفاء إيران، ولهذا لابد للمرء أن يتلمس مدى صدق احتضان بايدن لإسرائيل، خاصة بعدما وصف نفسه بأنه صهيوني، إلا أن في ذلك أيضاً محاولة للتأثير على إسرائيل وكبح جماحها، وعن ذلك يقول إميل الحكيم من المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية: "إن نجحت سياسة الاحتضان التي يتبناها بايدن في توجيه رد إسرائيلي بطريقة محسوبة بشكل أكبر، عندها سيعتبر الجميع ذلك بمثابة موهبة مميزة حبا الله بها بايدن، وفي حال لم تفلح تلك السياسة، عندها سينظر الجميع إلى أميركا على أنها طرف في الحرب".

قواعد الشرق الأوسط

تضيف الديناميات الإقليمية عنصراً آخر، إذ مايزال الغموض يكتنف الدول العربية، فأغلبها يكره حماس، بما أنها فرع لجماعة الإخوان المسلمين التي تجابه حكمهم، ولأن تلك الدول أقامت حالة سلام أو علاقات سرية مع إسرائيل، ولكن عندما يحارب الفلسطينيون، تضطر تلك الدول لمناصرة القضية الفلسطينية. وبما أن هذه الدول استقبلت موجات متلاحقة من اللاجئين الفلسطينيين، لذا فهي لم تعد ترغب باستقبال المزيد، كما أنها تخشى أن تكون لدى إسرائيل رغبة دفينة بحل مشكلتها عبر الدفع بمزيد من الفلسطينيين للخروج من بلدهم.

يرى الحكيم بأن أزمة غزة أعادت الاهتمام بفلسطين بعد سنوات طويلة صرفت خلالها الإدارة الأميركية جهوداً جبارة لتجاهل قضيتها، أو لحلها من الخارج للداخل أي عبر تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، ثم التعامل مع الشعب الفلسطيني نفسه، إلا أن نهاية اللعبة في غزة تركت مفتوحة عمداً، إذ تصر إسرائيل على عدم سيطرة حماس على غزة من جديد، في حين تعلن أميركا بأن على إسرائيل الامتناع عن احتلال غزة من جديد، وكلاهما لم يعط أي بديل لذلك. والأسوأ من ذلك هو نتنياهو الذي بذل قصارى جهده لتدمير الدولة الفلسطينية، إذ بعد هجوم حماس، لا بد أن يقتنع أغلب الإسرائيليين بأن هذه الحركة أصبحت خطراً يهدد حياتهم.

وعلى الفور، اعترف المسؤولون الأميركيون بعدم وجود استراتيجية لديهم فيما يتعلق بما سيحدث لاحقاً، ولهذا يرى الحكيم بأن فكرة الدولتين: مجرد خيار لا سياسة، وإن غدا هذا الحل مستحيلاً، فإن أحد أسباب ذلك ستتمثل بالصعوبة المتأصلة في عملية التوفيق بين ضرورات قومية، فلسطينية وإسرائيلية، على صعيد مقدس واحد، وسيكون ذلك ثمناً لحالة التخندق الأميركية بحسب رأي الحكيم الذي يقول: "من الصعب عودة أميركا إلى اللعبة بعد خروجها منها منذ أمد بعيد".

لا يمكن للصين وروسيا أن تقدما بديلاً عن الدبلوماسية الأميركية، إلا أنهما ستبتهجان أيما ابتهاج بالخيبة الأميركية، وستروجان للمزاعم القائلة بازدواجية المعايير الأميركية. إذ قبل زيارته إلى واشنطن خلال هذا الأسبوع، وصف وزير خارجية الصين ما تفعله إسرائيل بأنه قد خرج عن حدود الدفاع عن النفس، من دون أن يتطرق للحديث عن حماس.

مواقف الدول المتأرجحة

يرى ريتشارد فونتين من مركز الأمن الأميركي الجديد بواشنطن بأن أثر هذه الأزمة يصبح ملموساً أكثر مع بعض الدول المتأرجحة، والتي تتسم بأنها تنحاز لجهات عديدة، ولهذا فإن التنافس على كسب ولائها قد احتدم بشدة بين أميركا والصين وروسيا، ولذلك قد تطلب السعودية ثمناً غالياً من إسرائيل وأميركا في حال سارت على درب جيرانها من دول الخليج، أي البحرين والإمارات، بالنسبة لإقامة علاقات رسمية مع إسرائيل.

أما تركيا، ذلك الحليف المشبوه للغرب في أزمة أوكرانيا، فقد تصبح أشد عدائية، إذ على الرغم من محاولة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إصلاح العلاقات مع إسرائيل، وإدانته لقتل المدنيين الإسرائيليين، إلا أنه يستضيف قادة حماس، كما زاد من حدة إدانته لرد فعل إسرائيل ووصفها بأنها ترقى لعملية إبادة.

ومما لاشك فيه أن أندونيسيا، تلك الدولة التي تصنف على أنها أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد المسلمين فيها، تتعاطف مع الشعب الفلسطيني، وبالرغم من أن الهند تعتبر نفسها دولة غير منحازة وصديقة لأي حركة مناهضة للاستعمار، إلا أنها عبرت عن تضامنها مع إسرائيل، وتعاطفت معها بوصفها ضحية للإرهاب الإسلامي مثلها على حد زعمها.

ترى دولة جنوب أفريقيا تحت حكم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين ما يشبه حالة الفصل العنصري، وتعتبر الدول الأفريقية عموماً بأن أميركا إما تتجاهل النزاعات في القارة الأفريقية، مثل الحرب الدائرة في السودان، أو أنها تنافق عندما يتصل الأمر بحقوق الإنسان، ولهذا تعتبر تلك الدول أميركا بأنها قوة غائبة أكثر من كونها دولة لا غنى عنها، ولهذا يتوقع كثيرون من بايدن ألا يفي بوعده بزيارة أفريقيا خلال هذا العام.

أصبحت القوى الكبرى تتودد بشكل أكبر للدول النامية، وذلك لأن هذه الدول التي انتقدت الغزو الروسي لأوكرانيا لا تريد أن تقع في فخ حرب باردة جديدة، ولذلك تحاول أميركا استمالة هذه الدول عبر أشياء من قبيل تعزيز إمكانية الإقراض لدى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وتخصيص تمويل عالمي من أجل البنية التحتية بهدف التصدي لمبادرة الحزام والطريق الصينية، ولكن على هذه الدول أن تمضي لما هو أبعد من ذلك. إذ في اليوم ذاته الذي وصل فيه بايدن إلى تل أبيب، حضر عشرون رئيساً قمة عقدت في بكين من أجل هذه المبادرة أقامها الرئيس الصيني شي جين بينغ.

وبعد يوم على ذلك، وفي خطاب متلفز، حول بايدن أميركا إلى دولة أساسية في العالم، إذ في أوروبا وفي منطقة المحيطين الهندي والهادي، تصرفت إدارته برشاقة، وذلك عندما جمعت بين التحالفات القائمة، وخلقت شراكات جديدة، وكل الفضل في ذلك يعود للعدوان الروسي والصيني. ولكن في الشرق الأوسط، أضحت أميركا وحيدة في دفاعها عن إسرائيل، وأشد عرضة لخسارة أصدقائها وشركائها من كسب أي جديد بين صفوفهم.

يختلف الوضع في عصر يتسم بتنافس بين القوى الكبرى، بيد أن الدَين الذي سدده بايدن عبر خطابه والذي يتلخص بعبارة: "ليحم الله جنودنا"، ما هو إلا لازمة يستخدمها دوماً عندما يختتم أي خطاب، ولكن في الوقت الراهن، ومع قيام أميركا بدعم طرفين صديقين لها دخلا حرباً ضد بعضهما، ومن المرجح أن تفعل ذلك في تايوان خلال السنين القادمة، فقد خلفت كلمات بايدن وقعاً مشؤوماً غير معهود.

 

المصدر: The Economist