هل الانتخابات البلدية في تركيا مصيرية حقاً؟

2019.04.01 | 00:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

حين تنشر هذه المقالة، ستكون نتائج الانتخابات البلدية معروفة للقارئ. فلا معنى لإطلاق تكهنات بشأنها، ولا هذه هي غاية المقالة.

فبغض النظر عن نتائجها، يمكن إعطاء قراءة لأجواء الحملة الانتخابية لمختلف الأحزاب السياسية المشاركة فيها، وللظروف المحيطة بتوقيتها، وما يمكن أن يتغير في المشهد السياسي وانعكاسات ذلك على السياسة العامة لتركيا، داخلياً وخارجياً.

من أبرز غرائب هذه الانتخابات أنها تخاض، للمرة الأولى، بتحالفات انتخابية. ذلك أنه من المفترض أن الناخب يهتم بشخصية المرشح وما يمكن أن يقدمه على صعيد الخدمات المحلية، وبالدرجة الثانية قد تهمه الهوية السياسية للمرشح إذا كان الناخب ممن يصوتون عادةً لحزب سياسي بعينه. أما أن يطلب من الناخب التصويت لمصلحة مرشح لتحالف أحزاب، فهذا ما يتجاوز الأطر التقليدية.

هناك تحالفان حزبيان في الانتخابات الحالية، هما تحالف السلطة المسمى بـ"تحالف الجمهور" ويضم حزب العدالة والتنمية الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية. يواجهه تحالف آخر معارض (تحالف الشعب) يضم حزب الشعب الجمهوري والحزب الخيّر المنشق عن "الحركة القومية". ويبقى خارج التحالفات حزبان معارضان هما الكردي "حزب الشعوب الديموقراطي" والإسلامي "حزب السعادة" الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان ويقوده اليوم تمل قرامولا أوغلو.

وبالمعنى الأيديولوجي تتنافس أحزاب من تيارات ثلاث هي الإسلامي الممثل بحزبين، أحدهما يمسك بالسلطة والثاني معارض، والعلماني المعارض، والقومي التركي ممثل بحزبين أيضاً، أحدهما في تحالف السلطة والثاني في التحالف المعارض، وأخيراً الكردي الممثل في حزب وحيد.

هناك طبعاً أحزاب صغيرة قدمت مرشحين في بعض البلديات، لكنها غير ممثلة في البرلمان، ولا يمنعها ذلك من الفوز برئاسة بعض البلديات الصغيرة.

ثاني الغرائب في هذه الانتخابات أن تحالف السلطة يخوض الانتخابات بواجهة هي رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان الذي ملأت أفيشات صوره كل مكان، فبدا كأن الناخب لا ينتخب رئيساً لبلديته بقدر ما ينتخب أردوغان الذي يقود الحملة بنشاط يحسد عليه، فيلقي خطابين في اليوم نفسه، أحياناً، في مدينتين مختلفتين. وإذا كانت هذه الاستراتيجية ناجحة بالنسبة لقسم من الجمهور يضع ثقته في أردوغان بأكثر مما يفعل مع حزب العدالة والتنمية أو مرشحه المحلي المطلوب انتخابه، فهي ستشكل امتحاناً، في غير محله، لشعبية أردوغان قد لا تسره نتائجه في بعض المدن والمناطق.

هناك قول شائع في تركيا مفاده أن من يفوز برئاسة بلدية إسطنبول يفوز بقيادة تركيا

فسابقة الاستفتاء على النظام الرئاسي التي جرت في نيسان 2017، قد شكلت إنذاراً مبكراً لغير مصلحة الحزب الحاكم وحليفه القومي. إذ إن نتائج ذلك الاستفتاء قد أظهرت انقسام أصوات الناخبين بين مؤيدي التغيير الدستوري ومعارضيه مناصفة تقريباً مع أرجحية طفيفة للفريق الأول. أما النتائج في المدن الكبرى الرئيسية فقد كانت لمصلحة المعارضة، وهو ما يخشى تحالف السلطة من تكراره في الانتخابات البلدية الآن. فالتخمينات ترجح فوز مرشح حزب الشعب الجمهوري في أنقرة، في حين تتساوى تقريباً حظوظ مرشحي المعارضة والسلطة في إسطنبول. وهناك قول شائع في تركيا مفاده أن من يفوز برئاسة بلدية إسطنبول يفوز بقيادة تركيا، والمثال الأبرز على ذلك هو أردوغان نفسه الذي بدأت رحلته في السياسة من بلدية إسطنبول في تسعينات القرن الماضي.

ويبدو تحالف السلطة هو الأكثر إيماناً بهذه المقولة، بالنظر إلى خشيته الصريحة من خسارة بلدية إسطنبول، ومعها بلدية أنقرة. فهذا ما يمكن استنتاجه من شراسة الحملة الانتخابية ووصفها بالمصيرية من قبل السلطة والإعلام الموالي لها. الغاية من هذا السلوك هو شد عصب القاعدة الانتخابية الموالية ودفعها إلى المشاركة الكثيفة في الانتخابات، وليس مخاطبة جمهور أحزاب المعارضة الذي لن يصوت لمرشحي السلطة على أي حال.

المخاطبون إذن هم المترددون في التصويت أو المتكاسلون عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع. أما المترددون فهم ممن يشعرون بعدم الرضى عن الأداء الحكومي للحزب الذي انتخبوه، وبخاصة في الجانب الاقتصادي الضاغط على حياتهم اليومية. أما المتكاسلون فهم ممن يؤمنون بأن حزبهم سيفوز على أي حال، ولن يضيف صوتهم شيئاً للنتيجة. أو أنهم من الحزب الآخر الحليف الذي لا تطاوعه يده لانتخاب مرشح حزب خصم أيديولوجياً. هذه هي حال قسم من ناخبي حزب الحركة القومية ممن لا يحبون حزب العدالة والتنمية لكن حزبهم طلب منهم التصويت لمرشحه بحكم التحالف السياسي القائم بين الحزبين.

وبلغت شراسة الحملة الانتخابية حد اتهام الخصوم بدعم الإرهاب أو السعي لتقسيم تركيا، وبخاصة من قبل الناطقين باسم تحالف السلطة. ففي كل خطاباته، تقريباً، يتهم أردوغان حزب الشعب الجمهوري بأنه متحالف سرياً مع حزب الشعوب الديموقراطي، الواجهة السياسية لحزب العمال الكردستاني المعتبر إرهابياً وانفصالياً. كيف يتم ترويج هذا الاتهام؟ من خلال تكتيك حزب الشعوب الديموقراطي الذي لم يرشح أحداً في بعض البلديات لأنه لن يفوز بها. وبدلاً من تشتيت أصوات المعارضين للحكم، وجه الحزب الكردي ناخبيه لانتخاب مرشحي المعارضة حيثما كان يؤمل احتمال فوزهم على مرشحي السلطة. فوزن ناخبي حزب الشعوب في كل من أنقرة وإسطنبول ومدن أخرى يمكن أن يكون مرجحاً يحدد الفائز في الانتخابات. وهذا ما يخشاه تحالف السلطة ويبذل كل جهوده لإفشاله.

هل يمكن لنتائج هذه الانتخابات أن تكون نقطة انعطاف سياسية كبيرة بما يبرر وصفها بالمصيرية؟

لا ونعم. لا، لأنها حتى لو أسفرت عن خسارة تحالف السلطة كنسبة مئوية في عموم تركيا، بما في ذلك خسارة بلديات المدن الكبرى، فهي لن تؤدي إلى تغيير حكومي. سيبقى حزب العدالة والتنمية في الحكم، ومن المحتمل أن يواصل حزب الحركة القومية دعمه من خارجها كما هي الحال اليوم.

ونعم، لأن الحكومة التركية قد علقت كثيراً من الاستحقاقات الملحة إلى ما بعد الانتهاء من هذه الانتخابات، لكي تمنع تأثير تلك الاستحقاقات على نسبة التصويت لمرشحي التحالف. ومن أبرز تلك الاستحقاقات الوضع الاقتصادي والملف السوري.

فقد لجأت الحكومة إلى إجراءات تدخلية قاسية لضبط سعر صرف العملات، ومواجهة التضخم. وهو ما لا يمكن الاستمرار فيه إلى ما لا نهاية. ويتوقع الخبراء بالشأن الاقتصادي أن يتواصل انهيار قيمة العملة المحلية بعد الانتخابات، وأن تضطر الحكومة إلى احتساء ما تعتبره السم، أي الاقتراض من البنك الدولي للوفاء بالتزاماتها المالية. الأمر الذي يعني تدخلاً خارجياً في تحديد السياسة الاقتصادية.

أما في الملف السوري، فهناك موضوع إدلب ومصير هيئة تحرير الشام الذي تكفلت الحكومة التركية بحلهما في إطار اتفاق سوتشي مع روسيا. ويبدو أن بوتين قد أمهل تركيا إلى ما بعد الانتخابات للوفاء بالتزاماتها.

كذلك هي حال شرقي الفرات الذي تحول إلى تحد كبير بالنسبة لتركيا والرئيس أردوغان بالذات الذي تعهد باجتياح مناطق سيطرة "قسد". فالأميركيون متمسكون بتحالفهم مع "قسد" على رغم الإعلان عن نهاية "الدولة الإسلامية" التي كانت الدافع إلى التحالف. أما روسيا فقد وضعت أمام أردوغان "اتفاق أضنة" بوصفه الإطار المناسب لوضع أمني يلبي الهواجس التركية. وتضغط موسكو لتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.

من المحتمل إذن أن يشهد ما بعد الانتخابات المحلية تحولات كبيرة في السياسة التركية إزاء الملف السوري بكل تشعباته. وهناك ملف ضاغط آخر على الحكومة التركية هو موضوع صفقة الصواريخ الروسية التي قد يتوقف عليها مستقبل العلاقات بين أنقرة وواشنطن، وكذلك مع الحلف الأطلسي بصورة عامة.