هذه قبورنا تملأ الرحب.. وحمم لنا بالمرصاد

2023.02.09 | 05:57 دمشق

هذه قبورنا تملأ الرحب.. وحمم لنا بالمرصاد
+A
حجم الخط
-A

تُدفن السياسة تحت الركام، تسقط معاييرها، ويختنق الكلام. ينعدم الوجود في مواجهة الطبيعة. إنه الصراع السرمدي، لا انتصار للإنسان فيه. في كلا الصراعين السياسي والطبيعي، تقيم منطقة الشرق الأوسط على فيالق الحروب والقلاقل. غالبية الصدع الأرضية والصفائح تقيم تحتنا. وكل الصراعات السياسية والاقتصادية بخلفيات صراعات الأديان والحضارات تصدع رؤوسنا. على مرّ الأزمان ندفع الأثمان. الثمن هنا لا يخضع لقوانين السوق، ولا لعدالة متوهمة. فـ للسوق شروطه يحددها العرض والطلب، وللسياسة فنونها من يتقنها ومن يجهلها، فإما يقدم أو يحجم وفق ما تقتضيه التقديرات والحسابات سواء أكانت خاطئة أم مصيبة. وفي ذلك يمكن للمرء أو الدولة أن تحاسب نفسها أو تتحاسب. أما المصائب لا حساب فيها، وغالباً ما تكون الطبيعة غير عادلة.

السماء وحدها لم تسقط لكنها تنزل عليهم أهوالها، فتهتز الأرض من تحتهم، تتشقق لابتلاعهم، وتسهم السماء في التهام من نجا منهم، بعواصفها

سوريا، إحدى الدول التي تدفع الثمن في المجالين، وفي كل الميادين. هي اختصار الوجع الأبدي. شرب الشعب السوري كؤوس الفواجع حتى الثمالة. لم ترتو الأرض من دماء السوريين. لم يشبع هواء ولا سماء من أرواحهم، وغدا التراب معجوناً بأجسادهم وجثث أطفالهم. هنا تستعاد عبارات مخنوقة رفعها أهالي كفرنبل على إحدى اللافتات ذات 2011 إذ قالوا: "يسقط النظام والمعارضة.. تسقط الأمة العربية والإسلامية.. يسقط مجلس الأمن.. يسقط العالم.. يسقط كل شيء". وقد سقط كل شيء، ولكن فوق رؤوسهم. السماء وحدها لم تسقط لكنها تنزل عليهم أهوالها، فتهتز الأرض من تحتهم، تتشقق لابتلاعهم، وتسهم السماء في التهام من نجا منهم، بعواصفها، بصقيعها الذي يلتحف تشرّدهم وشتاتهم.

وإن كان الموت لا يوجع الأموات، بل الأحياء على ما يقول محمود درويش. نتعايش نحن مع أوجاع الزمن. يقيم فينا الوجع ويتأبد. نخوض النقاش في أصل الوجود، فإما الارتكاس إلى الميتافيزيقيا، والتعايش مع أوهام. وإما صراع الوعي حول نظرية التطور أو أصل الأنواع. والسؤال الأشمل حول الله، هل حقاً يرضى بذلك؟ قالها السوريون سابقاً: "يا الله ما النا غيرك يا الله". هل تخلّى عنهم؟ هنا لا حاجة للسجال، ولا الدخول في دوافع الحساب والاحتساب. ولا نظرية التجربة، أو التسليم بأنه إذا ما أحب قوماً امتحنهم واختبرهم.

إنها أوجاع تسقط نظريات، وترفع من شأن أخرى. لم يوفق رينيه ديكارت في أن الإنسان هو سيد الطبيعة. لكأن أحد أعضاء مجلس الشعب السوري يجيبه ويرد عليه في مديحه لرئيس النظام بالقول: "أنت لازم تحكم العالم يا سيادة الرئيس". يتشتت الذهن، يعود إلى صراع الوعي. تدوي الصرخة حول سؤال الوجود. يقودك الوجع إلى تشاؤم أبي العلاء، وهو ابن معرّة النعمان، استبق الزمن والألم. ويقول: "صَاحِ هَذِهْ قُبُورُنَا تَمْلَأُ الرُّحْــبَ فَأَيْنَ الْقُبُورُ مِنْ عَهْدِ عَادِ؟ خَفِّفِ الْوَطْءَ مَا أَظُنُّ أَدِيمَ الْـأَرْضِ إِلَّا مِنْ هَذِهِ الْأَجْسَادِ. رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرَارًا ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الْأَضْدَادِ.. وَدَفِينٍ عَلَى بَقَايَا دَفِينٍ.. فِي طَوِيلِ الْأَزْمَانِ وَالْآبَادِ.. إِنَّ حُزْنًا فِي سَاعَةِ الْمَوْتِ أَضْعَافُ سُرُورٍ فِي سَاعَةِ الْمِيلَادِ".

الوجود على الفيالق موت مؤبد فهل واقعنا الاجتماعي يفترض أن يحدد وعينا للموت المستمر من خارج السياق الطبيعي، في صراع الطبيعة؟

وأقصى أنواع الوجع، انعدام معرفة لما يحدث من تغيرات وأحداث، يقول ماركس: "ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، وإنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم". يدفع ذلك إلى التطبيع مع الأسى، فالوجود على الفيالق موت مؤبد فهل واقعنا الاجتماعي يفترض أن يحدد وعينا للموت المستمر من خارج السياق الطبيعي، في صراع الطبيعة؟ ربما المفيد فيه هنا العودة إلى دوستويفسكي إذ كان يتمنى في رواية "الجريمة والعقاب" لو فقد الوعي وخسر الإحساس، حتى إذا ما استفاق، كان كل شيء قد أضحى منسياً فيعود إلى حياة جديدة لا أفكار محزنة فيها ولا تفكير. وهو الذي يعتبر الوعي مرضاً وعلة، ويذكر في رواية (في قبوي) على لسان بطل الرواية: أقسم لكم بأغلظ الإيمان أيها السادة أن شدة الإدراك مرض، مَرض حقيقي خطير، إن إدراكاً عادياً هو، من أجل حاجات الإنسان، أكثر من كاف".

هل يسعفنا نيتشة في توصيفه للحياة إذ يقول: "ولما كانت الحياة البشرية معرضة للهلاك بوصفها حياة يؤطرها الصراع من أجل البقاء اضطر الإنسان لأن يعبر عن نفسه في كلمات، ومن ثم يكون نمو اللغة ونمو الوعي متلازمين. هكذا اختلق الإنسان لنفسه أوهاما، كالواجب والمسؤولية والحرية والوعي… إلخ، إلا أن الحقائق في العمق ليست إلا أوهاما". هل هي حقاً أوهام؟ ربما الواقع يقول بذلك، وهو إذ يحاصرنا ولا نجيد قراءته. هل نخطئ القراءة؟ ربما كما يقول فرويد في ردّه على نيتشه: "إننا مخطئون جداً إذا نسبنا كل سلوكياتنا إلى الوعي وحدهُ، لأن كل هذه الأفعال الواعية تبقى غير متماسكة وغير قابلة للفهم إذا اضطررنا إلى القول إنه لا بد أن ندرك بواسطة الوعي كل ما يجري فينا. إن الحياة الإنسانية أشبه بجبل الجليد، وما يظهر منه أقل بكثير مما هو خفي. نعود إلى أبي العلاء ونتصرف بحق قوله: "نَتَوَخَّى لَنا النَّجَاةَ ونوقن أَنَّ الحمم بِالْمِرْصَادِ".