نوبار في صحبة الوالي محمد علي باشا وإبراهيم باشا

2020.08.24 | 00:18 دمشق

unnamed_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

بين يدي "مذكرات نوبار باشا" التي صدرت عن دار الشروق، وعندما شرعت في قراءة فصول هذه المذكرات شعرت بأنني وجدت نصاً مميزاً يحكي فيه نوبار باشا قصة حياته وخدماته للأسرة العلوية. ولد نوبار نوباريان في أزمير في 1825، من نسل عائلة أرمنية، ودرس الابتدائية في جنيف، وكان نوبار في السابعة عشرة من عمره عندما تم استدعاؤه إلى القاهرة من قبل خاله بوغوص بك الذي كان يشغل منصب وزير التجارة والأمور الأفرنجية لوالي مصر محمد علي باشا. بعد أن عمل نوبار سكرتيراً في مكتب خاله الذي توفي في عام 1844، أصبح سكرتيراً ومترجماً لمحمد علي، ثم التحق بخدمة إبراهيم باشا الذي اصطحبه معه في أسفاره.

نستعرض القسم الأول من المذكرات التي يحكي فيها نوبار تجربته مع محمد علي وإبراهيم باشا، ويذكرنا في البداية بالفرمان الذي أصدره السلطان عبد المجيد عام 1841 بمنح حكم مصر لمحمد علي وأولاده، وكان بمثابة صلح بعد سنوات من المعارك بين الطرفين، وعلى الرغم من الحق الوراثي للأسرة العلوية فإن حاكم مصر ظل جزءا من الإمبراطورية العثمانية، وظلت المعاهدات السياسية والاقتصادية تعقد من جانب الباب العالي وواجبة التنفيذ على مصر. وكانت الضرائب تجبى باسم السلطان العثماني ويحول له ما يوازي 300 ألف جنيه إسترليني، ولم يكن تعداد الجيش المصري آنذاك يزيد على 18 ألف جندي.

وصل نوبار إلى مصر في عام 1842، بعد وقت قصير من صدور هذا الفرمان، وكان والده يعمل وكيلاً للوالي محمد علي في باريس. كانت أول مهمة لنوبار الحصول على أوراق والده ومراسلاته مع محمد علي خوفاً من وقوعها في يد العثمانيين. يصف لنا نوبار باشا الإسكندرية وضوضاء الشوارع وجموع الناس بالملابس الرثة وكيف رأى ضباطاً من الجيش وموظفين مدنيين يمتطون الخيول.

يحكي نوبار عن قصر محمد علي باشا، ، وعندما يصف نوبار محمد علي أتذكر الفصل المميز الذي كتبه خالد فهمي عن نظرات محمد علي وشخصيته في كتابه الرائع كل رجال الباشا. قال محمد علي لنوبار في أول لقاء بينهما "اعمل، حتى أراك وأنت تعمل". كان نوبار شابا حديث التخرج من أوروبا، ووجد نفسه في عالم غريب وجديد عليه، عالم يصفه في المذكرات بأنه من العصور الوسطى. يشرح لنا قصصاً كثيرة تدل على شخصية محمد علي، فلقد غضب على خال نوبار - الخواجه بوغوص - وطلب اعتقاله ليُعدم بعد نقاش حول بعض الأمور المالية، وقام أحد المساعدين بتهريب بوغوص وحمايته في السر لأنه كان مديناً بمعروف له. وفي يوم من الأيام مر محمد علي بضائقة مالية في رشيد وصاح قائلاً: "لو كان بوغوص هنا لأنقذني من هذه المحنة"، واعترف مساعد محمد علي بأن بوغوص حي وطلب إحضاره فوراً.

يكمل نوبار رسم خطوط علاقة الخواجة بوغوص بالوالي، فالخال شديد الحياء والخوف، يقاوم رغبات محمد علي التوسعية، يقف بوغوص وعيناه تنظران إلى الأرض ويقول للباشا: "لن أتمكن من تنفيذ رغباتكم يا سيدي"، مزيج من الحياء والشجاعة في مواجهة نزوات الحاكم.

حكايات نوبار عن حياته في ظل محمد علي تظهر شخصية هذا الوالي. عندما مات خاله بوغوص سأل محمد علي كم ترك بوغوض من ثروة ليتأكد هل كان يسرق أم لا، فقيل له ترك 19 قطعة ذهبية فقط، فقال محمد علي: "هذا لا يمكن، لقد أعطيته بنفسي ماسة تزن 17 قيراطاً". بالبحث وجد نوبار الماسة، لكن لم يجد ثروة مخبأة لبوغوص باشا، وهكذا مات بوغوص فقيراً بعد خدمة الوالي أربعين عاماً. قال ساعتئذ محمد علي "لو كنت أعلم أن بوغوص لن يترك شيئاً لكنت خبأت تحت سريره 100 ألف تالاري (عملة ألمانية)، حتى لا يقال إن محمد علي يهمل من يقومون بخدمته".

ينبهنا نوبار إلى أن محمد علي عندما علم أن بوغوص توفي ولم يتم تشييعه في جنازة عسكرية غضب وأرسل رسالة إلى قائد الحامية العسكرية يقول له فيها: "إنك حمار، إنك غبي، كيف لا تصطحب القوات التي تحت إمرتك لتشييع الرجل الذي أخلص لك وقام بتربيتك إلى مثواه الأخير" وأمر بتوجه الضباط إلى كنيسة الأرمن وتشييعه في تشريفة عسكرية. يوضح نوبار أنه لم يكن معهوداً أن يقوم قائد مسلم بتشييع شخص مسيحي في عام 1844، ويشرح لنا أن الشخصيات الكبيرة في المجتمع لم تكن تستطيع أو تجرؤ على مصافحة مسيحي في الطريق العام حتى لو كان صديقاً إلا بإيماءة بالعين أو حركة خفيفة بالرأس.

يخبرنا نوبار بقصة أخرى عن دور محمد علي في تغيير معاملة المسيحيين في المجتمع، عندما أرسل كبير السياس فرساً هدية إلى أحد أمناء سر محمد علي، وكان مسيحياً، ثم اكتشف محمد علي بعد ذلك أن الفرس به عيب، فنادي الموظف وسأله: "كيف اخترت فرساً به عيب لتعطيه لفلان؟" فرد عليه كبير السياس:"لكن الذي اخترته يا سيدي حسن جداً بالنسبة لكافر"، فقال محمد علي: "إن الكافر هو الذي لا ينفذ أوامري"، وأمر أن يعاقب في الحال وأن يضرب بالعصا على قدميه. لذلك ليس من العجيب أن يدافع نوبار عن محمد علي ويعتبره مصلحاً كبيراً مختلفاً عن حكام القسطنطينية غير الأوفياء الذين يتلقون أوامرهم من موسكو على حد وصفه.

كان نوبار يعرف اللغة الإنجليزية والفرنسية ويستطيع ترجمة الرسائل والخطابات، وهذا الأمر منحه مكانة مميزة في حاشية محمد علي. بعد فترة من عمل نوبار مع محمد علي، جاء إبراهيم باشا وطلب أن يلتحق نوبار بخاصته، طلب إبراهيم هذا الطلب لأنه يعتقد بشكوك والده نحوه، فأراد أن يزيح هذه الشكوك باستعارة رجل من خاصة والده ليصبح شاهداً ومترجماً لمحادثاته مع القناصل العموميين.

يسرد نوبار قصصاً من داخل قصر الوالي وهو في معية إبراهيم باشا، دلالة تلك الحكايات هي الصراع بين الأب محمد علي باشا وابنه إبراهيم، وشعور محمد علي أن إبراهيم يغدر به ويخطط للتمرد عليه وحبسه والانفراد بالسلطة. ظل هذا الهاجس يشغل عقل محمد علي، نرى في هوامش الحكايات وصفاً لحياة إبراهيم وعربته من طراز فيكتوريا العتيق، ويعلق نوبار بأن إبراهيم لم يكن من النوع الذي يتخلى ولو قليلا عن رفاهيته وعن كل ما هو مريح.

الحكايات من داخل البيت العلوي تدلنا على صراع حاد بين الأب وابنه، بل أن محمد علي أصدر أمراً بقتل ابنته نازلي بسبب جريمة قتل ارتكبت بتحريض منها للتخلص من عشيق لها، لكن عباس رفض قتل عمته وجلس ليلة كاملة يقنع محمد علي بالعدول عن هذا القرار. كان هاجس إبراهيم الخوف من إراقة الدماء وأن يأمر محمد علي بقتله مثلما فعل مع الأميرال التركي أحمد باشا الذي سلم الأسطول العثماني لمحمد علي بعد وفاة السلطان محمود 1839، وطلب الباب العالي تسليمه ورفض محمد علي لمدة أربع سنوات ثم قام بقتله.

يتضح لنا من هذه التفاصيل التي يذكرها نوبار شعور إبراهيم باشا بالغبن من والده، وأنه يشعر أنه يتلقى عتاباً ظالماً ليس له أي أساس من الصحة، وعندما استدعى محمد علي ابنه إبراهيم إلى قصره في شبرا، طلب إبراهيم من مملوكه أن يضرب بسيفه، فقال له مساعده من؟ فرد إبراهيم: من سيقوم بإعطاء الأمر لقتلي وهو تلميح إلى والده.

لم يكن إبراهيم باشا ينام الليل وكان لديه مشكلة أرق مزمن ويعاني من النوم المتقطع، وكان عادة ما يرسل في طلب نوبار ليسهر معه ويتجاذب معه أطراف الحديث كي ينسى همومه قليلاً، سأل نوبار ذات يوم العبد عمر الذي يسهر معهما منذ متى يعاني إبراهيم باشا من هذه المشكلة، فقال له "إن الرجال الذين قتلهم في الشام يجيئون لإيقاظه من نومه ليلاً"، يصف نوبار عبد إبراهيم باشا بأنه شخص بدائي لأنه لا يفهم فكرة الندم والشعور بالذنب وحولها لمعنى ملموس يقوم فيه القتلى بإيقاظ إبراهيم من نومه.

نستمر في التقاط الحكايات البسيطة التي يحكيها نوبار عن محمد علي وإبراهيم باشا، وكل حكاية تدل على شخصية هؤلاء الحكام، وتكمن براعة الكتاب في كوننا نحصل على عبارات وأفكار من لسان الباشا نفسه يفلسف فيها قراراته وأفكاره. فعندما سافر إبراهيم باشا إلى أوروبا اصطحب معه نوبار، ونرى إبراهيم يناقش نوبار في طبيعة المرأة الأوروبية. لحظة عجيبة عندما نرى إبراهيم يراجع مقولاته وأفكاره عن الغرب، ويتحدث مع نوبار قائلاً إن سامي باشا يقول إن المرأة تعيش في أوروبا حياة سيئة، ثم يحكي لنوبار أنه يشك في هذه الفكرة، لقد رأى سيدة في مدينة إيطالية وأعجبته وعرض عليها صرة من الذهب، لكنها رفضت صحبته ونهرته، هذا الرفض للباشا كان جديداً عليه وهو القادم من قصور تنتشر فيها الجواري.

 يحكي نوبار عن تأثر إبراهيم الذي أشعل النار وسفك الدماء في المورة، ويبكي عندما رأى حدائق أوروبا قائلاً انظر كم هي جميلة، إنه يرى بلاداً يعم فيها الرخاء، ويشعر ببؤس مصر. لكنها طموحات لم تثبتها الوقائع، لأن ولع إبراهيم بعائدات أراضيه كان يعميه عن أي رحمة بالفلاح البسيط. ونرى اهتمام إبراهيم بالمصانع وزيارته مصنعاً للنسيج والسجاد، وانبهر إبراهيم عندما رأى الشرطة تتدخل في مشاجرة في الشارع ويمتثل الناس لها قائلاً لنوبار هذه عظمة إنجلترا، وليس فقط في المصانع التي قمنا بزيارتها.

عندما زار إبراهيم باشا متحف قصر فرساي شرح له نوبار قصة اللوحات وخلفيتها التاريخية، ساعتئذ تغيرت معاملة إبراهيم لنوبار: وجد فيه رفيقا مثقفا يعرفه على التاريخ والفنون ويناقشه بود، وكان إبراهيم يراجع مع نوبار ماذا سيحكي لمحمد علي عندما يعودون إلى مصر وينبهه قائلاً أنت لا تعرف بعد العجوز عندما يغضب ويكشر عن أنيابه.

كان نوبار يتجنب إبراهيم باشا وهو تحت تأثير الخمر لأنه ينغمس في الحديث عن المعارك الحربية التي خاضها وبطولاته. نكمل شهادة نوبار بزيارة إبراهيم باشا إلى اسطنبول وطلبه الحصول على حق الولاية، وكان يعامل الأعيان في العاصمة بازدراء على عكس احترامه للأوروبيين، وسر هذه المعاملة الجافة لأنه كان يتذكر صراعه القديم مع الأتراك وتمرده عليهم ووصوله إلى الأناضول. لم يكن أحد يحبه في الباب العالي، كانوا يعتبرون إبراهيم متمردا سابقا ومغامرا ليس له ولاء للدولة، وتمنوا أن يتم موته سريعاً ليتخلصوا منه، وبادلهم إبراهيم التعامل باحتقار واستخفاف، وعاد إبراهيم إلى مصر ومرض في طريق العودة وفرح الأعيان بمرضه وارتسمت على وجوههم علامات السرور كلما سمعوا بتردي صحته، وخاف عباس بصفته خليفة إبراهيم أن يناله نصيب من غضب إبراهيم قبل موته فسافر إلى الحجاز، ومات إبراهيم وحضر الأعيان الجنازة وينقل لنا نوبار نداء الموظفين الكبار على الخدم ليجلبوا لهم الغليون وهم في غبطة بوفاته.

ينقل لنا صورة من جنازة إبراهيم باشا التي كلما اقتربت من المدفن قل المشعيون وانصرفوا، ووصل إلى المدفن الفلاحون فقط، وعندما وصل الخبر لمحمد علي قال "كنت أعرف، لقد حبسني، كان قاسياً معي، لقد عاقبه الله وأماته، لكني أجد لكوني أباه من الواجب أن أترحم عليه وأدعو له الله". يستمر الكتاب في تقديم الشهادات عن أسرة محمد علي ويسرد لنا قصصاً وتفاصيل عن حياة الأسرة العلوية وكيف كانت تدار الدولة حيث ترقى في المناصب وأصبح رئيساً للوزراء في عهد إسماعيل. تستمر المذكرات في وصف العهود اللاحقة مثل عباس وسعيد وإسماعيل والمراجع التاريخية تقف موقفا نقدياً من تجربة نوبار نفسه وتتهمه بالتسبب في الديون فضلاً عن الإثراء والتربح من منصبه.

كلمات مفتاحية