نقاشات سابقة لأوانها.. اللامركزية مثالاً

2024.05.03 | 06:29 دمشق

5877777777777777777777
+A
حجم الخط
-A

عديدة هي القضايا التي كانت وما تزال مثار جدل في صفوف نخبة الثورة والمعارضة من المثقفين والسياسيين السوريين، في وقت تذهب فيه سوريا شعبا وجغرافيا إلى المجهول، من دون أن يكون لذلك الجدل أي محصول إيجابي على أي من القضايا السياسية المقررة أمميا والتي هي محل تفاوض بين المعارضة والنظام كما في هيئة التفاوض واللجنة الدستورية وغير ذلك.

وأغلب هذه القضايا المثارة والمختلف عليها في صفوف النخبة الثقافية والسياسية للمعارضة ذات طابع سياسي فكري وقانوني كقضية شكل الدولة السورية المأمولة أو أيديولوجيتها أو بنيتها، ومن ضمن تلك القضايا تساؤلات حول أيه أفضل لمستقبل الدولة السورية، نظام اللامركزية الإدارية أم اللامركزية السياسية؟ وأسئلة حول ماهية الدولة وأيديولوجيتها هل هي علمانية أم ليبرالية أم مدنية؟

والحقيقة أن هذه النقاشات على أهميتها زرعت في صفوف النخبة خلافات وتحزبات وأورثتها عصبيات وانحيازات شللية وانقسامات على خلفيات أيديولوجية، أسهمت في حرف اهتمامها إلى حيث كان من المفترض أن يتوجه، من معالجة قضايا الشعب السوري الملحّة ابتداء بمأساة مخيمات اللجوء والنزوح، وصولا إلى مأساة الهجرة إلى أوروبا وكل بقاع العالم، وما بينهما من مآسي الحصار الذي يضربه كل من النظام والولايات المتحدة على الشعب السوري إلى مأساة الانهيار الاقتصادي وانهيار الليرة السورية ونزيف الكوادر الطبية وعشرات القضايا المعيشية والاجتماعية التي يعاني منها الشعب السوري والتي يفترض بالمعارضة أن تتصدى لها، من موقع مسؤوليتها الوطنية والثورية معا، فلا تتركها لنظام الأسد اللصوصي المفتقد لأي مسؤولية وطنية أو حس إنساني، يديرها ويتلاعب بها بالطريقة التي تخدم مصلحة بقائه.

وعودة إلى نقاشات النخبة فإن أقل ما يقال فيها إنها نقاشات سابقة لوقتها وفي غير أوانها، على الرغم من فائدة ذهنية ونفسية ومعرفية لا يمكن إنكارها لهذه النقاشات لاسيما حينما تدور في إطار منظّم، وعلمي، غير أن الملاحظ أن كثيرا من النقاشات تتحول إلى معارك ينقسم الخائضون فيها إلى جماعات متنابذة، تنتهي بمزيد من التفرقة والانقسامات، كما أسلفنا، والغريب بالفعل والمستهجن أن هؤلاء الخائضين غمار تلك النقاشات يتناسون اتفاقهم على مختلف القضايا، في وثائقهم، أو لقاءاتهم، أو في تياراتهم وأحزابهم، لكنهم يركزون جلّ اهتمامهم على الخلاف الوحيد، أيا كان موضوعه، سواء أكان موضوع الخلاف اللامركزية أم العلمانية أم أي عنوان آخر.

الحديث عن مركزية أو لا مركزية إن صح اليوم فربما لا يصح غدا عندما تستوي الأمور ويبدأ العمل الفعلي لبناء نظام جديد.

نعم إن فتح معارك وجبهات إثر كل موسم نقاشات تدور رحاها في أرض الفيسبوك الموحلة، أو في مجموعات الواتساب العامرة أورث النخبة السورية المعارضة مزيدا من التعصب والانغلاق وضيق الأفق، عدا كون الحديث عن مركزية أو لا مركزية علمانية أم مدنية أم اسلامية أم ليبرالية هو بحكم الضرب في الرمل، فنحن أصلا لا نعرف إن كان سيكتب للبلاد البقاء بحكم الوضع الكارثي الحالي الذي لا يوجد مؤشرات على تحوله إلى حالة أفضل.

فالحديث عن مركزية أو لا مركزية إن صح اليوم فربما لا يصح غدا عندما تستوي الأمور ويبدأ العمل الفعلي لبناء نظام جديد، لذلك فإنجاز اتفاق على مسائل أساسية مثل توحيد المعارضة وبناء مؤسسة سياسية رسمية وازنة تمثل السوريين في الداخل والخارج، وكذلك متابعة قضايا اللاجئين والنازحين ومعالجة مشكلات التعليم والصحة، خير من الاختلاف على مسائل تعد رجما بالغيب.

ومع ذلك دعونا نتحدث عن إحدى هذه المسائل مثار الجدل منذ سنوات أعني بذلك مسألة اللامركزية السياسية منطلقين من الوضع السوري الحالي: لا بد بداية من الإشارة إلى أن جدل المركزية واللامركزية هو جدل يتعلق بشكل الدولة فقط، ‏وبالنسبة لجزء من النخبة المعارضة - تحديداً قسد - تصوّر اللامركزية السياسية وكأنها الحل السحري للمسألة السورية، كما لو أن ملايين الشعب السوري خرجت في ثورة لأجل تحقيق لامركزية سياسية أو لامركزية إدارية.

والحقيقة أن كثيرا من السوريين يتحدثون عن فدرالية سورية، دون أن يتحروا معنى مصطلح فدرالية، فالفدرالية تعني "اندماج عدة دول في دولة واحدة بحيث تفقد الدول الأعضاء شخصيتها الدولية، وتصبح هذه الدول بعد قيام الاتحاد دويلات أو ولايات أو إمارات، وتنشأ شخصية دولية جديدة هي شخصية دولة الاتحاد المركزي التي تتولى جميع الاختصاصات الخارجية باسم جميع الأعضاء في الاتحاد، كما تتولى جانباً من الشؤون الداخلية لدويلات أو ولايات أو إمارات الاتحاد..". فهل سوريا مجموعة دول أو مجموعة دويلات، حتى تتجمع في اتحاد فدرالي؟ 

وعلى ضوء ما تقدم من توضيح لمعنى فدرالية، هل ستضمن اللامركزية السياسية التي تطالب بها قوات قسد مثلا، الحريات والتنمية المتوازنة المستدامة في مناطقها بحيث تمنح الحرية السياسية للأحزاب العربية والمواطنين العرب؟  

من ناحية أخرى ومن واقع الحال السوري فاحتمال تحول اللامركزية المقترحة إلى نظام مركزي ديكتاتوري في الأقاليم أمرا وارد، لتنتهي فيه سوريا إلى أربعة مركزيات ديكتاتورية أو أربع دويلات مركزية مستبدة كما هو الحال اليوم في شمال شرقي وشمال غربي. وبالتالي سنحتاج إلى ضمانات من أجل تطبيق لامركزية سياسية داخل نظام اللامركزية السياسية هذا.

الحقيقة إذا كان من أمل لتحول الوضع السوري الحالي الضعيف والمتشرذم في معظم المستويات إلى وضعية مستقرة، فربما نحتاج إلى دولة مركزية عادلة وإلى نظام قوي غير فئوي وعادل.

 ويمكن القول إنه في ظل الواقع السوري الحالي المهترىء حد التهتك لو طبق نظام اللامركزية السياسية أو النظام الفيدرالي فإنه سرعان ما سيتحول تلقائيا إلى فيدرالية تابعة وراضخة لعواصم الدول القوية المجاورة للأقاليم السورية "المتفدرلة" واحدة إثر أخرى لتصبح قطعا من "الحلوى الجيوسياسية" التي تثير شهية تلك الدول.

والحقيقة إذا كان من أمل لتحول الوضع السوري الحالي الضعيف والمتشرذم في معظم المستويات إلى وضعية مستقرة، فربما نحتاج إلى دولة مركزية عادلة وإلى نظام قوي غير فئوي وعادل (لن أقول استبدادا عادلا) وفق النموذج الصيني مثلا أو مشابه له، يجمع مابين مركزية سياسية عسكرية وليبرالية اقتصادية على سبيل المثال، فلماذا لا تثار نقاشات حول مركزية الدولة المستقبلية، مركزية ديمقراطية مثلا، أو مركزية مرنة، إذ إن المركزية لا تعني بالضرورة الديكتاتورية، وإن كانتا في التجربة الأسدية مسألتين متلازمتين.

والحقيقة فإن الذي يحدد ما هو صالح أو أكثر صلاحا لشكل الدولة أو نهجها الاقتصادي، لا يتعلق فقط بنوع شكل الدولة ونوع نهجها الاقتصادي، وكونه هو الأفضل لدول وبلدان في الشرق والغرب، فليس بالضرورة أن يكون نظاما صالحا في تونس أو مصر أو تركيا صالحا بالضرورة لسوريا، ولكن من الدقة بمكان النظر فيما يناسب بلدا مثل سوريا، في ظرفها الحالي، وإمكانياتها، ومن ثم اختيار نظام لشكل الدولة السياسي وبنيتها ونهجها الاقتصادي يناسب الظرف السوري الحالي، فليس النظام هو الغاية، ولكن سوريا هي الغاية.