نظام الأسد واستحضار الماضي

2022.10.12 | 06:21 دمشق

نظام الأسد واستحضار الماضي
+A
حجم الخط
-A

لاشكَّ أنَّ العودة إلى الماضي حالة تأملية تفرض ذاتها على الذاكرة البشرية، كما أنَّ العقل الإنساني بطبيعته يحاول العودة النوستاليجية إلى الأحداث الجميلة أو اللحظات السعيدة الماضية، على الرغم من أنَّ اللذة المستحضرة لا تتشابه مع ذلك الشعور المصاحب للحدث في لحظة وقوعه، لهذا فإنَّ علم النفس يبرِّر السلوك النكوصي لدى بعض الناس بأنَّه محاولة لتحقيق غايات معينة أهمها الرغبة الملحَّة في الشعور بالأمان المفقود في الوقت الحاضر، ولا سيما بعد مرور الإنسان بتجارب قاسية تفوق احتماله، والرغبة أيضاً في تجاوز تجارب الفشل فيكون النكوص نوعاً من الهروب الاضطراري لتحقيق التوازن الداخلي عند الإنسان.

وقد لجأ النظام السوري الحاكم في العامين الأخيرين لاتباع هذه الآلية النكوصية في التعامل مع الشعب عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي؛ لأنَّه يدرك ضمنياً بأنَّه قد دمَّر البشر والشجر والحجر، لذا فقد كانت العودة به إلى الماضي آلية استراتيجية قادرة على أن تعطي الشعب شعوراً بأنَّه يعيش في حالة من الاستقرار أو الأمان، ولتكون هذه الآلية بمثابة رسالة مباشرة إلى الدماغ تنصُّ على أنَّ المواطن يعيش امتدادات الماضي السعيد لا في جحيم هذا الحاضر المرير، وبأنَّ حقيقة انتصار النظام على أعدائه حقيقة واقعية يجب التعامل معها على أنَّها أمرٌ واقع وليست فكرة طوباوية من نسج خيالاته، في حين أنَّ الواقع يشير إلى غير ذلك تماماً، وما هذه العودة إلا عودة وهمية كاذبة لا تتصل بالواقع بأيِّ صلة.

على الرغم من أنَّ النظام منذ وصوله للسلطة قد حارب خشبة المسرح، فإنَّه عاد واحتكرها ضمن مؤسساته وقام بأدلجتها وفقاً لرؤيته

عمل النظام عبر إعلامه على ترويج نشاطات فنية متنوعة ترعاها السلطة السياسية، تكون هذه النشاطات شبيهة بما كان سائداً قبل الثورة السورية، فكانت البدايات مع تنظيم العروض المسرحية، على الرغم من أنَّ النظام منذ وصوله للسلطة قد حارب خشبة المسرح، فإنَّه عاد واحتكرها ضمن مؤسساته وقام بأدلجتها وفقاً لرؤيته، فطلب من الممثِّل محمد خير الجراح أن يعود ليلعب دوراً في الحياة المسرحية، وأن يؤسِّس فرقة مسرحية شبيهة تماماً بفرقة المهندسين المتحدين المسرحية التي كان قد أسَّسها الممثل المسرحي همام حوت وسخَّرها النظام لخدمة أيديولوجيته، وبذلك فقد أسَّس الجراح فرقة "مسرح سوريا" التي وُصفت بأنَّها تجمُّع نقابي شُكِّل تحت رعاية ووصاية نقابة الفنانين، وقدَّم أوَّل عروضه في مسرحية "سلطان زمانه"، وقد لفت الجرَّاح إلى أنَّ فكرة إحياء المسرح الشعبي يجعله يحمل هو وفرقته مسؤوليةً كبيرة، غير أنَّ حضور المسرح الشعبي مجدداً مع ما يصحبه من عملية التنفيس السياسي هو استعادة  لشكل من أشكال الرقابة السياسية على المسرح الذي يستطيع أن يصل إلى قاعدة شعبية واسعة، بالإضافة إلى استعادة الرقابة المخابراتية على الشعب نفسه من خلال طرح قضايا تمس حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بأسلوب فكاهي وهزلي.

وفي مجال الدراما عمد النظام إلى إعادة بعض الشخصيات الدرامية التي توقَّفت عن مزاولة المهنة أو أصبحوا ممَّن يزجُّ بأسمائهم كضيوف شرف في بعض الأعمال إلى الواجهة لممارسة ما يسمَّى بتلميع الوجه السياسي للنظام، كما فعل نقيب الفنانين محسن غازي حين دعا دريد لحام المعروف بموالاته للنظام ليترأس مجلس نقابة الفنانين باعتباره أوَّل نقيب للفنانين في سوريا ليعرب الأخير في حديثه عن أمله الكبير بالمستقبل انطلاقاً من التناغم الذي وجده خلال تلك الزيارة.

ومنذ أيام قام النظام بدعوة المطرب المصري هاني شاكر بهدف إحياء حفل فني في دار الأوبرا السورية في دمشق، على الرغم من أنَّ شاكر يعيش حالة أشبه باعتزاله للغناء، حيث توقَّف لسنوات طويلة عن إحياء الحفلات والمشاركة في المهرجانات، إلا أنَّ النظام تعمَّد  إحضاره إلى دمشق وقام بحملة دعائية كبيرة لحفلته وقام بتسعير بطاقة الدخول بثمنٍ بخسٍ لا يكاد يتجاوز الدولار الواحد فقط! مصمماً على أن يكون الحفل في الأوبرا على الرغم من محدودية مقاعد الحضور، فحدث ما خطَّط له بأن تزاحم الناس للحصول على تذكرة الدخول وعجَّت وسائل التواصل الاجتماعي بصور المتزاحمين والمتدافعين دون أن يخلو الأمر من بعض الشجار بين هذا الجمهور، فكتبت وسائل إعلام النظام عبر صفحاتها بأنَّ هاني شاكر في سوريا يغني للشعب السوري السعيد في دار الأوبرا في دمشق، ونقلت جريدة الوطن المحسوبة أو التابعة للنظام صوراً ترصد الجمهور السعيد الذي استمات لحضور ورؤية الفنان، ونقلت مقابلات مع معجبين له لتوجيه رسالة للخارج "بأنَّ السوريين يعيشون في بحبوحة"، وقال شاكر في تصريحات لوسائل إعلام سوريا إنَّه "كان يتمنى هذه الزيارة منذ سنوات طويلة، منذ غيابه عن آخر حفل في سوريا منذ 15 عاماً".

وقد سبق حفل هاني شاكر إقامة حفل آخر للمطربة اللبنانية نجوى كرم والتي تعيش مرحلة أفول فني كبير، وقد أخذت الحفلة طابعاً سياسياً واضحاً مع الإشارة إلى أنَّ كرم توالي آل الأسد منذ عهد الدكتاتور الأب، حيث صرحت لحظة وصولها لدمشق بالقول: "بأنَّها تشم رائحة النصر في دمشق"!!!.

هل يمكن أن ينجح أيُّ نظام سياسي شمولي في وقتنا الراهن بتسكين آلام الشعوب التي تعاني تقهقراً سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأخلاقياً من خلال استحضار الماضي؟

ولم يقتصر النظام على استحضار الماضي من خلال الشخصيات الفنية فحسب، بل إنَّه استخرج لنا من جعبته ما قد خبأه لنا من شخصيات سياسية كانت فيما سبق عماداً للنظام، إذ ناصرته وساندته في طفرة قوته التي انطفأت، ليعود النظام باحثاً عن جذوة من ذلك الماضي ليوهم الناس بعودة بريقه، ففي مناسبة انتخابات الإدارة المحلية التي تجرى في مناطق سيطرة النظام، يظهر في إحدى اللقاءات التي يجريها التلفزيون الرسمي للنظام لقاء مع الأمين العام المساعد السابق لحزب البعث عبد الله الأحمر، وقد يُخيل للكثيرين أنَّ الأحمر قد فارق الحياة منذ زمن بعيد،  وإذ به يظهر فجأة ليشارك في الانتخابات ممجداً الحزب ومسيرته "النضالية". كما قام النظام باستحضار شخصية سياسية أخرى وهو فاروق الشرع – نائب رئيس الجمهورية – لإيهام الشعب بعودة الماضي التليد وعودة النظام لقوته وجبروته.

وعلى الرغم من كلِّ ذلك يمكننا الآن أن نتساءل: هل يمكن أن ينجح أيُّ نظام سياسي شمولي في وقتنا الراهن بتسكين آلام الشعوب التي تعاني تقهقراً سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأخلاقياً من خلال استحضار الماضي؟ وهل يمكن للشعوب أن تعيش وهم السعادة والانتصار والأمان بأمر سياسي يفرضه دكتاتور يعتقد أنَّه انتصر بعد اقترافه الخراب والدمار المادي والمعنوي الذي ألحقه ببلاده؟