نحو خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط..

2023.09.20 | 06:43 دمشق

نحو خريطة سياسية جديدة للشرق الأوسط..
+A
حجم الخط
-A

يختصر الصراع الدولي اليوم بعنوانين هما، أمن الطاقة، ورسم خطوط التجارة الدولية لتأمين سلاسل الإمداد والتوريد، فالاندفاعة الاستراتيجية الأميركية الجديدة تتطلب البحث عن بدائل للغاز الروسي في منظومة أمن الطاقة الأوروبية، والبحث عن بدائل للصين في منظومة سلاسل الإمداد، ولن يكون لمنظومة دول الخليج إلا الدور والموقع الجغرافي وقوة الطاقة في رسم الخرائط في الإقليم، فيما بقيت وظيفة واحدة لنظم الممانعة في المنطقة والشرق الأوسط، وهي الصراخ عبر مكبرات الصوت تفخيماً بالإنجازات والانتصارات المزعومة، والتي لم تترجم حتى هذه اللحظة إلا بمزيدٍ من الفقر والقهر والانهيار والتهجير، الذي أدى حكما إلى تشظي المجتمعات السكانية وتفسخها وانفراط عِقد الوحدة الوطنية للدولة القُطرية، وإقفال صفحة الفكر القومي وتنظيراته التي ما أدت إلاَّ إلى تكريس الاستبداد بعد رصِّ الصفوف وحشد الجماهير تحت ستار قتال إسرائيل والشيطان الأكبر أميركا، في مقولات ممجوجة وإيديولوجيات بالية، ضاعت معها القضية وضاع معها الشرق في صيغته التعايشية منذ آلاف السنين.. فهي مسؤولية نظم العسكر التحررية الاستبدادية، ونُخَب المجتمعات التافهة، الحاملة في بطونها بذور برجوازيات صغيرة حالمة _عبر التدليس والكذب والاستزلام _ الوصول إلى جنات الحكم ونعيم السلطة، عبر تجديد التبعية الكولونيالية جيلاً بعد جيل.

لقد تكامل وأنتج خطاب النظم الحاكمة في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن والسودان ظروف البدء بالعمل على ضرورة إعادة رسم الخرائط الجيوسياسية لبلدان شكلت لفترات زمنية طويلة حالة "باسماركية"، قومية بالشكل وعائمة على بحور أزمات مجتمعية واقتصادية ودينية وسياسية من الداخل، فاكتمل نضوج بذرة التغيير للتخفيف من وطأة القهر والظلم والاستبداد الممارَس، والولوج إلى محميات فيدرالية للمجتمعات يُسمِّيها البعض "لا مركزيات موسعة" تخفيفاً للصدمة، لكنها في حقيقة الأمر تقسيمٌ فيدراليٌّ مبرمج وممنهج، وائتلاف صيغة جديدة للعيش والتعايش بما يحفظ أمن الشعوب حتى لو خسرت مقدراتها وخيراتها كضريبة واجبة للخارج (لبنان والترسيم البحري وأخذ إسرائيل كامل حصته الغازية- العراق أربيل واليوم كركوك على الطريق).

لن تقبل السلطة الحاكمة في لبنان بأحزابها ومجمعاتها الطائفية والمذهبية الذهاب إلى المحاسبة ممَّن تورَط وسرق المال العام ومال الشعب، لفرض سيادة القانون على الجميع، لأنها بذلك تحمل نعشها بأيديها وتُساق إلى مذبح المحاسبة والمساءلة، فالأسهل لها هو تقديم عروض ومغريات للخارج الباحث عن إعادة تشكيل جديد لمصادر الطاقة والغذاء، والأسهل لها كذلك المساهمة بفرط المكونات المجتمعية بصيغتها التعايشية نتيجة الترهل والضعف في إحكام قبضة الحكم، بعد انتهاء مفاعيل الشعارات والخطابات التي جسدت مفهوم الدولة الوطنية السيادي وتحلُّل الكثير من مزاياها..

بسبب التسلط والاستبداد العنفي الممارس من قبل النظم الحاكمة لعقود من الزمن، تترهل القبضة الأمنية وتتعثر التنمية بعد أن تتكلس مفاصل الدولة بسبب الاستزلام واستشراء الفساد والمحسوبيات

في سوريا التي شكلت تاريخياً عمقاً إستراتيجياً لمفهوم الدولة القومية في محيطها الإقليمي، لن يستمر النظام الحاكم إلاَّ من أجل تسليم البلد جثة متحللة لضباع الاقتصاد والمافيات المحلية والدولية (فاغنر_العشائر وتوابعها_الفصائل الإيرانية_قسد)، بعد أن فوَّت هذا النظام وتركيبته السياسية_الأمنية، وعلاقته الكولونيالية بنظام الحكم الديني في إيران، العديد من فرص التسوية للدخول إلى حل سياسي انتقالي يحفظ البلد وكرامة الشعب، ويعيد سوريا إلى دورها السيادي مع أشقائها العرب وبلدان الخليج.

بسبب التسلط والاستبداد العنفي الممارس من قبل النظم الحاكمة لعقود من الزمن، تترهل القبضة الأمنية وتتعثر التنمية بعد أن تتكلس مفاصل الدولة بسبب الاستزلام واستشراء الفساد والمحسوبيات، فتضعف سلطتها ويقوى استبدادها حتى في العاصمة، ونتيجة المكابرة واستعصاء التغيير، تلجأ السلطة إلى تدبير ميليشياوي في التسليح وإطلاق سلطة فئوية مسلحة تتناسب مع كل نطاق جغرافي، توازي سلطة الدولة النظامية، فتعيث تخريباً ودماراً وسرقة ونهباً حتى تتوزاى سلطاتها بل وتتفوق على الدولة والشرعية، وساعتها ندخل في تقسيم حقيقي لجغرافيا الكيان، بعد أن تتحدد الخريطة الاقتصادية الجغرافية داخل البلد وكعكة التقسيم (حقل العمر النفطي في سوريا وغيره- جنوب السودان واليوم دارفور).وهذا ما جناه النظام الحاكم في السودان بعد فرط عقد الحكم المدني وتسلّم العسكر وتغليب الجنجويد على إخوانهم ودعمهم، والتي صار اسمها قوات الدعم السريع.. وها هي اليوم على أبواب تقسيم وانفصال جديد، فضاعت التنمية بعد أن ضاع النفط والذهب وتدمرت البنى التحية للبلد.

هذا التجميد لحلول أزمات المنطقة في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، ينتظر ظهور وتفعيل حدثين كبيرين على مستوى الشرق الأوسط، الأول متعلق بتنفيذ اتفاقية الممر الاقتصادي في قمة العشرين في نيودلهي الذي يربط آسيا بأوروبا عبر الشرق ودول الخليج، ووضع الهند كقاعدة إنتاج ذهبية منخفضة الكلفة مقابل الصين التي قطعت أشواطاً في بناء طريق الحرير، كخط مواز ومواجه اقتصادياً. كذلك إعادة تفعيل مبادرة السلام العربية التي طرحتها السعودية عام 2002 ليضمن الأميركي موقف الرياض الثابت تجاه التطبيع مع إسرائيل، على قاعدة البدء ببناء تسويات وتثبيت الاستقرار الإقليمي، ومنه تكر سبحة التسويات في المنطقة والمربوطة حكماً بدرجة قاعدة الإنتاج والعلاقات الاقتصادية الدولية الجديدة المتشكَّلة.

الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته اليوم هي في وضعية الاستنفار، حيث إنه يحاول استكمال طروحاته بما يتعلق بالشرق الأوسط منذ أن كان نائباً للرئيس أوباما

ويأتي إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط ضمن هذه الترتيبات الملائمة لعلاقات الإنتاج العالمية الجديدة، والتي تتطلب بغالبيتها القيام بالضم والفرز والتقسيم والتعديل على حدود الدول وفصل المكونات السكانية بما يتلاءم مع الولاءات الجديدة والتعديلات في نظم الحكم، فثمة تحوُّلات تعصف اليوم بالشرق الأوسط وترسم الخطوط العريضة لمستقبله ومصير كياناته السياسية وموارده الاقتصادية. وهو ما مهدت له وتمهد له نظم الحكم التسلطية في الشرق الأوسط والقيام بالخطوات الأخيرة عبر التفريط بمكانة وسيادة الدولة ذات البعد القومي وبشكلها الحالي.. أما لناحية النجاح أو الفشل فتلك مسألة تعود إلى قوة موازين القوى الدولية المفروزة في فرضها التسويات في الإقليم، وكذلك التجمعات الإقليمية الوازنة كمجلس التعاون الخليجي الذي حجز له مكانة خاصة في إعادة ترتيب النظام الدولي الإقليمي، وقوة كل جهة في تعزيز مكانتها الجديدة ومصالحها الاقتصادية.

الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته اليوم هي في وضعية الاستنفار، حيث إنه يحاول استكمال طروحاته بما يتعلق بالشرق الأوسط منذ أن كان نائباً للرئيس أوباما، فكانت له رؤيته في أزمة العراق وملف الأكراد ومعها الصراع العربي الإسرائيلي التي يريد إعادة تسويقها لتحقيق إنجازات قبل انتهاء ولايته الحالية. وبايدن هو مبتكر فكرة العراق القائم على نظام كونفدرالي بثلاث رؤوس، شيعي- سنّي- كردي.

وفي الملف الفلسطيني، فيتبنّى بايدن فكرة قيام دولة فلسطينية، مع تقديم الضمانات لإسرائيل حول حدودها وأمنها ومواردها، فمن الواضح أنّ الشرق الأوسط يشهد اليوم غلياناً في اتجاه تحوّلات تعمل لها واشنطن وتظهر ملامحها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان والمناطق الفلسطينية وبعض دول شمال أفريقيا، حيث هناك اعتماد سياسة تدعيمية لعلاقات واشنطن بالقوى الإقليمية الفاعلة ومن هنا كان الاستيعاب الأميركي لإيران والمحاولة قدر الإمكان إبعاد المنطقة عن النفوذ الصيني الذي اجتاح مؤخراً الشرق الأوسط وأفريقيا.

التكتيك الذي تعتمده إدارة بايدن حالياً يقضي بتدعيم علاقات الولايات المتحدة بالقوى الإقليمية الفاعلة، بما فيها إيران، بهدف استيعابها جميعاً في محور واحد، وإبعاد المنطقة عن النفوذ الصيني الذي تَقدّم خطوات في السنوات الأخيرة. فاليوم، يعجُّ الشرق الأوسط بتطورات سياسية وعسكرية واقتصادية على صفيح ساخن، حيث يتفاوض الكل مع الكل لتحقيق المكاسب وإبرام الصفقات، وبالنتيجة: الأقوياء هم الذين سيتقاسمون الحصص ويرسمون معاً مستقبل الكيانات الضعيفة والغارقة في أزماتها بلا أفق، ولبنان وسوريا ضمن هذه الحصص والترسيمات.