نحن والثورة المضادة

2023.03.27 | 05:54 دمشق

نحن والثورة المضادة
+A
حجم الخط
-A

لم يكد بشار الأسد يعود من رحلة إلى روسيا الاتحادية قبل أيام حتى بدأ زيارة للإمارات العربية المتحدة. وما إن رجع منها حتى نقلت وكالة رويترز خبراً عن قرب عودة العلاقات الديبلوماسية بين نظامه وبين المملكة العربية السعودية، التي صرّحت وزارة خارجيتها أنها تبحث مع نظيرتها في دمشق استئناف تقديم الخدمات القنصلية.

هذه ذروة في علاقات النظام الخارجية، سبقتها زيارات بعد الزلزال الذي تأثرت به الأراضي السورية وتضررت جدياً وأدى إلى ضحايا ودمار كبير، مما كان فرصة لإظهار تعاطف عدد من الدول التي رغب بعضها في ما هو أكثر من مجرد المؤازرة العارضة.

وقد بات من نافل القول إن السوريين الثائرين وجدوا قضيتهم جزءاً من تعقيدات عالم عريض اصطف فيه كثير من الأعداء في مواجهتهم، بعضهم أصلي بموقف ثابت ودعم فاعل للنظام، كإيران وروسيا، وبعضهم من الدول العربية التي أخذت تتبنى سياسة متزايدة الوضوح ضد الربيع العربي، والسوري ضمناً.

ردة فعلنا الأكثر شيوعاً على تحركات كالتي حصلت هي القنوط والإحباط والشلل. فما يجري «قدر» قاس ينبع من مؤامرة تتكشف خيوطها تباعاً

من جهته لم يطوّر جمهور الثورة وعياً سياسياً نامياً رغم انخراطه في السياسة منذ أن هدف إلى تغيير الحكم. ولذلك أسباب يرجع بعضها إلى التاريخ العميق الذي أورثنا ذهنية النصر المطلق أو الهزيمة الساحقة، فنحن «أناس لا توسط بيننا» ولا مسايسة، ويعود بعضها الآخر إلى الماضي القريب لسوريا التي لم تعرف الحياة السياسية إلا لوقت قصير، وأضيفت إلى ذلك ظروف الحاضر من الإنهاك والتعرض الطويل للوحشية مما يدفع إلى الخيارات الحدية.

ومن هنا فإن ردة فعلنا الأكثر شيوعاً على تحركات كالتي حصلت هي القنوط والإحباط والشلل. فما يجري «قدر» قاس ينبع من مؤامرة تتكشف خيوطها تباعاً، أطرافها أقوى منا بكثير، ستطبِق علينا دون أن نتمكن من فعل شيء حيالها سوى «الاستشهاد» أو الاستعداد للعودة صاغرين إلى حظيرة الأسد المتأهبة بدورها لقتلنا.

في المقابل نعتقد أن علينا أن نضع كلمة «أصدقائنا» بين قوسين، أو أن نصفهم بالمزعومين، بما أنهم لم يخوضوا إلى جانبنا معركة وجود صفرية. وأن نوبّخهم على ما نرى أنه خيانة لما يزعمونه من دفاع عن الحريات وحقوق الإنسان، التي نعلن أننا لا نشاركهم الإيمان بها لكننا نودّ الاستفادة منها فقط ونطلب منهم دفع ثمنها الأعلى.

باختصار، نريد منهم أن يهبّوا لنجدتنا بحالة من «الفزعة» أو يحتوونا بنوع من «الإجارة»، وإلا سنسلقهم بألسنة حداد صارت أقوى ما نملك بعد تراجعنا العسكري وتعثرنا الصارخ في بناء البديل المدني.

ولإحكام طوق اليأس على أنفسنا نلجأ إلى آليات متعددة. ففي قراءة الأخبار نعمد إلى إهمال المعلومات التي في صفنا، معتبرين أنها «مجرد كلام» لا يغني ولا يسمن من جوع، والتقاط ما قد يؤدي إلى الانفتاح على الأسد أو تعويمه، رافعين هذا النوع من التصريحات أو التسريبات إلى رتبة الحقائق الثابتة التي لها ما بعدها مما جرى الاتفاق عليه في السر، بغرامٍ لا نستطيع الانفكاك عنه مع ما هو «تحت الطاولة» أو «وراء الكواليس» أو «خلف الأكمة»، دون اكتراث بما يُطرح على الطاولة من معطيات.

الآلية الثانية هي علاقتنا مع جدلية الحق والقوة. ففي حين نُعلي من شأن الحق ونؤكد حتمية انتصاره في القصائد وفي ما تيسر من «كلمات نارية» في المناسبات؛ فإننا ننجذب فعلياً إلى القوة سواء أكانت في أيدينا أو في حوزة خصومنا، ظالمة معظم الأحيان وعادلة في أوقات قليلة. لا نعتقد أن للحق حلفاء طالما أننا نرى أن العالم متاهة من الصفقات الخفية والتحالفات الشيطانية في الغرف المظلمة. أما من يؤمن منا بقوة الحق فيفعل ذلك بمعنى مطلق وفوق بشري، حين لا يتطلب انتصاره أي نوع من السياسة بل يتناقض معها، فالنصر يتنزّل بلا أسباب سوى الثبات على الموقف الذي يعتنقه المرء. وهي الحالة التي ظهر تجليها الأبرز في داعش التي انتظرت تدخلاً إلهياً في معقلها الأخير في الباغوز.

حصيلة ذلك أننا نؤمن بالضربة القاضية ونزهد في تسجيل النقاط، في حين أن السياسة إحراز تطورات متراكمة، والحرب نتيجة مجموعة من المعارك، والنصر ابن مسار طويل من الجهد الذي غالباً ما يكون مضنياً ومستمراً.

لا بد من السياسة في نهاية المطاف. ولا شك أن أحد أهم أسباب خلو مقعدنا في الاجتماعات المخصصة لسوريا هو ضعفنا في السياسة

في الواقع يبدو ما حققه الأسد في الآونة الأخيرة محدوداً، فهو مشروط بما لا يقدر عليه من تقليص النفوذ الإيراني مقابل الانفتاح العربي، ومحدود بسقفٍ تناور تحته بعض الدول بما لا يكسر العقوبات الأميركية المحددة بقانون قيصر، وهو ما يشدد عليه سياسيون أميركيون ينتقدون تراخي إدارة الرئيس جو بايدن في تطبيقها، ويؤازره موقف أوروبي صارم لا يقرأ شتائمنا للعالم على وسائل التواصل ولا يبني سياساته بأخذ «غضبتنا المضرية» في الاعتبار.

لا بد من السياسة في نهاية المطاف. ولا شك أن أحد أهم أسباب خلو مقعدنا في الاجتماعات المخصصة لسوريا هو ضعفنا في السياسة، إذ نفهمها خطباً تؤنب ممثلي الدول أو تقارير نرفعها لمقامهم، مراوحين بين الاستعداء والارتهان. لكل ذلك أسبابه لكننا مضطرون إلى تجاوز عطالتنا للإسهام في إخراج بلدنا من الاستعصاء وإدارته من جديد. فقوى الثورة المضادة عارضة تاريخياً ولو كانت «طويلة العمر».