موسكو – واشنطن.. أشواط الصراع في سوريا

2019.10.03 | 19:25 دمشق

gty_kerry_lavrov_2_kab_140305_33x16_1600.jpg
+A
حجم الخط
-A

تزامن إعلان المبعوث الدولي السيد غير بيدرسون يوم 23 – 9 – 2019 عن تشكيل اللجنة الدستورية، مع ارتفاع الشهوة الروسية للحديث وبرغبة جامحة عن ضرورة إعادة الإعمار في سوريا، ووفقاً لبوتين، فإن روسيا أنجزت ما كانت تعد به الأمريكان والأوربيين على حد سواء، وهو تشكيل لجنة لكتابة دستور سيكون مدخلاً لحل سياسي في سوريا. واقع الحال يؤكد أن الرئيس الروسي بات في حرج، من شأنه أن يزيد من حنقه، ذلك أن مسألة ما يُدعى بـ (إعادة الإعمار) إنما تعني الحصاد الاقتصادي للحرب التي شنها على السوريين، وخاصة أن بوتين قد وعد الشعب الروسي بجني غلال وفيرة من حربه في سوريا، وربما أسهمت هذه الغلال في إنعاش روسيا اقتصادياً، إلّا أن غلّة الحرب الروسية كلّما اقترب أوان جنْيها – حسبما يتخيّل بوتين – يأتي دور الغرب المُعطِّل، ليُبعد اللقمة التي أوشكت من الاقتراب إلى الفم الروسي.

لعبة التجاذب والتنافر بين موسكو وواشنطن على الأرض السورية منذ عام 2011 حتى الوقت الراهن، يمكن أن تختزل قسماً كبيراً من المعاني والتداعيات التي تنطوي تحت المفهوم التقليدي لـ (الحرب الباردة)، علماً بأنه كلّما اشتدّت سخونة هذه الحرب على الأرض السورية، أصبحت الحرب بين الروس والأمريكان أكثر برودة، ففي آب من العام 2013 ارتكب نظام الأسد جريمة الكيماوي بحق سكان الغوطة، ما دفع الرئيس أوباما إلى تحريك البوارج الحربية الأمريكية في مياه المتوسط إنذاراً بتوجيه ضربة عسكرية رادعة لنظام الأسد، إلّا ان بوتين نجح – إذ ذاك – بامتصاص سخونة الموقف الذي كان ينذر بالاشتعال، وتحويله إلى صفقة، اقتضت تجريد النظام من مخزونه الكيماوي، مقابل انكفاء أوباما عن التعاطي العسكري مع نظام دمشق، لقد تمت تلك الصفقة بهدوء وسلاسة، أعقبها جولات ماراتونية بين (جون كيري – لافروف)، منحت الروس – في حينها – تفويضاً أمريكياً لبوتين، ليفعل ما يراه مناسباً في الشأن السوري، وقد أصبح هذا التفويض باعثاً أكبر للثقة، حين أدرك بوتين أن الحرارة ارتفعت بشدّة تحت أرجل نظام الأسد، وما عاد بمقدوره المكوث في السلطة إن بقيت الأرض ملتهبة، عندها قرر بوتين الشروع بانتشال بشار الأسد مما هو فيه، فكانت حربه الإجرامية على السوريين في نهاية أيلول عام 2015 ، تلك الحرب التي أعادت لنظام الأسد تماسكه وتوازنه، ومكّنته من استعادة السيطرة على معظم الجغرافيا التي انحسرت سلطته عنها منذ العام 2012.

كلّما اشتدّت سخونة هذه الحرب على الأرض السورية، أصبحت الحرب بين الروس والأمريكان أكثر برودة

برودة التيار الممتدة منذ عام 2015 بين واشنطن وموسكو، ترتفع درجات حرارتها مع ولادة مُنجَز روسي جديد، وأعني (اللجنة الدستورية) التي باتت – كما يراها بوتين – العتبة الفعلية للدخول إلى مرحلة جنْي الغلال، إلّا أن ثمة منغّصات قد باغتت النشوة الروسية، ذلك أن الأمريكيين هم من بادر بالتسخين هذه المرة.

فعلى الرغم من الترحيب الذي أبدته الإدارة الأمريكية بإعلان بيدرسون عن نجاح مساعيه في تشكيل اللجنة الدستورية، إلّا أن تزامُن هذا الترحيب مع صدور مواقف أميركية أخرى، قد جعل موجات التدافع بين الطرفين تزداد سخونة، ما جعل الترحيب الأميركي ينقلب إلى طور تصاعدي جديد في حدّة صراع المصالح الأميركية الروسية في سوريا.

حديث المندوبة الأميركية ( كيلي كرافت) في مجلس الأمن يوم 30 أيلول الماضي، أثناء الاجتماع الشهري لمجلس الأمن بخصوص الشأن السوري، لم يكن صادماً لروسيا فحسب، بل يحمل تهديداً واضحاً بالعودة إلى المربع الأول من مراحل الصراع في سوريا، ذلك أن اشتراطات واشنطن بوجوب مغادرة الميليشيات الإيرانية من سوريا، ووقف العنف في إدلب دون شروط، والإفراج عن (128000) معتقل في السجون السورية، والسماح للمنظمات الدولية بتفتيش وتقصّي السجون، فضلاً عن تصريحات جيمس جيفري في السياق ذاته، وتأكيده على (استحالة عودة نظام الأسد إلى إشغال مقعده في الجامعة العربية) بهدف فرض استمرار عزلته العربية، إضافة إلى الموقف الفرنسي الرافد للموقف الأميركي، والذي يشترط – هو الآخر – وجوب محاكمة مجرمي الحرب في سوريا، ووقف العنف في إدلب، كشروط أساسية تمهّد لعملية إعادة الإعمار. وعلى الرغم من مشروعية هذه الاشتراطات، بغض النظر عما تريده واشنطن من طرحها، فإن بوتين لا يرى فيها سوى كوابح أميركية أوروبية، تحول دون نجاح الاستثمار الاقتصادي لمنجزه العسكري في سوريا، الأمر الذي دعا (فاسيلي نيبينزيا)، مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة باتهام الدول الغربية بأنها تفتعل مبررات جديدة لعدم مشاركتها في عملية إعادة الإعمار.

هل نحن – السوريين – أمام بداية (شوط) جديد من أشواط حرب المصالح الأميركية الروسية؟ ما تؤكّده مجمل المعطيات يوحي بأن تشكيل اللجنة الدستورية سيكون نقطة البداية لمسار جديد، لعلّه شبيه بمسار مفاوضات أستانا، ولن يكون عمل تلك اللجنة مرتبطأً بأصولها المرجعية، سواء القرارات الدولية التي نصَّت عليها، أو اللائحة الإجرائية الناظمة لعملها كما حدّدتها الأمم المتحدة، إلّا من حيث الشكل فقط، أمّا من حيث المضمون فسيكون عملها غطاءً زمنياً لأمرَين اثنين: أولهما استمرار نظام الأسد وحلفاؤه باستئصال ما تبقى من بؤر المقاومة المسلحة، والإجهاز على ما تبقى من مناطق ما تزال خارج سيطرة النظام، وثانيهما فصل ثالث (بعد فصل الكيمياوي 2013 ، والعدوان المباشر 2015) من فصول الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو.

وفي الوقت الذي يبدو فيه بوتين على درجة قصوى من الاستعجال إلى فرض حل سياسي في سوريا يتماهى مع مصالحه وأمانيه، وذلك استكمالاً لاستثمار حربه على السوريين، إلّا أن الأمريكان لا يبدو أنهم على ذات الدرجة من الاستعجال، ففضلاً عن كون القضية السورية ليست أولوية لدى واشنطن، فإن الرئيس ترامب على ما يبدو قد يكتفي بالذهاب إلى الانتخابات المقبلة في تشرين ثاني من العام 2020 ، وفي جعبته منجزان، النمو الاقتصادي المتصاعد وانخفاض نسبة البطالة داخل الولايات المتحدة الأمريكية، والانتصار على داعش في كل من العراق وسورية، ولعله لا يرغب في المغامرة بأيّ مبادرة خارجية قد تقلّل من شأن مُنجزيه السابقين.

في الوقت الذي يبدو فيه بوتين على درجة قصوى من الاستعجال إلى فرض حل سياسي في سوريا يتماهى مع مصالحه وأمانيه، وذلك استكمالاً لاستثمار حربه على السوريين، إلّا أن الأمريكان لا يبدو أنهم على ذات الدرجة من الاستعجال

ولئن كان الأميركيون، ومن خلفهم الأوربيون، يبدون أهميّة كبيرة – كما يخيّل إلينا – بإدانة نظام الإجرام الأسدي، وضرورة محاصرته وعدم إفلاته من العقاب، جرّاء ما مارسه بحق السوريين، فضلاً عن الاستمرار في محاصرته وتجريده – أخلاقياً – من أية شرعية، فإن هذه المواقف التي تبدو على أنها انحياز إلى نصرة قضية السوريين، إلّا أنها – من حيث دوافعها وغاياتها – محكومة بسيرورة صراع المصالح الأميركية الروسية، فهي عُرضة للتبدّل وعدم الثبات، ذلك أن الشرَّ الكامن في نظام الأسد، يبقى شراً أخلاقياً هم غير معنيين بمكافحته طالما أن تداعيات شروره لا تمس مصالحهم (الأسد عدو لشعبه ولكنه ليس عدواً لنا) بحسب تعبير ماكرون، بل ربما يكون التحالف مع حوامل الشر أمراً تقتضيه المصلحة الأميركية أو الأوروبية في لحظة ما.

إن استجداء المواقف القيمية من هذا الطرف أو ذاك، أو من العالم أجمع، يبدو أنه شديد البؤس، في وقت نشهد فيه وحشية القوة تُزهق نصاعة الحق، وتعاظم مفهوم المصالح يُخرِس منطق المبادئ، فهل مازال متاحاً أمام قوى الثورة السورية أن تشتق لنفسها داخل هذه المعادلة مساراً ينقلها من حيّز الاستعطاف المجاني، إلى حيّز الفعل الإيجابي الذي يحافظ على نقاء الهدف ومشروعية الوسائل؟.

بالتأكيد إنه أمر مُتاح، ولكنّ تحققه مشروط بتحقق أمر على غاية الأهمية، وهو خروج السوريين من حالة (اليُتْم) ووجود كيان سياسي وطني يدافع عن المصالح الوطنية السورية مثلما يدافع الروس والأمريكان عن مصالحهم.