icon
التغطية الحية

مواربات الحزن والفرح

2023.10.06 | 07:57 دمشق

عرس
(اللوحة: ابتسام العصفور)
+A
حجم الخط
-A

يندر أن يأتي الفرح أو الحزن خالصاً، بل يصعب أحياناً التمييز إن كان ما نحسه حزناً ممزوجاً بفرح، أم فرحاً ممزوجاً بحزن أم أن أحدهما يتقمَّص الآخر.

 لذلك لا غرابة أن تستعير بعض الجنازات هيئة الأعراس، وبعض الأعراس هيئة الجنازات.

أتذكَّر مرة أنني كنت ومجموعة شباب من أصدقائي نشارك في تشييع ودفن امرأة من أقارب أحدنا، وفي لحظة إنزال المتوفاة في قبرها وارتفاع صوت النحيب، تفلَّتتْ ضحكة غامضة، ثم لم نعد نتمالك أنفسنا من الضحك، الأمر الذي جعل كثيرين ينظرون إلينا باستهجان ونحن ننسلُّ من بين المشيِّعين وخطواتنا تتعثر بقهقهاتنا.

هل ضحكنا بدافع دراما المفارقة، أم لمعرفتنا بأن الأعلى نحيباً وندباً من أبناء المرأة المتوفّاة كان الأبرع تمثيلاً والأكثر طمعاً بالإرث، أم لأن البكاء يستبطن نقيضه كما يستبطن الضحك نقيضه؟

أليس الضحك في تراثنا الشعبي مدعاة شؤم؟

ما أكثر ما نسمع، إثرَ كل موجة ضحك، أحداً يقول: "الله يعطينا خير هالضحكة".

*   *   *

عند أقاصي الحزن تأخذ الولاويل شكل الزغاريد، وعند أقاصي الفرح تأخذ الزغاريد شكل الولاويل، والدمع في الحالتين سيد العواطف العميقة المتلاطمة!

الحزن يستجرُّ الدموع كما يستجرُّها الفرح، ولا أدري إن كانت هناك نتائج مخبرية تحدِّد نسبة الملوحة في هذه الدموع أو في تلك.

في قريتنا "تير معلة" التي تبعد بضعة كيلومترات إلى الشمال من مدينة حمص، هناك حيث تتكئ على سفح ينزلق متهادياً مئات الأمتار باتجاه الغرب نحو نهر العاصي، يحدث ما لا سبيل إلى فهمه خارج ما أتحدث عنه من مفارقات لا سبيل إلى فهمها بغير التحليل والتأويل، وربما استدعاء التاريخ والأساطير.

في تقاليد قريتنا هذه، التي عشت فيها طفولتي وشبابي، ما يزيد لغز الفرح/ الحزن غرابةً وتشويقاً، إذ تستعير أعراسُ القرية الكثيرَ من ملامح الجنازة.

لا أحد يعرف من أين جاءت هذه الملامح أو تلك التقاليد، التي لا يوجد شبيه لها في القرى المجاورة. ولهذا لا أحد يمكن أن يجادل في احتمال أن تكون بقايا طقوس سومرية أو بابلية أو سورية قديمة أو رومانية.

*   *   *

 في العادة يمتد العرس لثلاثة أيام، ويمكن لميسوري الحال أن يجعلوه أسبوعاً.

عصر اليوم الأخير من العرس، يذهب أهالي القرية نساءً ورجالاً، شيباً وشباناً وأطفالاً، إلى المقبرة، لأن التقاليد تقتضي أن تكون حلاقة العريس و (تلبيسته) داخل المقبرة!

هناك.. يتراصف الرجال على شكل سلسلة دائرية يصنعونها بأذرعهم المتشابكة على الأكتاف، كما لو أنهم يشكِّلون سياجاً حول العريس الجالس بين يدي الحلّاق على حجر في منتصف الحلقة.

تترافق الحلاقة مع غناء ينطوي على امتداح لمناقِب العريس، غناء يشبه الكورالات الكنسية، يؤديه الرجال بملامح فيها مزيج من المهابة والكبرياء والهواجس الغامضة، وبصوت جماعي مليء بالقوة والألم، بالتحدي والانكسار، بالرجولة المتعالية على ما فيها من طعنات غائرة، وبكل ما ينطوي عليه مقام الهُزام، الذي ينظم غناءهم، من حزن فاجع وعميق الأصداء.

 صوت جماعي ذو إيقاع بطيء بطيء، تمتد فيه معظم الحروف إلى نهايات الموج والغربة والوجع:

"يااااااا نسر يا نسر يا شاااا يب الراااااس     

ماااااا لك على الجووووووع قيييـيـيـيـوَّة

وإن كاااااان مأكووولك لحم ضاااااااااان    

حَيِّدْ على العريس تلقى المريـيـييـيوَّووة..".

 وكما في المجتمعات الذكورية عموماً، فإن مكان النساء في إحدى الجهات خلف حلقة الرجال، تلوِّح أيديهن بمناديل ناعمة ملوَّنة لا تكاد تقوى على الندب والهواء. حركات هي أقرب إلى الوداع، وهنَّ يهزجن بألحان شجيَّة، تستحثُّ حتى الخيول على الدمع. 

يتخلَّل كل ذلك إطلاقات رصاص من حلقة الرجال، تتداخل معها زخَّات من زغاريد النسوة، تخفق وترتعش مثل أجنحة صغيرة يتناثر ريشها، وهي تخضِّب الفضاء بما يشبه الولاويل.

 يستمر هذا الطقس حتى انتهاء الحلاقة وإلباس العريس ثيابه الجديدة داخل الحلقة، ثم يغادر الجميع المقبرة لإيصال العريس إلى عروسه. المتزوجون يحيطون بالعريس، الذي صار منهم وفيهم، وذلك لحمايته من هجمات العُزَّاب لأنه خانهم وقرَّر الزواج.

وقد حدث مراراً أن الحماقة بلغت ببعض العُزَّاب إلى حد الخروج من الطقس الرمزي لمعاداة العريس على تنكّره للعزوبية إلى حدّ الانتقام بالضرب الحقيقي المبرِّح.

تُرى، ما علاقة العرس بالمقبرة؟

ما علاقة الغناء الحزين بالعرس؟

ما علاقة الموت بزواج ستنجم عنه ولادات وولادات؟

وما علاقة تموز وعشتار في كل ذلك؟

*   *   *

 أحياناً ليس في وسع الفرح أن يتحمَّل نفسه، وربما لهذا يتقمَّص هيئةَ المأساة أو يتخفى وراءها!

وأحياناً ليس في وسع المأساة أن تتحمَّل نفسها، وربما لهذا تتقمَّص جنازاتُ الشهداء هيئة الأعراس أو تتخفَّى وراءها!

 هكذا.. وحده الموت يستطيع أن يجيب عن سؤال الحياة، كما وحدها الحياة تستطيع أن تجيب عن سؤال الموت.