icon
التغطية الحية

من يملك بيت اللغة الشعرية؟

2022.03.18 | 09:15 دمشق

srqt_shryt-_tlfzywn_swrya.jpg
(المصدر: promitheas.iacm.forth.gr)
+A
حجم الخط
-A

إذا كانت اللغة هي الأداة الأميز والأهم التي تشكل مجال عمل الشاعر وإبداعه، فماذا يفعل الشعراء الآن بهذه الأداة وكيف تتحول بين أيديهم؟

إنّ وجهاً من وجوه انحطاط الشعر هو ذلك الفشل الذّريع في تحويل اللغة إلى أداة تمتاز بعدد من الملامح والسمات، على يد هذا الشاعر أو ذاك، بحيث ينبغي أن يكون لدينا عدد من الأساليب المتنوعة والمتباينة في إبراز خصوصية هذه اللغة.

وليس ذكاءً أن نعلن ما يتم الإعلان عنه دائماً من أن هناك حجما مخيفا مما يسمى (شعراء) ينسخون خصوصية لغتهم ويتداولونها فيما بينهم دون أدنى تعديل على النسخة الأصل... حتى أننا إذا قرأنا لعشرات الشعراء في مرحلة ما، أو في مراحل متجاورة، فسوف نقع على مسخ شعري يتم تعميمه بكل صفاته المشوهة، ويتم دفعه من واحد إلى آخر، من ديوان إلى ديوان، من أمسية إلى أمسية...إلخ حتى ليصح القول "تشابه الشعر علينا"!

فما الذي يقف وراء هذا التشابه الذي يقتل روح الإبداع ويشل حركة الطموح؟

إن من أسباب ذلك –وبتكثيف شديد هنا– أن معظم من يسمون (شعراء) يستعملون المستعمل من اللغة بدلا من تجريب استعمال ما لم يستعمل بعد. فإذا كان الشعر في أحد معانيه الإجرائية هو الاستعمال الخاص للغة، فقد تحول في حالتنا المذكورة إلى استعمال عموميّ للغة. وهذه العمومية في اللغة لها مظاهر وأعراض. فمن أعراضها فقدان حسّ المغامرة عند الشعراء، حيث إن اللغة لكي تتحول إلى طرف في الإبداع، تقتضي روحا مغامرةً مقتحمة، غير جبانة، وتتطلب نشاطا خارقاً للعادة تنقلب فيه الأشياء والمواد والحالات من نمطٍ متفق عليه إلى نمطٍ غير منتهي الاحتمالات، أي (نمط لا نمطي) إذا صح التعبير، وهو يصح على كل حال. لقد أصبح الشاعر كائنا كسولاً يركن للشائع في كل شيءٍ، يستسلم للعاديّ المكرور المبذول بكل سهولةٍ. وبتوضيح أشدّ: تحول كثير من الشعراء إلى عالة تقتات على منتجات بعض القامات الشعرية العربية الكبيرة، تقلدها بصورة عمياء، لا تتأثر بها بقدر ما تسرق جهودها وتجترّ أساليبها وتسطو على مشاريعها ورؤاها دون واعز أخلاقي أو جماليّ.

إننا يمكن أن نفهم كيف يتأثر شاعر بلغة شاعر آخر، ولكن لا نفهم كيف يسمح شاعر لنفسه أن يسرق معاناة شاعر آخر؟ هل يمكن أن يسرق أحد آلام أحد ودموعه وانكساره وتمزقه وقلقه، ثم ينسبه إلى نفسه؟ للأسف هذا ما يحدث لدى أسماء (شعراء) كثيرين.

أصبحت مقولة "اللغة بيت الشاعر" منحرفة عن معناها الحقيقي، من جهة أنها بيت وسكنٌ وصارت بيتا مسلوبا ومنهوباً

اللغة هي بيت الشاعر، نعم. ولكنها ليست مستعدةً لتكون عقارات مشاعا يتناهبها المستأجرون والمحتاجون والمتسولون.إن اللغة ليست بيتاً لهؤلاء. بل هي بيتٌ لمن يعرف كيف يبنيه بمواده الخاصة ويديه هو ومخيلته الخاصة ورؤيته المستقلة، حتى لو تأثر بأسلوب بناء هذا الشاعر أو ذاك، لكن يجب ألا يتحول التأثر إلى سطو على مزاج البناء وخصوصيته وفرادته لدى شاعر آخر، بحيث يقلد شكل البناء ويدعي ذلك لنفسه. هذه هي سرقة الإبداع التي لا تغتفر.

أصبحت مقولة "اللغة بيت الشاعر" منحرفة عن معناها الحقيقي، من جهة أنها بيت وسكنٌ وصارت بيتا مسلوبا ومنهوباً. ولكن هذا حالٌ عارضٌ سيلفظه التاريخ الشعري الحقيقي الذتي سوف يتيح المجال يوماً لأن نقيم دعوى إزالة شيوع على بيت الشعر لتعود ملكيته إلى أصحابه الحقيقيين.

أصحاب البيت الحقيقيون يعرفون أنفسهم، كما أن المتطفلين والسارقين يعرفون أنفسهم أكثر.

وإذا اعتمدنا لغة الاستعارة، فيمكن القول: إن اللغة مثل الغيوم. تولد وتتكرر من تلقاء ذاتها وفي ذاتها. وهي كلها يشبه بعضها بعضا بطريقة ما. لذلك فالشاعر الذي يختلف عن الشاعر الآخر هو الذي يغرف من هذه الغيوم بطريقة خاصة ولا تشبه طريقة غرف غيره. يأخذ غيومه الخاصة ويسيّرها في مداه ويختار لها الحركة المناسبة والأرض المناسبة التي تهطل عليها ليحدث الجمال. والجمال ليس ترفا وهناءة ورخاءً مائعا. بل هو متضمن حتى في آلام الخلق الشعري والتلقّي أيضا. أي أن الشعر ليس ترقيصا للتسلية. 

والمقولة النقدية الكبرى: إن الشعر هو الاستعمال الخاص للغة، تنطبق على هذه الفكرة. الكلمات ليست ملك أحد. وليست خصوصية لأحد. الخاص- الفرديّ يكون فقط في كيفية تقديمكَ لهذه الملكية العامة، بالصيغة الخاصة بك. بحيث يكون متاحا أن أقرأ عندك الكلمات نفسها التي أقرؤها عند غيرك. لكن لا يجوز أن تكون الطريقتان متشابهتين. 

****

وإذا كانت اللغة مثل الغيوم؛ فالشاعر ممطرٌ بغيومِه الخاصة، وينبغي له أن يقنعنا بأنها غيومه على الرغم من لانهائية الغيوم!

يقول محمود درويش في قصيدة (بيروت):

"أهذي, رُبَّما أبدو غريباً عن بني قومي

فقد يفرنقعُ الشعراءُ عن لغتي قليلاً

كي أُنظِّفها من الماضي ومنهم...

لم أجد جدوى من الكلمات إلا رغبة الكلمات

في تغيير صاحبها...".

يشير الشاعر هنا بشكل ساخر (والسخرية من سمات درويش الأسلوبية) إلى قضية هي من اختصاص اللغة النقدية، فهو يريد أن ينفضّ عنه الشعراء الذين يتكاثرون على لغته، إنه يريد تنظيف اللغة منهم ومن الماضي. يعني هذا بلغة منهجية أن الشاعر يبحث عن لغته الخاصة بعيدا عن لغات الآخرين، يريد تأكيد حضوره اللغوي معتمدا على ذاته لا على أساليب الماضي ولا أساليب شعراء كثر من حوله. ثم يعيد صياغة السؤال المقلق حول جدوى الكتابة، فبالنسبة إليه يرى أن الحديث عن جدوى الكتابة (التي يشير إليها بمفردة الكلمات) يجب أن ينطلق من الذات المبدعة أولا وآخرا، إذ لا جدوى من الكلمات إلا في تغيير صاحبها. أي أن رسالة الشعر هنا لا تذهب نحو ضرورة تغيير المجتمع ولا الآخرين، بل هي تتعلق بشكل رئيسي بتغيير اللغة لمبدعها نفسه.    

استسهال اللغة في الشعر، يعكس استهتارا مرعبا بالقيم الفنية والإنسانية معها، لا سيما مع هيمنة وسائل التواصل التقنية وتحولها إلى منبرٍ دائم لنشر كل شيء تحت مسمّى الشعر. صحيح أن المستوى المبتذل من الشعر، ومن الإبداع بصورة عامة، موجود طول الوقت، حتى لو لم يكن هناك فضاء إلكتروني. فقد قرأنا كثيرا من الشعر الرخيص والهابط فنيا ورؤيويا منذ مئات السنين. والأمر يتكرر نفسه مع ثورة الاتصالات الحديثة. التي لا بد أن يستثمرها الإبداع فذلك حقه. ما حصل الآن مع هذه الثورة التقنية الهائلة أنه أتيح لنا الاطلاع بشكل يومي على ذلك الرخيص والمبتذل والدخلاء على الإبداع كله. لأنه فضاء حرّ سهل مشاع، لا رقابة نقدية فنية عليه.

وبالطبع هذه فسحة مغرية جدا للجميع كي يظهروا ويمارسوا لعبة الشهرة والأضواء. لكنها في العموم شهرة زائفة وأضواء مصطنعة سرعان ما تتكشف عن فقاقيع لا قيمة لها.

أغلب الظنّ  أن ذلك حصل في المجتمع العربي أكثر من غيره. هذا المجتمع المأزوم بكل ما فيه من قيمٍ وطاقات وهوية. مجتمع ليس فيه أساساً بناءٌ قيميّ لشيء، لذلك سوف ترى عاهاتنا وأمراضنا متجلية بوضوح في أشكال التعبير الشعري المستمرة على وسائل الاتصالات خاصة الفيس بوك. الفيس بوك لم يفاجئنا بأسرار، بل فضح أسرارنا ونشرها على الملأ. أسرارنا تلك المتمثلة هنا بعطالة إبداعية وأمية ثقافية ومسوخٍ تمارس متعةَ (طحبشة) كل شيء جميل جوهريّ.

متلقي الفيس بوك صار يلهث وراء الصورة الشخصية للشاعرة مثلا، ولا ينشغل بصورتها الشعرية الفنية. وتعاني الشاعرة أكثر من غيرها هنا. ونقصد الشاعرة التي تنسج كيانها الشعري بمعزل عن مؤثرات خارجية ومغريات عابرة. ترى أنها محاصرة في نمط رجوليّ بائس، ينشغل بفتنها الجسدية عن فتنتها الأدبية.

لا أحد يصادر حق الآخرين في التعبير، ولكن قبل هذا عليهم أن يسألوا أنفسهم: هل هم يمارسون حرية التفكير أيضًا؟ فالحريتان متضافرتان معًا. والحرية لا تعني الانغماس في الفوضى والانخلاع من أي تقليد وأصولٍ. ألا نرى حتى السوريالية المغرقة في الغموض والتداعيات وخطاب الأحلام والماورائيات، مع كل هذا يمكننا أن نقيم علاقة تواصل مع الفن التشكيلي السوريالي؟ ذلك أن السوريالية نهجٌ واضحٌ في أذهان مؤسسيه، وليس عملا عشوائيا، هو لغة الفوضى المبنيّة وفق هندسةٍ ما، وفق تقليد ما. واللغة بين يدي الشاعر ينبغي أن تكون لعبة متقنةً لها أسسها.