من سيرة آل الأسد: المحترم

2024.01.29 | 02:27 دمشق

آخر تحديث: 29.01.2024 | 02:27 دمشق

من سيرة آل الأسد: المحترم
+A
حجم الخط
-A

يلعن كثيرون آل الأسد «من الجد إلى الولد» بطلاقة وحماسة. فهم لا يتذكرون منهم إلا كبار مجرميهم، كحافظ وشقيقه رفعت، وبشار وأخيه ماهر، أو صغار شبّيحتهم ممن لم يقلّوا طغياناً على نطاق محلي، كفواز ومنذر وهارون وهلال ومحمد (شيخ الجبل) وغيرهم.

لا يخطر في بال اللاعنين، بقلب محروق، احتمال وجود شخص عادي من هذه السلالة، ليس مستفيداً من سلطة العائلة بشكل أو بآخر، فضلاً عن أن يكون معارضاً صادقاً لحكمها، مثله مثل آخرين. ومن هنا كانت صعوبة تصديق رجل يدعى فراس، بدأ بكتابة مواقفه المنشقة منذ السنوات الأولى للثورة. ولم يعلن تحدره من آل الأسد فقط، بل أنه ابن رفعت، قائد «سرايا الدفاع» الذي سالت على يديه دماء كثيرة وكان اسمه يبعث الرعب في البلاد.

في البداية ظن كثيرون أن فراس الأسد شخصية مزيفة، وقال بعضهم إنه مدسوس على الثورة لاختراقها. لكنه تابع مسيرته بهدوء، من خلال صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، حتى صار موثوقاً لدى كثير من المعارضين والثوار السوريين من دون أن يشبههم بالضرورة. فقد حافظ على مسافة من تجمعاتهم وهياكلهم، واكتفى بالنشر المتقطع الذي أوضح فيه معارضته الجذرية لحكم العائلة من مغتربه السويسري، ومدوّناً بعض ذكرياته عنها.

ومنذ أشهر أعلن عن انتقاله إلى التعبير المرئي على يوتيوب، ووعد مشاهديه بسلاسل من الحلقات التي سيتناول، في بعض منها، جزءاً من مشاهداته حين كان قريباً من قمة الهرم الأسدي وحتى قطيعته النهائية مع والده الطاغية. وهو ما لم يتمكن من تحقيقه إلا في الثانية والثلاثين من عمره، وبعد مكابدات عديدة لم يفصح عن أكثرها بعد.

لا يخفي فراس أن وحشية والده دخلت معه إلى المنزل ولم تقتصر على الزوجة المكسورة. ولعل هذا مما أهّل الولدين للانشقاق لاحقاً

ولد فراس في عام 1966. وهو ابن أصغر لرفعت من زوجته الأولى. ولهذا السياق الأسري دلالته. فحين كان مجرد صف ضابط متواضع المكانة في الأمن العام ارتبط رفعت بأميرة ابنة عمه الوحيد عزيز. التي كانت من مواليده (1937) واتسمت بطبيعتها الريفية البسيطة التي أخذ يضيق بها كلما صعد في سلّم النفوذ في ظل شقيقه القوي، فأكثر من الزيجات وانغمس في عدد لا يكاد يحصى من العلاقات غير الشرعية. وصار حظ ابنة العم منه الإهمال غالباً، في شقة متواضعة من مملكته المتنامية في حي المزة بدمشق، والعنف أحياناً. في حين مالت المرأة إلى قراءة الأذكار وزيارة المقامات والرضا بالقدر.

لا يخفي فراس أن وحشية والده دخلت معه إلى المنزل ولم تقتصر على الزوجة المكسورة. ولعل هذا مما أهّل الولدين للانشقاق لاحقاً وإن سلك كل منهما طريقه. فحين وقع الخلاف المعروف بين الشقيقين حافظ ورفعت كان مضر هو الوحيد من أبناء الأخير الذي انحاز إلى عمه وخاطبه بقوله «أنت أبي». أما فراس فقد ابتعد بصمت عن إمبراطورية والده المالية الأوروبية حتى دفعته الثورة السورية إلى إعلان موقفه والثبات عليه رغم التهديدات.

وفي الفيديو الذي نشره مؤخراً، كحلقة أولى من ذكرياته الشخصية، يتناول حادثة شديدة الحساسية. حين قامت المظليات، من متدربات والده، بنزع الحجاب عن رؤوس النسوة في دمشق، وذلك عقب تخرجهن من الدورة الثالثة للقفز المظلي في خريف عام 1981. وهي العملية التي تمت بإشراف ضباط من الوحدة 569، أي «سرايا الدفاع»، وبعد تحريض من قائدها رفعت الذي ألقى في الخريجين خطاباً حفزهم فيه على هذا الفعل بهدف «تعليم الناس الحضارة»!

 

رفعت الأسد بين المظليين بلباسهم المموه

 

والحال أن أبا دريد لم يتزعم قوة استئصالية مسلحة فحسب، بل أرفق ذلك بتنظير «تقدمي» ضد جماعة «الإخوان المسلمين» المناهضة. ففي الأيام الأخيرة من عام 1979، خلال المؤتمر القطري السابع لحزب البعث الحاكم، ألقى رفعت، بوصفه عضو القيادة القطرية، كلمة طويلة دعا فيها إلى اتخاذ الخيار الصعب، مستشهداً بجوزيف ستالين الذي أنهى حياة عشرة ملايين من سكان الاتحاد السوفييتي واضعاً في حسابه أمراً واحداً فقط هو «التعصب للحزب». وهو ما ينبغي للبعث، وحلفائه في الجبهة الوطنية التقدمية، فعله لمواجهة الإخوان المسلمون وبقايا الأحزاب الرجعية الحاقدة التي تمارس نشاطاً سرياً محموماً تجلى بالنشاط الواسع لحركة بناء الجوامع والمساجد واتخاذها ستاراً لمدارس دينية للفكر المتعصب تحت سمع الدولة وبصرها بحجة ممارسة الواجبات الدينية. وإقامة معسكرات للأطفال الصغار وللشباب اليافعين يشرف عليها الإخوان المسلمون ويمارسون على عقول الناشئة أوسع عملية تخريب حاقد في التاريخ ليقطعوهم كلياً عن الوطن والقومية وحب المجتمع والحضارة العربية. وتنظيم اجتماعات لها طابع ديني متعصب في عدد من البيوت القديمة، يلتقي فيها البسطاء والسذج من الناس، ويقوم بينهم واحد أو أكثر من رجال الدين يملؤهم بالاتكالية والتخاذل والبغضاء.

وللتصدي لذلك اقترح رفعت أن يصدر «قانون التطهير الوطني» ليطول كل منحرف يعتنق أي مبادئ هدامة. وأن يصدر تشريع ينص على إنشاء معسكرات تدريبية بغرض تخضير الصحراء وتصحيح مسار الخاطئين الذين تحكم عليهم المحاكم الشعبية بموجب ذلك القانون. وأن توضع برامج ثقافية قومية اشتراكية تدرَّس للوافدين إلى المعسكرات تكون الغاية منها إدخال الفكر القومي والحس الوطني إلى أذهانهم وانتزاع الموروثات المريضة والأفكار المستوردة. ولا يخرج أحدهم، بعد قضاء مدة حكمه، إلا بخضوعه لامتحان في هذه المقرّرات ونجاحه وحصوله على وثيقة تنص على تطهره وطنياً.

لم يكن قائد «سرايا الدفاع» يمزح. فبعد أن أبلغته بعض المظليات بتذمر ابنه فراس مما فعلنه سارع إلى استدعائه إلى مقرّه فوراً، وضربه بشكل غير مسبوق

وفي النهاية ختم رفعت بمجموعة من التوصيات؛ منها تكليف وزير الدفاع بإغلاق الجوامع التي تستخدم مدارس لتخريج الفكر الطائفي الهرطقي وأن يضرب بيد من حديد كل الذين يسلكون هذا الاتجاه. وتكليف وزير التربية بإنهاء الفكر المعادي بين العاملين في جهازه وتعديل المناهج بما يتلاءم مع مصالح الحزب والثورة. وتكليف رئيس مكتب الأمن القومي بتحديث أجهزته بالتقنيات وبالمختصين، وخضوع كل الجهات الأمنية المختلفة لإدارته ليمتلك القدرة والسلطة اللازمتين ليستمر في ملاحقة الاتجاهات المعادية بنجاح ودأب، فيتمكن من حبس أنفاسهم وشل حركتهم وتقليص نفوذهم وضربهم أينما كانوا.

لم يكن قائد «سرايا الدفاع» يمزح. فبعد أن أبلغته بعض المظليات بتذمر ابنه فراس مما فعلنه سارع إلى استدعائه إلى مقرّه فوراً، وضربه بشكل غير مسبوق.