icon
التغطية الحية

"ملك اللصوص".. حكاية السوريين المتكررة منذ ألفي عام

2022.08.19 | 12:09 دمشق

خلف
+A
حجم الخط
-A

من لفائف يعطيها عجوز بعكّاز، اعتاد العزلة تحت شجرة "دردار" معمّرة على ضفة نهر العاصي. للفيلسوف السوري الشهير بوسيدونيوس يبني المؤرخ السوري تيسير خلف روايته الأحدث "ملك اللصوص" الصادرة عن دار المتوسط للطباعة والنشر.

تتناول الرواية قصة إيونوس السوري القائد الروحي لثورة العبيد وملكها المتوّج بالغار في جزيرة صقلية سنة 135 قبل الميلاد. لم تنج تلك اللفائف، لكن ما نجا هو نسخة بوسيدونيوس عنها في بضع صحائف.

لعل عمق المعرفة بالتاريخ وخبرة المراس التحليلي، من وجهة نظر نفسية واجتماعية، أعطت الكاتب القدرة على قراءة ما بين سطور تلك الصحف لينسج قصة متكاملة عن حياة إيونوس، فتبدو للقارئ منسجمة واقعية بعيدة عن النسج الروائي، وتصبح وثيقة تاريخية أكثر منها دفقاً تخييلياً. وإذ يبدأ قصته من ولادة إيونوس لأب عابر سيرحل عن أفاميا قبل ولادته، إلا أنه يعود خلفاً ليسرد عن بناء معبد منبج وعن نشأة بعض أشكال الديانات في تلك المرحلة، غير مكتف بذلك، بل طارحاً إشارات استفهام تتراوح بين الشك والشكوكية أمام كل الأحداث ذات الهالة التقديسية.

قصة إيونوس السوري

تدور الرواية حول أيونوس الذي يولد بعينين متغايرتي اللون، وتدفعه أمه لمربية أخرى، ثم تهبه للرهبنة في المعبد، فيُجتبى إلى القصر الملكي في أنطاكيا بسبب قدرته على التنبؤ، لكنه سرعان ما يغادره هارباً من المكائد والدسائس وانقلابات أهل السلطة على بعضهم. يُؤسر أيونوس مع عدد كبير من الأشخاص ويباعون بعدها إلى تاجر عبيد في جزيرة صقلية حيث يبيعهم بدوره إلى مُلّاك مختلفي الأشغال. يتخذ إيونوس دوراً أشبه بدور النبي في إحدى مدن صقلية، ويقود ثورة للعبيد، فيحكمون الجزيرة قرابة أربع سنوات يكون خلالها ملكاً عليهم. يواكب ذلك أولى ثورات العبيد في الأراضي الرومانية أيضاً، وكذلك محاولات في روما للتغيير كتوزيع الأراضي والانتصاف للشعب، إلا أن منطق الحكم الروماني القائم على الظلم يفرض نفسه من جديد، فكما يُقتل محامي الشعب في روما، وكما تُقمع ثورة الرقيق فيها، كذلك ينجحون في القضاء على مملكة العبيد في جزيرة صقلية.

النبوة والتقديس بين الحقيقة والوهم

يطرح الكاتب الحكاية كما حصلت ثم يخضعها للسؤال/ المحاكمة دون أن يدخل في مرافعات البحث التحليلي أو النقدي، لكنه يترك للقارئ علامات إيحائية تهديه للحكم الصحيح. من ذلك قصة كومبابوس الأنطاكي الذي ابتعثه الملك مرافقاً لزوجته بعد أن رأت في المنام أنها تبني معبداً في منبج، وبعد أن راودتْه عن نفسه ورفض اتهمته بالتعدي عليها، فأمر الملك بقتله إلا أنه فاجأ الجميع حين أخبرهم بأنه قطع أعضاءه قبل ذهابه مع الملكة لأنه تحسّب من وقوع ذلك، فأمر الملك ببناء تمثال نحاسي له وسط تماثيل الآلهة في المعبد لفرط أمانته ووفائه.

الكاتب يعود ويشكك في الرواية على ألسنة بعض الكهان الشهوانيين (رهبان الفالوس)، فيشيرون إلى أنه لم يقطع شيئاً من جسده، بل من جسد عبده على أنه من جسده، بينما هو عاش حياته صحيح الجسم مداوماً على المتعة. من هنا تنشأ تفرعات عن الديانة نفسها تختص بالمتعة (المقدسة)، وآخرون يدّعون العذرية غير أنهم يفعلون كل شيء يمكن تخيله.

الفكرة الأساسية التي كانت وما زالت مناط الجدل العويص منذ القتل الأول هي المفاضلة بين الواقعية والمثالية؛ هل كان الأولى قتل قابيل بهابيل أم استمرار البشرية؟

وبالنسبة لإيونوس نفسه فيبدو ذا إهلاسات وتخيّلات، إذ يرى راعية الماعز السامري التي لا يراها أحد غيره، ويحدثها، ويراقبها وهي تسبح في نهر العاصي عكس التيار مرات يوحي عددها الكبير إلى شطحات خياله، وما وقوعه في الأسر إلا بحثاً عنها. كأنها إشارة إلهية أو أنها الإلهة (أترعتا) بنفسها أتت في صورتها لتقوده إلى قدره في جزيرة صقلية (وقد خاطبها مرة كإلهة). من هنا تأتي ثقته بإهلاساته وبنبوّته! وقد ملك من التأثير ما جعل العبيد يتبعونه ويتفقون دون نقاش على ملكه. إشارات النبوة الخاصة به لا تنطلي على عقل سليم، فهي رومنسية أكثر منها حقيقية، تجيّر أحوال الطبيعة العادية لتدلل على وجود أترعتا الإلهة؛ مثلاً، حين تفيض البحيرة بفعل السيول المتدفقة وتغمر بيت الربة (بناء صغير على طرف البحيرة) يفسّرها إيونوس برحيل الربة عنه وعن مملكته... وهكذا.

المحاكاة مع واقع الربيع العربي والراهن السوري تحديداً

أُسرَ سوريون كثر، آنذاك، من قبل عصابات من القراصنة تجار العبيد بسبب انشغال الملوك وجنودهم بحروبهم مع بعض وبجباية الضرائب، حيث لم يؤمّنوا أراضي ممالكهم ولا طرقها. بذلك كان الكثير من العبيد السوريين في جزيرة صقلية، وكانوا أغلى ثمناً لما يعرفونه من لغات ولتحضّرهم أكثر من غيرهم من العبيد في ذلك الوقت. إذن، كانت أسعارهم كعبيد أبهظ! وحين اندلعت ثورة العبيد وكُنّيَ ملكها إيونوس بأنطيوخس تشبهاً بملوك سوريا في ذلك الحين، أصبحت للسوريين مملكة، بعيداً عن حكّامهم الفاسدين في سوريا وبعيداً عن مالكيهم القساة في الجزيرة. هذه مرآة عن الثورة السورية وخروج مناطق عن سيطرة النظام (يمزج النظام السوري بين فساد ملوك سوريا واستبداد ملّاك العبيد) وخضوعها للثوار، وما رافقه من نشوة صرفت اهتمام الناس بعامتهم وخاصتهم عن الأولويات إلى الشكليات، فاختلط الوهم بالحقيقة ومشى الحالمون بأحلامهم إلى الهاوية.

الفكرة الأساسية التي كانت وما زالت مناط الجدل العويص منذ القتل الأول هي المفاضلة بين الواقعية والمثالية؛ هل كان الأولى قتل قابيل بهابيل أم استمرار البشرية؟ وهذا ما حدث بالفعل مع أول سيطرة العبيد على مدينة (إينا) حيث حققوا نصراً كاسحاً، لكن البعض اقترف تجاوزات بحق الناس وأملاكهم، فقتلوا وحرقوا وقطعوا الرؤوس ودحرجوها على الأرض. أحد قادة الثورة يصر على محاسبة الجنود الذين اقترفوا هذه الأفعال، بينما يرفض القادة الآخرون ذلك بحجة أنهم في أوج المعركة وما زالت هناك مناطق يجب السيطرة عليها ليضمنوا سلامة مملكتهم الجديدة. بذلك يبدأ الانقسام الأول حيث يعتزلهم القائد المثالي في حين يديرون له ظهورهم ويستمرون في المعارك محققين الانتصار تلو الانتصار. تقاوم السلطة الجديدة القائد المعتزل، الذي أصبح قائد فرقة مسرحية تعرض نقدها اللاذع في الساحة العامة، بإنشاء فرقة مسرحية جديدة تجلب البهجة والسرور والتسلية للناس، وتجعل ساحة البلدة حكراً عليها. ينتهي الأمر بمقتل القائد المثالي على طرف الطريق دون أن يحضر مراسم دفنه أحد سوى إيونوس الملك، بينما كان حضور غفير في مراسم دفن القادة أصحاب الانتصارات!

هذا الافتراق الأصيل بين الواقعي والمثالي يتجدد تاريخياً في كل مرحلة؛ ألم يكن الخلاف على تأجيل أو تعجيل قتل قتلة عثمان هو الذي أشعل الحرب في نهاية الحكم الراشدي ومطلع الدولة الأموية؟ والأمثلة على ذلك في تاريخنا أكثر من أن تحصى، كقصة الحَجّاج وسعيد بن جبير في العصر الأموي، وغيرهم من الرعيل الأول والآخر!

كذلك الاتكال المفرط الذي اتّكله إيونوس على الآلهة، فصرف لها من وقته الكثير وجعلها دليله عوضاً عن عقله، فتحوّلت المناطق ذات المساحات الزراعية الشاسعة من مناطق خضراء تملأ الحبوب مخازنها إلى مناطق قاحلة جائعة لا ترى على امتدادها إلا حرائق هنا وجثثاً هناك. أورث الانحراف في تصور إيونوس الديني وتواكله نظريات دينية متطرفة تمردت على إيونوس نفسه، فنشأت (عصبة السمك المقدس) ومن بعدها (عصبة السمك والحمام المقدسين)، وقتلت الجماعتان الكثير من الناس الجوعى فقط بتهمة أكل أو اصطياد السمك... وكذلك الحمام! أليست صورة طبق الأصل عما حصل في التاريخ الإسلامي كظهور الخوارج قديماً وظهور (داعش) وأشباهها في أيامنا؟ حيث ظهرت النظريات الغيبية واعتُمدت الأحاديث الإخبارية كتنبؤات العرّافين حتى أنهم كادوا يعلنون أحد القادة على أنه المهدي المنتظر لولا أن قُتل! واهتمت مجموعات بشكل اللباس وحركة أصابع اليد أثناء الصلاة بدلاً من الاهتمام بحياة الناس وأرزاقهم وإدارة شؤونهم، واضطر الناس في النهاية، كما في الرواية، إلى التعامل العلني والخفي مع العدو من أجل تأمين الطعام والشراب وغيرها من مستلزمات الحياة. وفي النهاية تمكن الحكم الظالم من إعادة بسط نفوذه مقترفاً بالثوار جرائم لا تُعرف أعداد ضحاياها. هذا يعطي إشارة إلى أن الحرب في العالم ليست بين الخير والشر بل بين الصحيح والخاطئ، ودائماً ما ينتصر الأكثر صحة أو يخسر الأكثر خطأ.

الراوي ينفي موت إيونوس السوري في سجن مورغانتينا حيث أكله القمل، ويعتمد على صحائف بوسيدونيوس، فيعيده إلى أفاميا حيث قدّم مرافعته أمام فيلسوفها ومؤرخها الشهير مبيناً ما حصل معه داحضاً أكاذيب الرومان عن ثورة العبيد في جزيرة صقلية. ويمسك تيسير خلف المرآة بيديه الاثنتين، ليضعها أمام السوريين فيقرؤوا عن أخطائهم القديمة التي يقترفونها ذاتها، من جديد، بعد أكثر من ألفي عام.

من الرواية

"كان داموفيلوس مولعاً بالعبيد السوريين الذين ولدوا أحراراً، ولا أحد يعرف سبباً ظاهراً لذلك الولع، ثمة من يرى أنه مدمن على رؤية الذعر في عيون القادمين من بيوت ذويهم؛ وهم يراقبون حديد الوسم المُحمّى لحظة طبعه على أجسادهم الغضة... ويعتقد كثيرون بأن إصراره على شراء العبيد السوريين الجدد نجم عن خبرة طويلة؛ بينت له أنهم أكثر خنوعاً من غيرهم، ولديهم قدرة يتفوقون فيها على الجميع بسرعة تأقلمهم مع أي وضع جديد، حتى ولو كان الجحيم ذاته... ولهذا الرأي معارضون كثر، يرون أن من الظلم أن نسمي ذلك خنوعاً، والأصوب أن نسميه صبراً، فالسوري صبور إلى أقصى ما يحتمل الصبر، ولكن، في لحظة ما؛ وعند حد معين؛ يتحول هذا الصبر إلى بركان، يفوق، في اندفاع حممه، بركان إيتنا نفسه..."

تيسير خلف

روائي وباحث من مواليد الجولان السوري المحتل 1967، حدودي الهوية فهو فلسطيني وجولاني سوري في آن. صدر له العديد من الأعمال الأدبية والبحثية. صدرت له مجموعة قصصية بعنوان (قطط أخرى) عام 1993، ليُتبعها برواية (دفاتر الكتف المائلة) 1996، لتتوالى كتاباته التي تجاوزت الخمسين كتاباً بين الأدب والدراسات التاريخية والرحلة والتحقيق. أهمُّها: (الجولان في مصادر التاريخ العربي)، (استكشاف الجولان: مغامرون وجواسيس وقساوسة)، (موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين)... من رواياته: موفيولا 2013، مذبحة الفلاسفة 2016 (وصلت القائمة الطويلة في الجائزة العالمية للرواية العربية – بوكر)، عصافير داروين 2018.