ملامح اتفاق جزئي في إدلب

2020.10.19 | 00:16 دمشق

a7jsk.jpeg
+A
حجم الخط
-A

كان من الواضح مؤخرا أن هناك مفاوضات تركية روسية مستمرة ومعمقة حول إدلب، تهدف بنهايتها للوصول إلى الاتفاق الشامل في المنطقة، وترسيخ وقف إطلاق النار الدائم، وتحول المنطقة إلى منطقة آمنة تشبه تلك المتحققة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، في ظل مطالب تعجيزية من الطرفين تهدف إلى رفع سقف التفاوض لتحصيل أكبر قدر من المكاسب من الطرف الآخر، وتلخصت مطالب روسيا بالسيطرة الكاملة على جنوب الطريق الدولية إم4، وفتحها والتمركز فيها، وسحب تركيا لنقاط المراقبة المحاصرة من قبل قوات النظام، إضافة لسحب السلاح الثقيل من المنطقة، في حين ردت تركيا على هذه المطالب بالسيطرة على بلدتي منبج وتل رفعت، مقابل الانسحاب من نقاط المراقبة، وفتح الطريق الدولية، ويترافق ذلك بتغييرات ميدانية بالمنطقة تتعلق بالقوى والفصائل الموجودة على الساحة في إدلب، وتكثف الهجوم على قادة وعناصر التنظيمات الراديكالية، ومحاولات هيئة تحرير الشام إعادة تشكيل نفسها، وكلها تأتي في إطار تطبيع الوضع في إدلب لتكون معقل المعارضة، والوجود التركي الميداني فرض الواقع الجديد على الأرض الذي صعب من تحقيق المطالب الروسية هذه.

الوضع الميداني على الأرض حسمته تركيا بانتشار عسكري واسع، وضع روسيا أمام الأمر الواقع، فاتخذت تركيا قرارها بالحسم الميداني في إدلب، ولكن روسيا ترفض الاعتراف بهذا الواقع حتى الآن، وتحاول ربط ملف إدلب دائما بالتطورات الجارية في الملفات الأخرى، وآخر تلك المحاولات كانت محاولات ربطها بملف الحرب بين أذربيجان وأرمينيا، إلا أن الجانب التركي كان حاسما في الأمر، ووجه رسائله بشكل مستمر من خلال الميدان، وشمل ذلك في الفترة الأخيرة الزج بأسلحة نوعية وفعالة من مثل المدافع وراجمات الصواريخ من المدى المتوسط والقصير، وعدد كبير من المصفحات والدبابات والقوى المحاربة، وهو ما أرسل لروسيا رسالة قوية مفادها أن تركيا لن تسكت مع أي محاولة من النظام، وسيكون هناك اشتباك وستكون هناك عواقب وخيمة قد تؤدي لانهيار النظام، لذلك لم تعد روسيا في اللقاءات الأخيرة تتحدث وتطالب بسحب السلاح الثقيل، مقابل ذلك تركيا هي التي ترفع سقف مطالبها بالحديث عن تل رفعت ومنبج فكل اتصال أو لقاء يتم فيه الحديث عن هاتين المنطقتين، وضرورة أن تكون بيد المعارضة السورية المدعومة من تركيا، وإزاء أي تهديد دبلوماسي روسي عبر أي ملف آخر يتعلق بإدلب، كان هناك رد وتعزيز على الأرض في المنطقة من قبل تركيا.

الحديث السابق عن ملامح الصفقة الروسية التركية بوجود مطالب من الجانبين، والتي تتلخص بانسحاب تركيا من النقاط المحاصرة، وفتح الطريق الدولية، مقابل انسحاب النظام ووحدات حماية الشعب من تل رفعت ومنبج، يبدو أنه بدأ ينفذ بشكل جزئي على الأرض، فعقدت صفقة جزئية تتضمن انسحاب القوات التركية بشكل تدريجي من النقاط الثلاث المحاصرة في مورك والصرمان وشير مغار، لأن تركيا تدرك أن هذه النقاط عسكريا ليست ذات قيمة بالنسبة للفصائل المعارضة، وقيمتها معنوية أكثر من قيمتها العسكرية والميدانية، وتركيا واصلت وجودها في هذه النقاط لكي تكون ورقة بيد تركيا في مفاوضاتها مع روسيا، وأي انسحاب منها يعني بالضرورة حصول مقابل له من روسيا، وهذا الانسحاب يعني بالدرجة الأولى أنه سيكون مقابله بالطبع بلدة تل رفعت والقرى التسعة المحيطة بها، في مقابل تأجيل حسم ملف منبج، وتركيا بذلك تسعى لاستكمال تأمين شمال الطريق إم4 الواصل للحدود العراقية، وذلك من جبهة تل رفعت ومنبج إضافة لمحاولات توسع منطقة نبع السلام شرقا وغربا، وبما أن الطريق الدولية ستكون السيطرة فيها من قبل المعارضة وتركيا، فإن هذا يعني أن إدلب أيضا ستكون آمنة ولن تتخلى عنها تركيا أبدا، حيث إن التعزيزات التي كانت تدخل وتصل إلى المنطقة كلها كانت تتمركز إما شمال الطريق أو جنوبه بقليل، ولم تكن هناك تعزيزات تصل إلى النقاط الثلاثة المذكورة، والموجودة جنوبا، لذا فإن الحديث عن تل رفعت وريفه هو المرجح حاليا في الاتفاق، ويبدو أن التوافق حول منبج سيأخذ وقتا، وربما قد تحتاج لمفاوضات أخرى.

ومن المؤكد أن هذه الخطوة قد تتسبب بحالة من الإحباط لدى كثيرين من الشعب السوري، وسيكون هناك تحشيد بهذه الخطوة من قبل الإعلام الموالي للنظام من جهة، والإعلام الداعم للمحور المناهض لتركيا، وهذه المرة ربما تسعى هذه الدول المناهضة لتركيا وعلى رأسها السعودية والإمارات، وهي الساعية بكل قدم وساق وتهرول للتطبيع مع النظام المجرم كما تفعل في دول أخرى تدعم فيه الأنظمة الديكتاتورية، للحديث عن تخلي تركيا عن المدنيين السوريين والتجييش في هذا الإطار، ولكن هذه المناطق التي تتعنت روسيا في الحديث عنها وعن أي خطوة تتعلق بإعادة النازحين وتقديم الضمانات اللازمة لهم، واستمرار وجودالنظام فيها، تقلل من أهمية النقاط وفعاليتها، وعند ظهور المقابل الذي يعود بالفائدة على المهجرين

روسيا وتركيا تلعبان آخر أوراقهما، ومع انحسار هامش المناورة الروسية في إدلب، تبقى اليد العليا حاليا لتركيا

من مناطق أخرى، وقتها تظهر أهمية الخطوة التركية في هذا الإطار، والأهم أن روسيا فهمت التحركات الميدانية التركية في إدلب بالشكل الصحيح الذي يجبرها على ردع النظام عن أي خروقات، وهي ما تمهد لخطوة الاستقرار والوصول خطوة خطوة إلى الحل النهائي الشامل في إدلب، والذي يتضمن وقف إطلاق النار، وترسيخ الأوضاع الميدانية، وتوفير الأمن للمدنيين.

موضوع منبج وهو خطوة مهمة أيضا بالنسبة لتركيا بسبب موقعها غرب الفرات، وسكانها من العرب والتركمان الذين تعرضوا لظلم قوات سوريا الديمقراطية، ستكون أيضا حاضرة في أي توافقات مستقبلية تبحث عن ثمنها الروسي، وهنا لا بد من التذكير بأن روسيا وتركيا تلعبان آخر أوراقهما، ومع انحسار هامش المناورة الروسية في إدلب، تبقى اليد العليا حاليا لتركيا، وبالتالي فإن منبج قد ترى طريقها للحل وربما تكون مرتبطة أكثر بضمانات فتح الطريق الدولية بين حلب واللاذقية، إذ إن تركيا أعلنت ذلك وطالبت المدنيين في إدلب أكثر من مرة بدعم الخطوات التركية، عبر منشورات ولقاءات جرت مع الفعاليات المدنية، فإن فتح الطريق الدولية للحركة، سيكون جزءا من الاتفاق التركي الروسي الشامل الذي يرسخ وقف إطلاق النار، ومن المؤكد أن هناك أطرافا في إدلب ربما هي مخترقة من قبل روسيا والنظام، تسعى لعرقلة الخطوات التركية بشكل دائم من خلال افتعال المشكلات والأزمات، ومهاجمة الدرويات المشتركة على الطريق الدولية، والتي تمكنت تركيا من إنجاحها وإتمامها رغم كل التحديات والعراقيل التي وضعت من قبل هذه الأطراف، لأن نجاحها وفتح الطرق الدولية وبقاء الوضع الراهن ليس من مطالب النظام وروسيا الساعيتين لقضم مزيد من الأراضي عبر خرق الاتفاقيات وتنفيذ عمليات عسكرية تماما كما حصل منذ تعيين حدود اتفاقية سوتشي، حيث لم يتم الالتزام بها، وهو ما أدى إلى الوضع القائم في إدلب حاليا.

وخلاصة ما حدث في إدلب وما سيحصل مستقبلا، نجد أن تركيا خلقت واقعا ميدانيا جديدا غير من قواعد اللعبة، وأظهر الإرادة الواضحة لها، وهذا التمسك بإدلب سينعكس بالتأكيد بشكل إيجابي على المدنيين السوريين الباحثين عن الهدوء والاستقرار بعد 10 سنوات من وحشية النظام.