ملاحظات على هامش مظاهرات السويداء

2020.06.15 | 00:00 دمشق

mzahrat_alswyda.jpg
+A
حجم الخط
-A

بخلاف الاحتجاجات التي سبقتها تحت عنوان «بدنا نعيش»، مطلع هذا العام، في عاصمة جبل العرب؛ رفعت حناجر المتظاهرين هذه المرّة شعار «ما بدنا نعيش، بدنا نموت بكرامة» في حراكهم المستمر منذ أسبوع، مما زاد حماس قطاع كبير من جمهور الثورة، داخل البلاد وخارجها، لمؤازرة المظاهرات ودعمها.

لكن ما يجدر أن تثيره هذه الاحتجاجات أوسع من مجرد بث روح متفائلة جديدة في نفوس محبطة نتيجة الحصيلة المؤلمة المعروفة للسنوات السابقة. ولعلها فرصة للتأمل من جديد في عدد من الزوايا التي جللها الغبار ذاته الذي أطبق على كثير من الصدور.

فأولاً هاهم ثوار سوريا يسارعون إلى تحية ثوار السويداء من قلب إدلب، الواقعة تحت سيطرة مركزية لهيئة تحرير الشام. شبكة إباء الإخبارية، الذراع الإعلامي للهيئة، اكتفت بإيراد الموضوع على صيغة خبر، بطريقة شبه محايدة. فالفصيل الإسلامي الأبرز، والذي وجد نفسه في السنوات الأخيرة يتنقل بين مصطلحي «الجهاد» و«الثورة»، يستبدل أحدهما بالآخر ويتناوب بخطابه بينهما، سيصعب عليه فعل ذلك تجاه منطقة مختلفة طائفياً عن الشمال الذي أتاح له سيولة زلقة بين علم الثورة والراية السوداء. تنتظر الهيئة والفصائل الإسلامية الأخرى ما ستنتهي إليه الأمور كي تعلن موقفها. أما الذين لم يُظهروا حماساً كبيراً للاحتجاجات، المتأخرة جداً برأيهم، فلم ينطلقوا من مصدر طائفي صافٍ كما جرى اتهامهم بسهولة، وإنما من مزيج من العصبوية العربية السنّية بالفعل، مع شعور عميق بخذلان استمر سنوات وهم يعانون أسوأ أنواع التنكيل والقتل والتهجير.

يدافع أبناؤها عن متظاهري اليوم بأنهم معارضون تاريخيون وجدوا فرصة للتحرك مجدداً

على الضفة الأخرى لا تصعب ملاحظة أن الأشد حماساً للحراك لاجئون في المهاجر الأوروبية، شابات وشبان حديثون من رعيل الثورة الأول أو الثاني، أبعدتهم الدورة النابذة لواقع لم يخططوا له أو يتصوروا حدوثه عندما خرجوا في مظاهراتهم البكر قبل ما يقترب من أن يصير عقداً من السنين العاصفة. وفي قلب هؤلاء يأتي ناشطون من المحافظة نفسها، يشاركون الفيديوهات بشغف وينافحون عن المحتجين. هل هذا طبيعي؟ ربما، ولكنه مؤسف بدلالاته العصبوية المحلية ذات الملمح الطائفي تجاه الفاترين أو المشككين أو القائلين بأن السويداء لن تخرج عن «حلف الأقليات» في نهاية المطاف، وهو قول مجحف يتجاهل خصوصية المحافظة وحراكها المتقطّع؛ يدافع أبناؤها عن متظاهري اليوم بأنهم معارضون تاريخيون وجدوا فرصة للتحرك مجدداً، أو من الذين كانوا يافعين، وربما أطفالاً، عند اندلاع الثورة وموجتها المؤسِّسة. يتجاهل هؤلاء، أبناءُ بني معروف المنفعلون في دول اللجوء الباردة، أن أحداً لا يلوم المتظاهرين أو يشكك في شجاعتهم ونزاهتهم. محاججة الحذرين تنصب على غير المتظاهرين، على مدى تعبير الحراك عن السويداء وانتشاره فيها بشكل ينسجم مع الأغنية الأخيرة لسميح شقير، ابن المحافظة نفسها، مجدداً، حين غنى «قامت» منذ أيام. فهل، حقاً، قامت؟

المدينة التي نأت بنفسها واختطت مساراً مستقلاً، قدّمت الغطاء الأهلي لأبنائها المتظاهرين هذه المرّة، بأن حمتهم رمزياً من شبيحتها المحليين الذين طالما تولوا قمعهم، ولكن دون أن تنضم إليهم. إن كانت هناك من زيادة في أعدادهم فهي طفيفة، وبعد أسبوع لم يتجاوزوا بضع مئات تعدّ على اليد الواحدة. وفي حين تطير قلوب الثوار خارج السويداء فرحاً حين يسمعون أهازيجهم وشعاراتهم نفسها، المبكرة والمستجدة، تتردد على ألسنة المتظاهرين؛ فإنه من غير المؤكد أن المدينة نفسها متحمسة لهذا. على الأقل لقد بدا أن تفاعلها مع حركة «رجال الكرامة» كان أوسع بكثير وأشد حمية، وتماهيها مع نموذج البطل المحلي بالجوفيات واللباس التقليدي الأسود والانطلاق من الحساسية الأقلوية الخاصة، والتجهم، والسلاح!

ويثير هذا الأخير تساؤلاته الخاصة المتكررة، حين يحتفي ناشطون مدنيون باستعادة الثورة السلمية. مرة أخرى هذا صحيح وخاطئ! فحتى في أعتى قلاع المعارضة المسلحة اللاحقة بدأت الأمور هكذا. ولا يبدو أن السلمية المحض ممكنة، مع ما تردد من تنسيق المتظاهرين مع فصائل محلية للتدخل إذا تحركت قوات الأمن. وفي الوقت نفسه الذي ما يزال فيه الشاب رائد الخطيب، وهو من منسقي الحراك، معتقلاً، سارع أكثر من فصيل محلي إلى إجبار النظام على الإفراج عن هذا أو ذاك ممن جرى توقيفهم من المحسوبين عليه، بسبب تجاوزات أو لتخلفه عن أداء الخدمة الإلزامية.

في محافظة ومدينة كالسويداء، ذات وشيجة أهلية متينة بالأصل، وزادت السنوات الأخيرة من تصلب درعها الذاتي، لم تنعدم الاحتجاجات على النظام ولم تصبح خياراً جماعياً معتمداً. وها هي المظاهرات المستجدة لم تتوقف ولم تتوسع، وكأنها حزب محدود ينظم احتجاجاته بحرية نسبية، يقطع بها الأسواق، ثم تتلاشى.

من المتوقع أن يتفتق جسد سوريا الأسد في مواضع كثيرة ربما كان حراك السويداء الحالي من بوادرها

في هذه البلاد التي تسخن، ومن المرجح أن تغلي، تحت وطأة الانهيار الاقتصادي وخراب البنية التحتية واهتراء الخدمات والاستنزاف البشري متعدد الأشكال؛ من المتوقع أن يتفتق جسد سوريا الأسد في مواضع كثيرة ربما كان حراك السويداء الحالي من بوادرها. لكن استمراره وانتشاره يبدوان مرهونين بمدى استجابته لمطالب وحساسيات محلية وتعبيره عنها. يسرّنا أن ثوار السويداء يشبهوننا إلى درجة الالتباس بين مظاهراتهم واعتصام جرى في إدلب منذ أيام، ولكن هل هذا مفيد؟ لقد أدوا قسطاً كافياً لإعلان انتمائهم إلى الثورة، بترديد كافة شعاراتها المتتالية ورفع سقف المطالب إلى حد «رأس الأسد» مقابل دم وحيد البلعوس، المؤسس الكاريزمي لحركة رجال الكرامة الذي قتله النظام. وربما آن الأوان كي يخففوا من تحية الساروت وينشغلوا بخلدون زين الدين.