مقارنات غير عادلة

2020.10.06 | 00:15 دمشق

416f5ee8-60b3-498e-a514-6c5a3ddcc7c2.jpg
+A
حجم الخط
-A

عادت إلى الواجهة مؤخراً صور التظاهرات في عدد من المدن الأميركية، بعد إطلاق الشرطة في مدينة كينوشا من ولاية ويسكانسن، النار على المواطن الأميركي من أصول أفريقية جاكوب بليك، لتصيبه عدّة رصاصات في عموده الفقري، مما ألحق به شللاً تامّاً بالطرف السفلي من جسده. وبذلك تتجدّد مرّة أخرى أعمال العنف التي راح ضحيتها عددٌ من الأشخاص وتمّ تدمير الكثير من الممتلكات الخاصّة والعامّة.

وبالنظر إلى ردود الأفعال في وسائل التواصل والتغطيات الإعلاميّة في عالمنا العربي على هذه الأحداث، يمكن الوقوف على بعض المفارقات، خاصّة تلك التي صاحبت قضّية مقتل المواطن الأميركي جورج فلويد على يد عناصر من الشرطة قبل أسابيع أيضاً. أثارت انتباهي صورة متداولة تقارن بين شرطي سعودي يحمل حاجّاً كهلاً بين يديه يغمره بنظرة عطف واحترام، وبين الشرطي الأميركي، وهو يضغط بركبته على رقبة الضحية فلويد، ويضع يده في جيب بنطاله، وينظر إلى الكاميرا كمن يأخذ لقطة تذكارية لنفسه.

المقارنة واردة بلا شك، ليس بين هاتين الحالتين فقط، بل مع كثير من حالات أخرى يمكن استحضارها أيضاً من الهند والصين أو من إنكلترا وألمانيا والسويد أو من سوريا ومصر أو من تركيا وإيران. الموضوع أعقد من مقارنة صورة بأخرى، هو بشكل أو بآخر مقاربة للعقليّة التمييزية التي تختصر الأمر بجانب واحد من جوانب القضيّة أبو بمظهر خارجيّ دون النظر إلى جوهرها.

أصحاب هذا العقل التمييزي موجودون في كلّ الدنيا وليس فقط في عالمنا العربي، ولو نظرنا إلى الإسلام فوبيا المنتشرة في أوروبا لوجدنا أنّها تخدم هذه الفكرة، وهؤلاء ينسبون للمسلمين وللمهاجرين من الأفارقة أو الآسيويين... صفات تعميميّة لا صحّة لها إلّا في عقولهم وأفكارهم العنصريّة. كما تخدم الفكرة ذاتها أيضاً مجموعة المعتقدات السائدة عند شرائح واسعة في عالمنا الإسلامي عامّة والعربي خاصّة، تنسب إلى الآخرين من أتباع الديانات المختلفة صفات تعميميّة كثيرة بعيدة عن الحقيقة.

يغمز بعضٌ من أصحاب هذه العقليات الموجودين في مجتمعاتنا من قناة أنّ قتلة جورج فلويد لم يكونوا مسلمين، ولو كانوا كذلك لما كان هذا مصيره، ولهذا استحضروا تلك المقارنة بين رجلي الشرطة السعوديّ

العنصرية لم تكن في يومٍ من الأيام حكراً على أتباع دين دون غيره، على افتراض أنّ الأديان السماويّة لم تميّز بين عباد الله باعتباره جلّ جلاله مصدرها جميعاً

والأميركي للتّأكيد على مذهبهم هذا. حسناً، لكنّ هؤلاء لا يذكرون أنّه كان هناك عدد كبير من رجال الشرطة الأميركيين من أصول أفريقية، بين عناصر الشرطة الأميركية الذين كانوا يتصدّون للمتظاهرين المطالبين بالعدالة والاقتصاص من قتلة جورج فلويد!

القضيّة لا تتوقّف على تفسيرات البشر للدين واستخداماتهم له فقط، بل أيضاً بالسلطة والسياسة والمصالح الاقتصادية. والعنصرية لم تكن في يومٍ من الأيام حكراً على أتباع دين دون غيره، على افتراض أنّ الأديان السماويّة لم تميّز بين عباد الله باعتباره جلّ جلاله مصدرها جميعاً، ومع ذلك ثمّة من يحاجّ بأنّ الغالبيّة العظمى من رجال الدين تميّز بين البشر على أساس مؤمنين وغير مؤمنين، وعلى أساس تبعيّتهم لهذا الدين أو ذلك، وهم بناءً عليه يمارسون نوعاً من العنصرية.

يرى البعض أنّ الأخلاق هي المعيار الأهمّ في ضبط سلوك البشر، بينما يرى آخرون أنّ دورَ الدين حاسمٌ في تنظيم علاقاتهم، وهذا ما أوضحته نقاشات الفلاسفة وعلماء الاجتماع والمتنورون عبر الثقافات والعصور. فعندما "طالب الفيلسوف دالامبير من الملك فريدريك الثاني ملك بروسيا المتنوّر، بإقامة معبد في برلين أو بوتسدام لخدمة الله، حيث لا يكون الوعظ والتبشير إلّا بالإنسانيّة والعدل"، كان يدافع عن رأيه بأنّ الأخلاق تكفي البشر، بينما كان موقف الملك يذهب إلى أنّ الناس تطلب من الدين أكثر من ذلك وأنّ الأخلاق وحدها لا تكفيهم. وموقف دالامبير ذاته "ومجرّد اعتقاده بضرورة إقامة معبد لدين الإنسانية هذا، هو تأكيدٌ بأنّ الدين ليس أخلاقاً فحسب، كما أراده، وأنّه لا بدّ من الاحتفاظ بقدر من الشعائر والطقوس الجماعيّة."[1]

من المنطقي إذن نسبة سلوك رجال الشرطة الذين قتلوا جورج فلويد إلى خلفياتهم الثقافيّة السائدة في مجتمعاتهم والمتأثّرة بالضرورة بالتاريخ والدين وسيرورتهما المعقّدة. فجذور العنصريّة تمتدّ إلى النقاشات التي دارت في أوساط المفكرين ورجال الكنيسة والفلاسفة والمستكشفين، في الفترات اللاحقة لاكتشاف القارّة الأميركية، حيث "انقسمت المواقف الثقافيّة من السكان الأصليين موقفين، أحدهما يرى أنّ "توحّشهم" يبرر التعامل معهم كبهائم، والثاني يرى "التوحّش" نوعاً من الطهارة والنقاء من خطايا الحضارة، وهكذا نشأت أسطورة "المتوحّش النبيل" فطهارته تشكّل نقطة انطلاق أفضل لتنشئته المسيحية."[2]

لكنّ الموقف الذي انتصر في التعامل وساد في التطبيق، هو الموقف العنصري الذي رأى في السكان الأصليين مجرّد كائنات أدنى من البشر. وقد استمرّ النظر إلى من هم من غير العرق الأبيض، من سكان أميركا وأستراليا ونيوزيلاندا الأصليين، أو من الآسيويين المهاجرين إليها لاحقاً أو من الأفارقة المستعبدين عبر تجارة الرقيق، على أنّهم أقل مرتبة من الأوروبيّين البيض، انطلاقاً من اعتبارات بيولوجية تعود إلى طبيعة تكوينهم ذاتها، وقد كان من الطبيعي بالنسبة إلى هؤلاء "أن يمارس الإنسان – الأوروبي – سياسة عنيفة ضدّ هؤلاء البشر ويبقى إنساناً فاضلاً، مثلما يكون الإنسان الذي يسخّر البهائم في مزرعته شخصاً فاضلاً."[3] وفي بعض الحالات أدخل التفسير الديني إلى التراتبيّة العنصرية نفسها وكأنّه شرح شبه علمي، مثل "لعنة حام" بخصوص الأفارقة، فهم سودٌ بموجب هذا التفسير لأنّ الله سودّ بشرتهم، أو عن المسلمين لأنّ الله (أو إبراهيم) رفض إسماعيل ونبذه مع أمّه، أو في حالة اليهود لأنّ الله لعنهم لأنهم لم يقبلوا المسيح مخلّصاً. واللعنة في هذه الحالة ليست هي التكفير الديني، بل تفسير لتدنّي مرتبة هؤلاء عنصرياً."[4]

هكذا يمكن النظر إلى الفكر العنصري في القرن الواحد والعشرين، أي بعد أكثر من خمسة قرون على ظهور تلك التفسيرات والتعليلات البدائية، على أنّه غير منبتٍّ من جذوره بل هو امتداد لما سبق من تمييز بين البشر على أسس غير صحيحة وغير قابلة للإثبات، بل هي تسقط عند أوّل اختبار علمي أو فحص منطقي.

مع ذلك، تبقى المقارنات غير عادلة، إلّا إذا أخذت بأمثلة مشابهة من التمييز الذي نعيشه في عالمينا العربي والإسلامي، والأمثلة أكثر من أنّ تُعدّ وتُحصى، حول التمييز والعنصريّة التي نربى عليها ونعيشها ونمارسها، حتى دون أن ندري أو أن نشعر في أغلب الأحيان. من التمييز بين الابن والابنة، بين الذكر والأنثى، بين المواطن والأجنبي، بين القريب والبعيد، بين الغني والفقير، بين أتباع الأديان والطوائف والقوميات.. ناهيكم عن التمييز على أساس الولاء للسلطة أو معارضتها.

على الأقل لن نجد في أوروبا أو أميركا نظاماً تمييزيّاً ضدّ العمّال والوافدين، ولن نجد مهنة خدمة البيوت، وإن وجدت فهي إنسانيّة إلى أبعد الحدود وتخضع لقوانين صارمة، بعكس الحال في كثير من الدول العربية والإسلامية، حيث تصل غالباً إلى ما يشبه حالة الاسترقاق، أو أقلّ قليلاً!

تعلق تلك الصورة في الأذهان للحظة فقط، وتزول لمجرّد أن يهبط المرء من فضاء العالم الافتراضي إلى ساحة الحياة الواقعيّة، عند أوّل لافتة يقرؤها، أو عند أوّل موقف يركن فيه سيارته، أو عند أوّل وقوف في طابور الانتظار للحصول على الخبز أو الدواء أو لإنجاز معاملة تجديد الإقامة أو رخصة العمل. هناك حيثُ يعيش الإنسان التمييز والعنصريّة الحقيقية بكلّ وضوح وصراحة.

 

[1] - العلمانية في سياقات تاريخية – الجزء الثاني – المجلد الأول – ص 512 د. عزمي بشارة

[2] - المرجع السابق – صفحة 481

[3] - المرجع السابق – صفحة 484

[4] - المرجع السابق – صفحة 486