مفارقات الاستقلال والجلاء

2023.04.17 | 06:21 دمشق

+A
حجم الخط
-A

ثمة مفارقات ومغالطات بعضها مقصود، خاصة في التأريخ العربي المعاصر، تضع المتلقي غير المختص أمام إشكالية ريادة مزعومة يحاول مؤرخو السلطات الوطنية تكريسها بين مواطني دولهم، تعزيزاً لشعور عالٍ بالوطنية، بحسب زعمهم، غير عابئين بثبوت تلك الادعاءات أمام حقائق التقصي والتوثيق.

من تلك الادعاءات، ادعاءات الأسبقية في استقلال دولة ما، خاصة عندما تكون الدولة ضمن منظومة تجمعها بمثيلاتها روابط، أو ضمن محيط فيه مشتركات، كما الدول العربية بوضعها الراهن والتي في مجملها ما كانت دولة بمسمّاها الحالي قبل القرن الميلادي العشرين وإن كان لها المسمى الجغرافي أرضاً.

مصطلح (الاستقلال) ينطوي بحد ذاته في جانبه السياسي على تفاصيل وجزئيات تجعله فضفاضاً وقابلاً أحياناً للتطويع  من مؤرخي تلك الدول، فالاستقلال يشمل ثلاثة مستويات أساسية:

  1. التأسيس: تأسيس دولة جديدة لم يكن لها سابق وجود سواء أكانت استقلالاً عن دولة سابقة بمسمى جديد أم نتيجة وجود مستحدث لكيان الدولة نتيجة حركات توحيد أو سيطرة على مجموعات متفرقة تعيش وفق أعراف ولم يكن لها هيكل دولة.
  2. الاستقلال الكامل: المتمتع بالسيادة عن دولة قائمة أو محتلة.
  3. الاستقلال الجزئي: الاعتراف المشروط والمؤجل من قبل دولة محتلة أو متحكمة، ويقع في حكمه أيضاً ما يعرف بـ(الحكم الذاتي).

وضع الدول العربية التي استقلت متأخرة عن منتصف القرن العشرين ليس مثار خلاف في تأريخه، أما ما هو أسبق فيترك المجال مفتوحاً أمام تأولات، ويمكن حصره في الدول الحالية التالية (سوريا، مصر، السعودية، العراق، اليمن) وجميعها دول أُعلنت ممالك بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ثم تحوّلت إلى نظام جمهوري باستثناء السعودية المتفرّدة منذ إعلانها بثبات نظامها وحكم العائلة المالكة.

مصطلح الاستقلال بمفهومه السياسي حديث، برز بداية مع حرب الاستقلال الأميركية ضد الامبراطورية البريطانية ثم تجسّد في القرن العشرين إثر الحربين العالميتين، فكان عقب الأولى ما نجم عن انهيار الإمبراطوريات المهزومة وتفكيكها (العثمانية والألمانية والنمساوية…)، وعقب الثانية بما أُطلق عليه (حركات التحرر والاستقلال) مع بروز قوتين جديدتين (أميركية وسوڤييتية) سادتا العالم، ثم كانت الإطلالة الثالثة للاستقلالات في العقد الأخير من القرن العشرين بتفكّك اتحادات المعسكر الاشتراكي (الاتحاد السوڤييتي والاتحاد اليوغسلافي واتحاد تشيكوسلوفاكيا).

وضع الدول العربية التي استقلت متأخرة عن منتصف القرن العشرين ليس مثار خلاف في تأريخه، أما ما هو أسبق فيترك المجال مفتوحاً أمام تأولات، ويمكن حصره في الدول الحالية التالية (سوريا، مصر، السعودية، العراق، اليمن) وجميعها دول أُعلنت ممالك بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، ثم تحوّلت إلى نظام جمهوري باستثناء السعودية المتفرّدة منذ إعلانها بثبات نظامها وحكم العائلة المالكة.

سوريا أُعلنت مملكة مستقلة في 8 آذار 1920 وكانت تشمل سوريا الطبيعية (بلاد الشام التي تضم سوريا الحالية ولبنان والأردن وفلسطين)، لكنها لم تستمر إلا لبضعة أشهر مع دخول القوات الفرنسية العاصمة دمشق وإعلان إلغاء الملكية.

لم تسفر حركات المقاومة ثم النضال السياسي إلا عن معاهدات استقلال منقوص بإعلانها جمهورية وانتخاب أول رئيس لها (محمد علي العابد - 1932) مع بقائها تحت الانتداب، ثم معاهدة الاستقلال (1936) التي أخّرت فرنسا تنفيذها متعذرة بالوضع العالمي غير المستقر مع نذر الحرب العالمية الثانية.

وحين بدأت الحرب العالمية الثانية كان من مجرياتها دخول القوات الألمانية إلى فرنسا ذاتها وتنصيب حكومة فيشي، فميا تحوّلت (قوات فرنسا الحرة) إلى حركة مقاومة، اضطرت وبضغط من بريطانيا إلى وعد السوريين بالاستقلال مباشرة بعد إسقاط حكومة فيشي، وهو ما كان بعد أيام، إذ أعيد العمل بالدستور واختير (تاج الدين الحسني) رئيساً ريثما يتم الانتخاب ووقّع مع المندوب السامي الجنرال كاترو اتفاقاً بالاستقلال اختتم بعبارة (فلتحيا سورية الحرة.. فلتحيا فرنسا) ليعقبه احتفال الاستقلال يوم 28 أيلول 1941، لكن النخب السياسية لم تعطه أهمية، بل ولم تعتبره في تاريخها يوم استقلال حقيقي حتى بعد انتخاب شكري القوتلي رئيساً للجمهورية عام 1943، مصرّة على أن الاستقلال الحقيقي لن يكون إلا بجلاء آخر جندي محتل عن أرض الوطن، وهو التاريخ المعتمد الذي سنعود إلى مدلوله لاحقاً.

اليمن الشمالي تحرّر من الحكم العثماني عام 1918، وأُعلنت المملكة المتوكلية وبويع الإمام يحيى ملكاً وإماماً لكنها بقيت مصرة على أنها لم تستقل باعتبار شطرها الجنوبي (عدن) تحت الاحتلال البريطاني إلى حين انسحاب بريطانيا في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1967. وعلى الرغم من قيام اليمن الجنوبي دولة مستقلة، إلا أن اليمنيين في الشطرين اعتبروه يوم الاستقلال والجلاء قبل توحّد الدولتين مطلع التسعينات.

مصر التي كانت لها الأسبقية في محاولة الاستقلال منذ انفراد (محمد علي) بحكمها وإعلانه الحرب على السلطنة العثمانية وسيطرة جيشه بقيادة ابنه إبراهيم على بلاد الشام بعد إخضاعه الحجاز ونجد وإنهاء دولة السعوديين الأولى، ومن ثم إجباره على التراجع إلى مصر والاكتفاء بحكمها مع السودان تحت مظلة شكلية للسلطنة، إلا أن الاحتلال البريطاني لمصر والسودان جعل الاستقلال يتأخّر إلى ما بعد ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول، حيث تم توقيع معاهدة الاستقلال عام 1922 وإعلان مصر مملكة مستقلة، وتحوّل لقب الحاكم من خديوي إلى ملك فكان (فؤاد الأول) أوّل ملك لدولة مصر والسودان، لكن الوجود العسكري البريطاني استمر إلى ما بعد الانقلاب على النظام الملكي وتحويله إلى نظام جمهوري، حيث وقّع جمال عبد الناصر بصفته رئيساً لوزراء مصر مع رئيس الوزراء البريطاني اتفاقية جلاء القوات البريطانية عن مصر عام 1954.

العراق الذي احتلته القوات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى ثم أعلنته مملكة يتولاها أحد أبناء الشريف حسين بعد الالتفاف على عهودها السابقة بجعله ملكاً على سائر بلاد العرب في الشطر الآسيوي، فتم بداية إعلان الأمير عبد الله بن الحسين ملكاً على العراق ثم تم التراضي - بعد إسقاط الفرنسيين للمملكة السورية وخلع فيصل - على أن يتولى عبد الله مملكة الأردن ويُتوّج فيصل ملكاً على العراق المنتدب تحت ضوابط الوصاية البريطانية، لكن التجاوزات البريطانية وعدم الالتزام بالعهود أشعل (ثورة العشرين) التي شملت كل الأراضي العراقية وأجبرت الحكومة البريطانية على منح العراق الاستقلال والسيادة عام 1932، مع اشتراط أن تبقى بعض النقاط العسكرية البريطانية (لمدة 25 سنة) لحفظ المصالح دون اعتبارها قوة احتلال، وهو ما اعتبر يوم الاستقلال للعراق وأعيد التأكيد عليه عام 2006 من دون إشارة إلى الاحتلال الأميركي اللاحق !؟.

تتفرّد السعودية بين هذه الدول العربية بأنها منذ إعلانها مملكة عام 1932 على سائر الأراضي التي ما زالت تشكّل رقعتها الجغرافية الحالية، لم تتعرّض أراضيها لاحتلال صريح أو انتداب أو وصاية، وما يزال نظامها الملكي قائماً تتداوله أسرة الأب المؤسس (عبد العزيز آل سعود)

تتفرّد السعودية بين هذه الدول العربية بأنها منذ إعلانها مملكة عام 1932 على سائر الأراضي التي ما زالت تشكّل رقعتها الجغرافية الحالية، لم تتعرّض أراضيها لاحتلال صريح أو انتداب أو وصاية، وما يزال نظامها الملكي قائماً تتداوله أسرة الأب المؤسس (عبد العزيز آل سعود)، والإعلان الرسمي بأن ذلك اليوم يوم تأسيس دون النظر إلى ما سبقه من قيام الدولة الأولى أو تمخضات الثانية.

الفارق الأساسي في خضم فوارق الاستقلالات المزعومة واختلاف المؤرخين الوطنيين في تحديد تاريخ يأخذ بالاعتبار قواعد الاستقلال التام لم يتم تجاوزه إلا في سوريا بداية ثم اليمن، فقد كان الإصرار فيهما على ضرب الصفح عن تواريخ إبرام المعاهدات إلى اعتبار العيد الوطني وذكراه مرتبطة بتاريخ جلاء آخر جندي محتل عن أرض الوطن، وهو ما كان في سوريا في مثل هذا اليوم، السابع عشر من نيسان عام 1946.

اعتبار يوم الجلاء يوم الاستقلال الحقيقي يفسّر اعتماد لبنان تاريخاً سابقاً لاستقلاله عام 1943، معتمداً على توقيعه اتفاقية الاستقلال بعد تجاذبات انفصاله عن سوريا، فيما لم تنسحب منه القوات الفرنسية حتى نهاية عام 1946 أي بعد أشهر من جلائها عن كامل أراضي الدولة السورية المستقلة بعد تجزئة وقضم مما سبق إعلانه تأسيساً بمسمى (المملكة السورية العربية) عام 1920.

المفارقة الكبرى في ثنايا التمعن في فوارق الاستقلال والجلاء، أنّ الدول التي كانت أكثر اصراراً على تمتعها باستقلال تام والتي لعب سياسيوها أدوارهم الوطنية وأصرّوا على بناء جيشهم الوطني هي التي شهدت بتسارع انقلابات العسكر على الساسة بذريعة الإخلاص الوطني وحماية الحمى ثم انقلاب العسكر على بعضهم بعضا، لتتحول المنظومات الحاكمة إلى دكتاتوريات وأنظمة (مافيوية)، أحالت بلادها خراباً واستجلبت له بدل الاحتلال الواحد احتلالات سينتظر جيل أو أكثر زوالها إن زالت، وإن لم تتحول تلك الدول، التي تغنت لعقود بالوطنية والتحرر، إلى مجرّد أثر ومسمّيات لدول عابرة شأنها شأن سواها من دول قامت ولم يعد لها ذكر إلا في كتب التاريخ وبعض أصول لأرض المنبت يحدّث بها الأجداد أحفادهم سواء ممن سيبقون في الأرض وتتغير بهم المسميات أو في مهاجر بعيدة ممن تشرّدوا في أرجاء الأرض، آملين عودةً عاجلة سيطول انتظارها ثم تغدو بعد جيل أو أكثر مجرد ذكرى لا انتماء.