مع نهاية العام.. رايات وممالك بلا عروش..

2024.01.01 | 06:58 دمشق

مع نهاية العام.. رايات وممالك بلا عروش..
+A
حجم الخط
-A

مع أفول العام 2023، أسئلة عدة تقف على أعتاب نهاياته وتطرق بوابات العام المقبل. هل يمكن لانتفاضة السويداء أن تغيير المعادلة السورية إذا ما بقيت وحيدة بلا مشاركة بقية السوريين معها؟ في حين يأتي السؤال الثاني: ماذا عما يسمى "العقد الاجتماعي" لقسد وأثره في المعادلة السورية وعلى السويداء؟ بينما يطرح الاثنان سؤالًا آخر: هل ثمة مشروع متكامل تطرحه السويداء يختلف عن هذين السؤالين؟

يقول متظاهر يبحث عن تحقيق حلمه بالحرية والعدالة ودولة القانون: ها هو العام 2023 ينتهي ولم تقف بقية المحافظات السورية معنا! ولم نتقدم بعد باتجاه التغيير السياسي! ورغم أن قوله حق في المعادلة الوطنية، لكن يغفل صاحبه عن أن معظم الداخل السوري قد تم تهجيره منذ العام 2018، والمتبقي من المدن السورية في الساحل ودمشق لا تمتلك القدرة على التحرك اليوم أمام شدة القبضة الأمنية والميليشياوية المحكمة. في حين يقول آخر: ما دام الأمر كذلك فلنتحالف مع قسد وندخل معها في المعادلة الإقليمية التي تزكيها الرعاية الأميركية، ونحقق الإدارة الذاتية في السويداء. ويتجاهل السؤال عن عمد، الإجماع الشعبي والتاريخي لأبناء السويداء ورفضهم الانفصال عن سوريا، هذا عدا الإغفال العمد عن الإمكانات المادية للسويداء التي لا تمتلك أدنى مقومات ذلك، في حين أنّ طرح ما سمّي بعقد اجتماعي لقسد من طرف واحد هو إقصاء لبقية المكونات السورية وترسيخ سياسة سلطة الأمر الواقع، وتقصم ظهر العقد الاجتماعي الوطني من منتصفه قبل أن يتحقق التغيير السياسي العام ويشارك كل السوريين في صياغته. في المقابل، يقول عدد من السوريين لقد مضت ثماني سنوات على القرار الأممي 2254 ولم يتحقق التغيير السياسي، كما أن مشروع قسد في الإدارة الذاتية مشروع لا يتناسب مع المشروع الوطني، فعلى السويداء أن تطرح المشروع الوطني السوري بمفردها!

ما قاد المنطقة برمتها لتشابك متداخل بين المحلي والدولي عنوانه الرئيسي والواضح "غياب المشروع الوطني" عن ساحات المنطقة

ربما، والشك ضرورة عقلية لأزمة تذهب باتجاه الوجود بحسب ديكارت، فحين يهيمن "اللايقين" ويصبح الواقع أسير شبهة "اللامقعول" غارقًا في التعمية والحلول المفترضة تصبح بوابة الاحتمالات وفوضى الأفكار حالة غير نمطية وغير منتجة سوى لتراكم مزيد من التشتت الآني والمرحلي، ما لم تحسم السياقات الموضوعية الفارق بين المعقول والممكن. ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تتأخر الأقوال في تباينها العام عن مجريات الحدث الضخم الذي هزّ المنطقة برمتها منذ بدء ثورات الربيع العربي، والذي لم يقدم منتجًا سياسيًا لليوم يمكن البناء عليه. ما قاد المنطقة برمتها لتشابك متداخل بين المحلي والدولي عنوانه الرئيسي والواضح "غياب المشروع الوطني" عن ساحات المنطقة، أمام تزايد الفوضى وسلطات الأمر الواقع وصراع الرايات وتتويج ممالك بلا عروش تحكم هنا وهناك، والأكثر اتضاحًا فيها سوريا. فهل يمكن لجهة أو مكون عرقي أو سياسي وحيد أن يطرح مشروعًا وطنيًا بحد ذاته؟ وهل يمكن الركون لمقولة "الشعوب" المفعمة بالضبابية التي طرحتها وثائق قسد، تقضم معقولية الشعب المتعاقد أهليًا والساعي، طوال السنوات الماضية، لعقد مدني يجمع شتاته في دولة؟ أم أن الاستفادة من تجارب الشعوب يمكنها أن تطرح عنوانًا مختلفًا؟

السوريون من عرب وكرد، من سنة ودروز وعلويين، من سياسيين ونخب وتجمعات مدنية، جميعهم شعب لليوم لم ينجز عقده الاجتماعي المدني، لكنهم، رغم هذا متآلفون حول موروث عميق من التعاقد الأهلي والشعبي التاريخي، عقد غير كافٍ لأن يرتقي لمصافّ السياسة وإدارة شؤون الحكم والدولة بصيغها الحديثة التي تصون بالقانون والدساتير حق الشعب المتساوي مدنيًا ومعتقديًا وفكريًا وسياسيًا. في حين أن مجريات الحدث السوري بخلاصته الراهنة أبرز أن صراع الرايات السياسية والعسكرية أقام ممالك تشبه ممالك الطوائف في نهاية العصر العباسي، والكل يتصارع مع الكل، ويُدخل السوريين جميعًا في معضلة الاستعصاء والاستنقاع السياسي من دون حل يؤمن أبسط مقومات الحياة والأمان. وهذا ليس ببعيد عن السويداء وساحاتها التي تصر على التظاهر للشهر الخامس على التوالي، ولكنها لم تنجُ من بازار الرايات دون المستوى الوطني!   

وحتى لا يُعاب علينا التنظير، أو الترويج لمشروع مكتمل دون مشاركة السوريين فيه، وحتى لا نغرق في حلول الواقع الجزافية، وخروجًا من سيل الافتراضات والمعقول وغير المعقول. وذهابًا تجاه الممكن وأضعف الإيمان والقول والفعل، حيث حاولت ساحة الكرامة في أسبوعها الأخير من العام 2023 أن تحمل عنوانها الأبرز للعام 2024 في التغيير السياسي الوطني والعام، فإنه من الممكن للسويداء أن تسهم في المشروع الوطني السوري وفق حزمة من النقاط المهمة تزيد من مقوماته، وتدفع في تحققه للأمام:

  • التظاهر السلمي الواسع الذي يزيد من عوامل الضغط الواسعة محليًا وعربيًا ودوليًا على مملكة الحكم الأمنية العسكرية البعثية المورثة في سوريا، دون أن تتمكن هذه السلطة من وصفها بالإرهاب كما فعلت مع بقية المحافظات السورية، فأتت على تهجير غالبية سكانها.

يمكن للسويداء أن تسهم بشكل فعال في إعادة طرح المشروع الوطني السوري والخروج من شكل الصراع الدامي والكارثي الذي دام لسنوات

  • التمسك بالحل السياسي السوري العام الذي يغير معادلة الحكم من ملوك طوائف وأحزاب سياسية شمولية، إلى حكم وطني تعاقدي يشمل كل السوريين، دون أن تتمكن هذه السلطة من إخراج السويداء من المعادلة الوطنية هذه، بمنحها أو دفعها لحالة انفصالية كما حدث مع شرق الفرات السورية بعناوين مختلطة وغير مدققة من حيث الإمكانات والزمن كاللامركزية الإدارية أو الإدارة الذاتية أو الفيدرالية.
  • يمكن للسويداء أن تسهم بشكل فعال في إعادة طرح المشروع الوطني السوري والخروج من شكل الصراع الدامي والكارثي الذي دام لسنوات. فإن كان عنوان ثورة الحرية والكرامة في بداياتها التغيير السياسي الجذري في سوريا، وساقتها مجريات أحداثها لمعادلات صراع على السلطة والرايات وعروش بلا ممالك متعددة العناوين سياسيًا وعسكريًا، تتداخل معها الأجندات الإقليمية والدولية، حتى أفقدت الثورة معناها ومحتواها الأول. وهنا يمكن للسويداء أن تعيد طرح معادلة الصورة الأولى، سواء في الخروج من معادلات الصراع على السلطة، أو نفي معادلات سلطات الأمر الواقع من التمدد، مضافًا له التمسك بالمشترك السوري العام في الحل اليوم والمستقبل غدًا.

وبحسب هيغل في سؤال "المعقول" لابد للواقع أن يتغير، أو يصبح معقولًا بحسب جدل ماركس، فلو كانت المسألة السورية قابلة للحسم والتغيير السريع لما عانى السوريون سيل الكوارث التي يعيشون. ولو أن المسألة مجرد أفكار نظرية علينا تطبيقها، لما احتاجت سوريا إلى كل هذا الكمّ من القرارات الدولية واللقاءات الأممية والمنصات السياسية! إذ كانت كفاية تطبيق الفكرة مجرد طرحها وحسب تحل كل كوارثنا، فلا غرابة أن الإجابات عن الأسئلة المطروحة أعلاه تأتي في بيان مكتوب هنا أو جملة وصفية جاهزة للتنفيذ هناك. ويصبح المشهد وكأنه صراع أفكار وبيانات ورايات، في حين أنّ كيفية المساهمة في الحلول وأدوات تنفيذها ومسؤولية كل منا عنها هي الغائب الأبرز عن المشهد السوري برمته. وما زلت أتعجب: هل يبنى البيت ويصبح واقعًا قائمًا إذا ما طرحنا مواصفاته وكفى؟ أما السؤال الأشد إرباكًا: هل نعيد تكرار التجربة ذاتها مرارًا وننتظر نتيجة مختلفة؟

السويداء خرجت من امتحان الجمعة الأخيرة هذا العام بسلام، حافظت على سلميتها وبوصلتها الوطنية في التغيير السياسي وإصرار شعبي ومدني واسع، والأهم من هذا كانت ساحتها أوسع من كل الرايات المرفوعة أهلية كانت أو سياسية، وقادرة على استيعابها، فهل سيشاركها السوريون بدايات العام المقبل ويحسمون كل الفرضيات والجدليات للمساهمة في التغيير السياسي بدل إقامة ممالك بلا ملك وعروش؟