معضلة الدولار القوي

2022.10.16 | 05:36 دمشق

معضلة الدولار القوي
+A
حجم الخط
-A

تعرضت الاقتصادات المتقدمة لضربة كبيرة من ارتفاع قيمة الدولار إلى أعلى مستوياته منذ بداية العام بطريقة كانت لسنوات مألوفة فقط في الأسواق الناشئة.

فمنذ بداية العام حتى تاريخ كتابة هذه المقالة تراجع الين الياباني بقيمة 23 بالمئة مقابل الدولار الأميركي، واليورو بقيمة 15 بالمئة، والجنيه بقيمة 17 بالمئة، ومؤشر العملات في الأسواق الناشئة أيضا 14 بالمئة. مما دفع البنوك المركزية في كل من الصين واليابان وإنكلترا للتدخل في أسواق الصرف والسندات، للسيطرة على الانخفاض الهائل في قيمة عملاتها مقابل الدولار الأميركي.

تتغذى هذه التحركات في أسعار صرف العملات من دورة التشديد النقدي الأكثر عدوانية للاحتياطي الفيدرالي الأميركي منذ أكثر من جيل، حيث دفعت زياد أسعار الفائدة المتكررة العملة الأميركية إلى الارتفاع في مقابل العملات المنافسة، مما يؤدي إلى ارتفاع كلفة السلع المستوردة، وتقييد الظروف المالية وتغذية التضخم في الاقتصادات الأخرى.

يؤدي هذا أيضا إلى تصعيد الضغط على البنوك المركزية الأخرى لرفع أسعار الفائدة في الوقت الذي تعيق فيه أزمة الطاقة وارتفاع أسعار المستهلكين اقتصادات أوروبا، وتؤدي الزيادات في تكاليف الاقتراض إلى ركود أسواق العقارات في أستراليا وكندا ونيوزيلندا. وعلى الرغم من ذلك فإن إجراءات البنوك المركزية الأخرى بقيت ذات قدرة محدودة في التأثير على قوة الدولار، مما يشير إلى استمرار حالة عدم الاستقرار المالي في الأسواق على المدى القريب.

علميا تزداد قوة الدولار أمام كل الأصول المالية الأخرى مع ارتفاع معدلات الفائدة الفيدرالية، حيث تجعل منه ملاذا آمنا يولد دخلا ثابتا مقارنة بالذهب الذي يعتبر ملاذا آمنا لا يدر أي عائد، والأسهم التي تصنف من أصول المخاطرة المرتفعة، كما يستمد قوته أيضا من ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأميركية قصيرة الأجل.

ارتفع مؤشر الدولار مقابل عملات الاقتصادات المتقدمة بنسبة 10٪ هذا العام إلى أقوى مستوى منذ 2002، في حين ارتفع مقياس عملات الأسواق الناشئة أمام الدولار بنسبة 3.7٪ كما يوضح المخطط المرفق.

حيث دعم الأداء المتفوق لبعض عملات الدول مثل الريال البرازيلي والروبل الروسي مؤشر أداء العملات الناشئة.

A picture containing text, writing implement, stationary, pencil

Description automatically generated

 

رفع الفيدرالي الأميركي الفائدة على الدولار الأميركي منذ بداية العام بحدود 300 نقطة أساس في حين تشير التوقعات إلى أنه سيرفعها بمقدار 125 نقطة أساس على أقل تقدير حتى نهاية العام في إطار حربه على التضخم الذي بدء في التباطؤ ولكن بمستوى أقل من التوقعات حيث سجل في القراءة الأخيرة عن شهر سبتمبر الماضي 8,2 % بعد أن وصل إلى ذروته عند 9% في مايو الماضي، يذكر أن الفيدرالي الأميركي وضع هدفا لسياسته النقدية وهو الهبوط بالتضخم إلى مستوى 2%.

تفاوتت استجابة البنوك المركزية الكبرى الأخرى لسياسة الفيدرالي حيث قام البنك المركزي الأوروبي بزيادة قياسية في أسعار الفائدة بمعدل 75 نقطة أساس في اجتماعه الأخير، في حين أنه يتعامل مع تضخم قياسي واليورو أقل من التكافؤ مع الدولار. كما قام بنك كندا المركزي برفع الفائدة بالنسبة نفسها وقام البنك المركزي الأسترالي مؤخرا برفع سعر الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية أخرى في اجتماعه الأخير.

في المملكة المتحدة - التي هي بالفعل في حالة ركود- رفع بنك إنجلترا الفائدة بــ 100 نقطة أساس في 15 سبتمبر، حيث يواجه الجنيه فقدان الثقة من المستثمرين بعد الخطة المالية لرئيسة الحكومة الجديدة وإقالة وزير المالية مؤخرا، الأمر الذي دفع الإسترليني إلى أدنى مستوياته منذ عام 1985.

وانخفاض الين إلى أدنى مستوى خلال ربع قرن يجعل الأمر أكثر صعوبة يومًا بعد يوم على محافظ بنك اليابان، الذي مازال يصر أن يلتزم بخطه القائل بأن التيسير النقدي الهائل لا يزال مطلوبًا، حتى في مواجهة ارتفاع معدلات التضخم ويصر رئيس بنك اليابان على أن الزيادة الأخيرة في أسعار المستهلك التي يحركها العرض السلعي لن تدوم وستعود للانخفاض مع انتهاء التوترات الجيوسياسية العالمية وانتهاء اختناقات سلاسل التوريد،

في حين وعلى الرغم من أن العديد من الاقتصادات الناشئة شعرت بالعبء الأكبر من ارتفاع معدلات التضخم الناتج عن الارتفاع القياسي لمؤشر الدولار، لكنها نجحت على نطاق واسع في تجاوز مخاطر دورة رفع الاحتياطي الفيدرالي للفائدة بشكل أفضل من التجارب السابقة تاريخيا، على الأقل حتى الآن، كما تدخل البنوك المركزية في بعض هذه الدول، مثل تشيلي والهند وتركيا، لدعم عملاتهم وهو أمر أكثر صعوبة من الناحية السياسية على أقرانهم من الدول المتقدمة التي تلتزم بقواعد أسعار الصرف الحر.

يوضح المخطط المرفق التغيرات في قيمة مؤشر الدولار أمام عملات الأسواق المتقدمة والناشئة وفقا لتغيرات معدل الفائدة:

Chart, line chart, histogram

Description automatically generated

منذ أن بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي موجة التشديد النقدي من بداية هذا العام، عانت عملات الأسواق المتقدمة على الأقل بقدر ما كافحت نظيراتها في الدول الناشئة. من خلال تتبع 31 سعر صرف رئيسي في الأسواق الناشئة والمتقدمة مقابل الدولار الأميركي، كل العملات خاسرة باستثناء الدولار الكندي من عملات الأسواق المتقدمة والريال البرازيلي والروبل الروسي من الأسواق الناشئة.

في الوقت الحالي، أشار بنك الاحتياطي الفيدرالي إلى أن وقف مسيرة التشديد النقدي قد يكون بعيد المنال، مع الحاجة إلى إبقاء الفائدة لبعض الوقت لإخماد التضخم. في حين يرى بعض الاقتصاديين أن الفيدرالي لن يتوقف عن رفع الفائدة حتى يصل إلى حالة العائد الإيجابي أي أن يكون معدل الفائدة أعلى من التضخم وهذه حالة ستؤدي إلى وضع كارثي في أسواق الأسهم والسندات والعملات الرقمية وتتسبب بصدمة عنيفة في الأسواق الناشئة عن ارتفاعات قياسية في كلفة الدين الحكومي أو يدخل الاقتصاد الأميركي بركود عميق ينعكس بتباطؤ قطاع التوظيف بشكل حاد وارتفاع البطالة.

بشكل عام ستصبح المشكلة حادة بشكل أكبر بالنسبة لصانعي سياسات الاقتصاد في كل أنحاء العالم إذا استمر الدولار في الارتفاع. لأنه سيدفع البنوك المركزية إلى الاستمرار في زيادة أسعار الفائدة حتى لو كانت الأسواق المحلية تتدهور، والنمو يتعثر فهل يكون الخلاص بسيطرة الفيدرالي على التضخم أم بركود الاقتصاد الأميركي؟