مصائب التعليم الجامعي في الشمال السوري

2023.06.18 | 06:20 دمشق

مصائب التعليم الجامعي في الشمال السوري
+A
حجم الخط
-A

ما دفعني إلى فتح موضوع التعليم الجامعي في الشمال السوري هو رسالة الماجستير التي نوقشت في جامعة إدلب، قبل أسابيع قليلة، والتي حملت عنوان "واقع التربية الجهادية في الثورة السورية المعاصرة في ضوء المعالم التربوية لسورتي الأنفال وآل عمران"، وكذلك الزيارة (التفقدية) التي قام بها وفد من مشايخ "إدارة الأوقاف" في اعزاز لجامعة حلب الحرة.

 يذكر أن مثل تلك الرسائل التي تحاول أن تربط بين أي موضع يخطر على بالها وبين النصوص الدينية والسيرة النبوية انتشرت كثيرا في الجامعات السعودية والماليزية واللبنانية والسودانية وبعض الجامعات الأوروبية الخاصة منذ عدة عقود؛ إما تنفيذًا لأيديولوجية بعض الدول، أو سعيًا وراء لقب "دكتور" دون عناء ولا دراسة علمية حقيقية.

وتعود خطورة مثل تلك الرسائل الجامعية، والسياسات التربوية في الشمال السوري بشكل عام إلى أنها تصور الثورة السورية وكأنها "جهاد" من قبل فئات محددة من الشعب السوري. علما أن "الجهاديين" قتّلوا ونكّلوا بالسوريين بشكل لا يختلف كثيرا عما فعلته السلطة الأسدية (الاختلاف في الكم وليس الكيف)، وأن سياساتهم الداخلية والخدمية والأمنية تكاد تتطابق مع تلك السلطة.

 رسائل جامعية كهذه تفتح باب العلم بوصفه مجرد أيديولوجيا محضة ليس له أي علاقة بالتربية والتعليم والجامعات والمدارس والمناهج، لأنها تنظر إلى العلم على أنه وسيلة وليس غاية

يعرف غالبية السوريين أن "الجهاديين" لم يكونوا أصحاب الثورة السورية في البداية، ولم يظهروا على الساحة إلا بوصفهم جزءا من "الثورة المضادة"، لأن الثورة السورية هي ثورة من أجل الحرية والعدالة والمساواة ولم تكن يوما ثورة، أو جهادا من أجل هوية إسلامية جهادية. 

  رسائل جامعية كهذه تفتح باب العلم بوصفه مجرد أيديولوجيا محضة ليس له أي علاقة بالتربية والتعليم والجامعات والمدارس والمناهج، لأنها تنظر إلى العلم على أنه وسيلة وليس غاية. هكذا يعاد تشكيل العلوم التربوية بطريقة مزيفة تناسب أصحاب السلطة القائمة. وإعادة التشكيل هذه هي استراتيجية تلجأ إليها كل سلطات الأمر الواقع في سوريا، والتي تقوم على "تخيل" صورة معينة للتاريخ والفكر والتربية بحيث يتحول بعض الأفراد "الإرهابيين" إلى شخصيات كارزمية ملهمة تكتب عنها الأطروحات الجامعية (عبدالله أوجلان، حافظ الأسد..)، أو يتم تخيل تاريخ المنطقة بطريقة تناسب بعض الأحزاب المتسلطة بحيث يُفصّل التاريخ على مقاسها (حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني PYD، حزب البعث)، أو يتم تخيل الثورة السورية وكأنها جهاد من أجل هوية دينية وليست ثورة من أجل الحرية (هيئة تحرير الشام، تنظيم الدولة الإسلامية، أحرار الشام الإسلامية).

وفي كل تلك الحالات السابقة يصبح العلم مجرد "أداة للسيطرة السياسية" (على الطريقة الشيوعية)، كما يتم إفراغه من محتواه المعرفي والتجريبي والنفعي ثانيا. وخير مثال على ذلك الخبر الذي أعلنه، قبل عدة أيام، عدد من المشايخ حول زيارتهم (التفقدية) لجامعة حلب الحرة. حيث أكدوا على أهمية عدم الاختلاط بين الطلاب والطالبات، وأن هناك "حشمة كاملة" في لباس الطالبات، وأننا "لم نقم بالثورة على الظلم والفساد السابق حتى نعيد الاختلاط والفساد الاخلاقي وما كانت عليه جامعات النظام سابقا".

ولا بد من القول هنا بأن هذه الزيارة تذكرنا، نحن طلاب الجامعات السورية في فترة الثمانينيات، بممارسات أعضاء اتحاد الطلبة في سوريا، وطريقتهم "التشبيحية" في التعامل مع الجامعة وطلابها، وكيف كان أعضاؤه يمنعون الطلاب من الدخول إلى الجامعة بسبب عدم ارتداء اللباس الجامعي الموحد (رمز الاشتراكية)، وكيف يدعونك إلى "التحقيق" إذا رفضت الانتساب لاتحاد الطلبة، أو يشرفون على صندوق انتخابي ويطلبون من المنتخبين أن يبصموا بالدم على وثيقة الانتخاب.

عقدة المشايخ من الجامعات عقدة مركبة وقديمة. فهي تعود أولا إلى أن غالبية المشايخ لا يحملون شهادات جامعية، أو يحملون شهادات من جامعات غير معترف بها، تمنح شهادات الماجستير والدكتوراه لمن يدفع لها ويقدم رسالة شكلية (يمكن إعدادها خلال أسبوعين) ليس لها أي قيمة علمية. وتعود ثانيا إلى أن العلوم الشرعية هي بحوث أخلاقية/ شرعية وليست بحوثا علمية، بالمعنى الدقيق لكلمة لهم، فهي علوم أيديولوجية تعكس وجهة نظر السلطة القائمة في معظم الأحيان. ولذلك نجد أن هذه العلوم في السعودية - مثلا - مختلفة عنها في إيران، وفي السودان مختلفة عنها في مصر. مثلما نجدها داخل مناطق سيطرة النظام مختلفة عنها في مناطق خارج سيطرة النظام. كما أن للاختلافات المذهبية دورا كبيرا فيها. الأمر الذي يبين أنها علوم لها غايات سياسية متغيرة بحسب الزمان والمكان والمرحلة.

حتى إن الدكتور محمد حبش، وأثناء لقاء له مع تلفزيون سوريا قبل أسبوع تحدث مطولا عن هذه القضية. ففي سوريا هناك عشرات الكليات والمعاهد والجامعات الدينية (يتحدث عن مناطق سيطرة النظام ولا سيما دمشق) التي لا يحمل فيها الدكاترة شهادات علمية معترف بها، مثلما أن تلك المقار العلمية لا تطبق الطرق والمناهج العلمية بشكل حقيقي، وأنها قائمة على المعارف والعلاقات العامة مع بعض رموز الدولة. ويضيف حبش أن النظام كان يسمح لتلك الجامعات والكليات بالعمل (على الرغم من أن وزارة التعليم العالي لا تعترف بها) مقابل أن تقدم الولاء للنظام وتدعو الناس للالتزام بسياسات آل الأسد بشكل كامل، بالإضافة إلى التزامها بعدم طرحها لأي مسائل سياسية أو دينية حساسة.

الإصلاح الجامعي في سوريا يحتاج إلى مناخ من الحريات السياسية التي تحد من الفساد، وترفع من سوية العملية التعليمية، وتحول الجامعات إلى مؤسسات مستقلة

إن قضية العلم والتعليم ودورهما في المجتمع قضية ليس لـ "إدارة الأوقاف" في اعزاز أي دور فيها، لا من قريب ولا من بعيد، لأن الدين وأخلاقه قضية مختلفة تماما عن العلم والتعليم. فالثورة في سوريا، كما يعرف كل السوريين الذين نزلوا إلى الشوارع بالملايين لم تكن من أجل السماح بالاختلاط أو منعه، ولا من أجل أن يشرف بعض المشايخ على الجامعات. الإصلاح الجامعي في سوريا يحتاج إلى مناخ من الحريات السياسية التي تحد من الفساد، وترفع من سوية العملية التعليمية، وتحول الجامعات إلى مؤسسات مستقلة.

طبعا لا يعرف المشايخ المذكورون أي شيء عن شروط عمل الجامعات، ولا عن ضرورة توفر عدد معين من المخابر للطلاب، ولا  إذا كانت الجامعة تنشر بحوثا محكّمة أم لا. مثلما أنهم غير مهتمين بتصنيف الجامعة في التصنيفات العالمية، هذا إذا كانوا يعرفون ما هي التصنيفات العالمية للجامعات، وكيف تتم، وما هي أهميتها. هم لا يعرفون أن جامعات إدلب وحلب الحرة جامعات غير معترف بها أصلا، وأن الشهادات التي تمنحها تلك الجامعات تحتاج لعمل أكاديمي حتى يتم الاعتراف بها في المستقبل.

إنها مصائب التعليم الجامعي في الشمال السوري.