icon
التغطية الحية

مشروع "آفاق الصراع في سوريا".. سيناريوهات الحلّ والمصير

2024.01.03 | 23:19 دمشق

بسيلث
جانب من جلسات مشروع "آفاق الصراع في سوريا"
 تلفزيون سوريا ـ إسطنبول
+A
حجم الخط
-A

في وقت سابق من العام المنصرم، بادر كل من مركز "حرمون" للدراسات المعاصرة في إسطنبول، ومركز دراسات النزاع والعمل الإنساني في الدوحة، إلى إطلاق "مشروع آفاق سوريا" Syria prospect لمناقشة التطورات المستقبلية المتوقعة للصراع الجاري في سوريا وعليها. ووفق ذلك، أعدّ مركز حرمون تقريرًا خاصًا بمخرجات الندوات والجلسات الحوارية المتعلّقة بالمشروع.

  1. سوريا إلى أين؟

بعد 12 عام ونيف من انطلاقة انتفاضة الشعب السوري، ونيلها تأييدًا عالميًا واسعًا في شهورها الأولى، ومن ثم تحولها من صراع داخلي بين الشعب والسلطة، إلى صراع داخلي مسلح بسبب الحل الأمني الذي جعله النظام حلًا وحيدًا في مواجهة مطالب الاحتجاجات السلمية بداية، مما استدعى تدخلًا لقوى إقليمية ودولية، ومن ثم تحول هذه الصراع الداخلي الى حرب بالوكالة على أرضها، حيث باتت عدة قوى إقليمية ودولية تتصارع على الأرض السورية، مما جرد السوريين من أي دور في تقرير مستقبل سورية ومستقبلهم، ولهذه القوى مصالح متعارضة جعلت الوصول الى اتفاق فيما بينها لوضع نهاية لهذه الحرب أمرًا عسيرًا، رغم مرور ما يقارب ثلاث عشرة عام على هذه الصراع، فدخلت القضية السورية مرحلة استعصاء.

لقد أدى تعنت النظام وحلفائه من جهة، وإصرارهم على معادلة صفرية، كل شيء او لا شيء، ومن جهة أخرى غياب البديل المعارض الذي يمكن أن يقبض على السلطة في حال سقوط نظام البعث - الأسد القائم، ويحقق الاستقرار في سوريا ويعيد السلام؛ والمصالح المتعارضة للفاعلين الخارجيين، الى دخول القضية السورية مرحلة الاستعصاء.

فالقوى الشعبية العفوية التي انطلقت في آذار 2011 افتقرت إلى المشروع الذي يتجاوز إسقاط النظام، ولم تملك تنظيمًا يجمّع قواها ويوحّد جهودها، ولم تملك قيادة موحدة سياسية أو عسكرية، مما يهدد بالفوضى (المثال الليبي)، وهذا ما تخشاه القوى الدولية التي دعمت الانتفاضة السورية، فلم تتح لها هزيمة النظام، وفي الوقت ذاته، لم تسمح، وهي القوى الفعلية دوليًا، بإعادة تأهيل نظامٍ ارتكب جرائم فظيعة بحق الإنسانية. وهذا الاستعصاء السوري قد جعل مستقبل سوريا غامضًا. وقد باتت سورية اليوم مقسمة لأربع مناطق سيطرة، تقوم في كل منها حكومة غير منتخبة، وتسيطر عليها قوى الأمر الواقع بعد أن آلت سورية إلى ما آلت إليه بعد 13 عام من الصراع في سوريا وعليها، من دمار مادي ومجتمعي لم تشهده سوريا من قبل، وقد باتت أرضها مسرحًا لصراعات بالوكالة:

  1. منطقة سيطرة النظام وتسيطر على نحو 63بالمئة من الأرض السورية ويقيم بها نحو 12 مليون نسمة
  2.  منطقة سيطرة حزب البي واي دي الكردي وهو الفرع السوري من حزب البي كي كي التركي وتسيطر على نحو 25 بالمئة من الأرض السورية ويقيم بها نحو 2.5 مليون نسمة 25بالمئة،
  3. منطقة سيطرة الجيش الوطني وتسيطر على نحو 7بالمئة من الأرض السورية ويقيم بها نحو 1.7 مليون نسمة
  4. منطقة سيطرة هيئة تحرير الشام وتسيطر على نحو 3بالمئة من الأرض السورية ويقيم بها نحو 3 مليون نسمة.

وقد تشظى المجتمع السوري، بين أكثر من 5 مليون لاجئ يقيمون في دول الإقليم المجاورة لسورية أو القريبة منها، وأكثر من مليون ونصف المليون لجأوا الى بلدان بعيدة في أوروبا وأستراليا والأميركتين، بينما توزع 18 مليون في مناطق السيطرة الأربع في الداخل السوري.

وتبلغ معدلات البطالة في مناطق سوريا الأربعة بين 40 – 80بالمئة، بينما تبلغ معدلات الفقر أكثر من 80 بالمئة، وقد بات نحو 13 مليون سوري بحاجة لمساعدات إنسانية، بينما باتت مبالغ المساعدات تتراجع عامًا بعد عام.

ويوجد على أرض سورية اليوم عدد من القوات الأجنبية وعدد من الميليشيات الأجنبية. منها 12 قاعدة عسكرية و 113 نقطة مراقبة عسكرية تركية فيها نحو 7000 عسكري، بينما تملك روسيا 4 قواعد عسكرية و 76 نقطة مراقبة عسكرية فيها نحو 4000 عسكري روسي، بينما تملك إيران نحو 500 قاعدة ونقطة مراقبة عسكرية ويتبع لها مجموعة من الميليشيات الشيعية وفيها نحو 100 الف مرتزق.

مشروع آفاق الصراع في سوريا

لمناقشة تلك الجوانب، ولمحاولة استجلاء احتمالات تطورات القضية السورية وسيناريوهاتها مستقبلًا، كلّف مركز "حرمون" فريقًا من الباحثين لإعداد تقرير يشخص الأوضاع الداخلية في مناطق السيطرة الأربعة في سوريا من الجوانب السياسية والاجتماعية والمعيشية والعسكرية، كما كلف عددًا من الباحثين لتحضير أوراق سياسيات عن الفاعلين المباشرين في الصراع الدائر في سوريا وعليها (الولايات المتحدة – روسيا – تركيا – إيران – الدول العربية – الاتحاد الأوروبي – إسرائيل). وعقد المركز ندوة عبر شبكة الإنترنت شارك بها عشرون باحثًا ناقشوا السيناريوهات المحتملة للصراع الجاري في سوريا خلال السنوات العشر القادمة، ثم عقدت ندوة ثانية حضوريًا في إسطنبول بتاريخ الـ29 من تشرين الثاني 2023، شارك بها قرابة أربعون باحثًا ناقشوا أيضًا السيناريوهات المحتملة في سوريا خلال عقد قادم، على ضوء تشابك الأوضاع الداخلية مع سياسات الفاعلين الخارجيين في الشأن السوري، والتي تتأثر الى حد بعيد بسياسات هؤلاء الفاعلين على الساحة الدوليين.

وبنتيجة كل ذلك تم إعداد هذا التقرير الذي يتضمن خلاصة النقاشات السابقة، وقد عُرِضَتْ مسودته على الباحثين الأربعين لإبداء ملاحظاتهم، كما عقدت ورشة عمل ليوم واحد لمناقشة مسودته الثانية حتى غدا بهذه الصيغة التي تم نشرها وتعميمها باللغتين العربية والإنكليزية. وهو مفتوح اليوم للمناقشة العامة.

  1. الوضع الإقليمي والدولي المحيط بالصراع في سوريا

يتشكل الصراع في سوريا في بيئة إقليمية ودولية معقدة. إذ يتّسم الوضع الدولي بعودة أجواء الحرب الباردة بين روسيا والغرب، حيث تصاعدت مناخات الحرب الباردة لتصبح حربًا ساخنة بالوكالة، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث تصاعد الصراع بين الغرب: الولايات المتحدة وأوروبا من جهة، والصين من جهة أخرى التي تعمل لتشكيل تكتل دولي منافس لتكتل الغرب، معتمدةً على الملفّ الاقتصادي والتجاري أكثر من السياسي. غير أن الصين بعيدة عن سورية، ولم تتدخل في الحرب السورية إلا باستخدام الفيتو، لمنع اتخاذ أي قرار يدين النظام وأعماله وأعمال حلفائه الوحشية التي ترقى الى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ومنع شرعنة أي دور للأمم المتحدة يؤدي لوضع حد لهذه المذبحة السورية.

أصبح اللاعبون الرئيسيون في الحرب السورية أربعة: إيران وروسيا إلى جانب النظام، وهما متمسكتان ببقاء النظام كما هو وبعدم تقديم أي تنازلات، ثم تركيا المنخرطة بالصراع، ثم أوروبا وأميركا اللتان تعوقان إعادة تأهيل النظام، من دون أن تكون لديهما استراتيجية لمستقبل الصراع في سوريا.

تعاني الدول الإقليمية ضغوطًا كبيرة، بسبب وجود اللاجئين السوريين، كما تعاني ضغوطًا من جراء قيام النظام بتصنيع المخدرات وتصديرها إلى دول الجوار. أما بعض دول مجلس التعاون الخليجي، فقد كان لها دور مباشر في الحرب السورية، ولكن هذا الدور تراجع تدريجيًا، وأصبحت قدرتها على التأثير محدودة.

لقد باتت المناخات التي تحيط بالقضية السورية اليوم باردة، حيث ينشغل العالم عن هذا الصراع بصراعات ونزاعات ومنافسات أخرى، بما يطرح السؤال بقوة حول سيناريوهات تطور الصراع في سوريا، ذاك الصراع الذي أنتج دمارًا ماديًا واجتماعيًا هائلًا حتى الآن، وأدى الى تقاسم السيطرة على الأرض السورية بين أربع قوى أمر واقع متعارضة فيما بينها.

ضمن هذا الحجم من التدخلات والتعقيدات الداخلية والخارجية، تصبح محددات أي سيناريو ممكن في سوريا أمرًا في غاية التعقيد، خاصة مع أجواء التوترات السائدة. فالأوضاع الإقليمية والدولية مرشّحة للاستمرار في المدى القريب، وقد جعلت هذه القوى من الأرض السورية منطقةَ حرب بالوكالة، وبات يصعب توقّع الوصول إلى أي حل في سوريا، خلال السنوات القليلة القادمة، وعلى الرغم من ذلك، يصعب التصديق أن الوضع يمكن أن يستمرّ على المدى المتوسط 3- 5 سنوات، أو على المدى الأبعد أي بعد 5 – 10 سنوات.

  1. سياسات الفاعلين

أعد مجموعة من الباحثين أوراق سياسات كثفت سياسات الفاعلين في الحدث السوري، وآفاق تطوره خلال السنوات القادمة ودور هؤلاء الفاعلين في تشكيل مستقبل الصراع في سوريا.

3.1- الولايات المتحدة:

تعد الولايات المتحدة لاعبًا رئيسيًا في الصراع الجاري في سوريا، فهي جزء من الشرق الأوسط، الذي يبقى منطقة استراتيجية في استراتيجيات الولايات المتحدة، رغم تزايد اهتمامها ببحر الصين شرقًا.  ورغم أن اهتمام الإدارة الأميركية بسوريا كان ينصب على دورها ك "مخربط للألعاب"، وبعلاقاتها بالتنظيمات الإسلامية الجهادية، وموقفها من إسرائيل، فقد دعمت الحراك السلمي المطالب بالتغيير، وعندما بدأ النظام حله الأمني رافضًا أي استجابة لمطالب المحتجين، دعا الرئيس أوباما في آب/أغسطس 2011 لرحيل الأسد "Departure" ولكنه لم يدعُ لرحيل النظام.

ثلاثة عوامل حددت سياسة الإدارة الأميركية برفض سقوط نظام الأسد:

    1. الدرس الليبي، فبعد إسقاط القذافي بالقوة الأميركية، تحولت ليبيا الى ساحة تسودها الفوضى وفصائل جهادية. وقد أرسل هذا رسالة بأن مصير سوريا سيكون مثل ليبيا في حال سقوط الأسد.
    2. عدم أهلية أي قوى سورية بديلة للإمساك بالسلطة في حال سقوط نظام الأسد، ومنع الفوضى وتحقيق الاستقرار، فالفصائل مشرذمة، وتتجه باتجاه جهادي، ولا يوجد أي تنظيم سياسي قادر أن يحل محل نظام الأسد، مما يهدد بالفوضى
    3. موقف اسرائيل الداعم لبقاء الأسد وقد خبرته اسرائيل ملتزماً بقواعد اللعبة طيلة أربعة عقود،

لذلك اتجه الأميركان إلى صيغة جنيف في حزيران 2012، وهي صيغة المشاركة الثلاثية في السلطة، نظام ومعارضة ومجتمع.  ولكن النظام رفض هذه الصيغة، كما رفضتها المعارضة، واستمر الصراع المدمر. هنا أصبح موقف الأميركان كالتالي: ندعم المعارضة بالسلاح والمال لإجبار الأسد على الدخول في مفاوضات، ولكن دون إسقاطه. وفرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية ضد النظام وشخصياته السياسية والعسكرية ومؤسساته، وفي عام 2013 قدمت مشروعًا لتشكيل غرفتي عمليات في كل من أنقره وعمان، تتحكم بفصائل المعارضة المسلحة، وقدمت دعمًا عسكريًا سخيًا للمعارضة السورية بتمويل عربي، لإرغام النظام السوري على الانخراط الجاد في مفاوضات الحل السياسي، ولكن ورغم رفض النظام الانخراط الفعال بأي مفاوضات فإنها حافظت على سياساتها هذه غير الفعالة. حتى عندما خرق النظام الخطوط الحمراء واستعمل الكيماوي في آب 2013، وكان الاتجاه هو توجيه ضربة للنظام، ولكن خشية الرئيس أوباما من سقوطه، مع عدم جاهزية المعارضة لاستلام السلطة، جعله يبحث عن بديل آخر. ومع بروز داعش، عززت الولايات المتحدة سياستها هذه وتمسكت بها، وتركت لروسيا مساحة واسعة لتدير أي حل ممكن في سوريا، وأغمضت عينها عن مشاريع روسيا في إطلاق مسار أستانا وسوتشي واللجنة الدستورية لأنه لم يوجد لديها حل آخر، ولتبريد الأوضاع.

ستستمر الإدارة الأميركية بسياسة عدم إسقاط نظام الأسد طالما لا يوجد بديل يضمن الاستقرار، مما يعني تجميد الصراع بانتظار مستجدات قادمة غير محددة وغير معروفة بعد، وهي تؤيد إقامة علاقات في مناطق شمال سوريا غربًا وشرقًا، بما يخلق منطقة واسعة في مواجهة منطقة سيطرة النظام، ولكن العقبة هي تبعية البي واي دي السوري إلى ال البي كي كي التركي، ويتوقع أن تؤيد حلًا وسطًا بمساعي عربية تركية مع بقاء الأسد، ضمن شروط محددة يمكن أن تنتج خلال عدد من السنوات شروطًا مناسبة لانتقال الى ما بعد نظام الأسد

ثمة انتقادات كثيرة للسياسة الأميركية تجاه الصراع في سوريا، بما فيها انتقادات أميركية تنتقد افتقار واشنطن رؤية إستراتيجية متماسكة عندما يتعلق الأمر بالبحث عن حلّ سياسي ينهي هذه الحرب على مستوى الأمم المتحدة. وتستمر الإدارة الأميركية بإدارة الصراع في سوريا، ولا تدفع للوصول لأي نهاية (الإدارة من الخلف)، وتحدد جوهر سياستها تجاه الصراع في سوريا بأنها تستهدف "تغيير سلوك النظام"، خاصة وأن سوريا قد تحولت الى مصنع عالمي لإنتاج المخدرات وتصديرها للعالم، والمحدد الرئيس لسياستها هذه هو عدم وجود بديل يستطيع الإمساك بالسلطة وتحقيق الاستقرار ومنع الفوضى، وهي تحدد جوهر هذا التغيير بتطبيق القرار 2254 وتحقيق انتقال سياسي، وتضع الإدارة الأميركية فيتو على رفع العقوبات وعلى تمويل إعادة الإعمار، قبل تحقيق ذلك، ولكن النظام وشركاؤه يرفضون عمليًا تطبيق هذا القرار. والنظام السوري لا يغير سلوكه إلاّ بالتهديد الحقيقي، لكن ثمة فرضيات قد تدفع الإدارة الأميركية إلى تهديد النظام لقبول حل وفق صيغة 2254، كما فعلت في 2005 حين أنذرت النظام للخروج من لبنان فورًا فخرج خلال 24 ساعة.

رغم ذلك تبقى الولايات المتحدة لاعبًا رئيسًا لا يمكن الوصول لأي حل في سوريا بدون موافقته، أو على الضد من إرادته، خاصة وأن لها قوات وقواعد عسكرية شرق الفرات. وانسحاب هذه القوات، رغم أنه غدا بعيد الاحتمال بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن انسحاب قواتها سيخلق حراكًا مختلفًا في القضية السورية.

يتوقع أن يؤدي تطورات الحرب الأوكرانية الى تغيرات إيجابية أو سلبية في السياسة الأميركية تجاه الصراع في سوريا، وذلك بحسب تطورات تلك الحرب. وفي حال أدت عملية طوفان الأقصى والحرب الاسرائيلية على غزة الى تصعيد إسرائيلي أميركي ضد النفوذ الإيراني في سوريا وبقية الإقليم، فقد يفتح هذا الباب أمام حل سياسي في سوريا.

3.2- روسيا:

شكلت الحرب السورية إحدى بوابات دخول موسكو ثانية كلاعب إقليمي ودولي، فالشرق الأوسط وسورية في قلبه، هو ساحة منافسة مع الولايات المتحدة وفي علاقاتها المضطربة مع الغرب، إضافة إلى قضايا الطاقة في المنطقة، والوصول إلى المياه الزرقاء الدافئة. وهذه جزء من الإستراتيجية الروسية الكبرى في العالم، على الرغم من خصوصيتها. وقد شجعها تدخلها في سوريا الى توسيع تدخلاتها في الشرق الوسط في ليبيا واليمن وفي أفريقيا، (قوات فاغنر إلى افريقيا) وقدمت موسكو دعمها السياسي والعسكري، كمثال على إظهار قدرتها على دعم شركائها وحلفائها ووكلائها والدفاع عنهم، وأنها شريك موثوق عكس الشريك الأميركي الذي بدا متقلب المزاج.

من الناحية العسكرية، استعملت موسكو الحرب السورية والأرض السورية كحقل تدريب لقواتها وحقل تجارب لأسلحتها، وفي كشف نقاط الضعف في قواتها واستراتيجياتها، وفي تطوير أساليب التدخل في الدول الأخرى وفي افريقيا.

منذ انطلاقة الاحتجاجات في سوريا في آذار 2011 وقفت روسيا مع الأسد وحالت دون صدور أي قرار من مجلس الأمن يدين النظام، وحين استخدم النظام الكيماوي في آب 2013، لبعت موسكو دورًا في تقديم البديل للضربة العسكرية الأميركية، بالتخلص من السلاح الكيماوي. وحين أصبح النظام مهددًا صيف 2015، تدخلت عسكريًـا، وكان لتدخلها دورًا فاعلًا في استرجاع النظام لسيطرته على مساحات جديدة من الأرض السورية، سواء باستخدام قواتها الجوية، حيث، نسقت جهودها العسكرية على الأرض مع جيش النظام والحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية، أو عبر ضغوطها ومساوماتها مع تركيا، ومشاركتها في مسارات أستانا وسوتشي وبرامج خفض التصعيد واللجنة الدستورية. وتستمر موسكو باستخدام تكتيك القصف الجوي والمدفعي في إدلب كورقة ضغط للتوصل إلى اتفاقات جديدة. ولكن ليس من مصلحة موسكو تصعيد الصراع، فقد يهدد هذا علاقاتها في الإقليم، وهي تقيم علاقات مع أطراف متنافسة ومتناحرة (إيران – تركيا – السعودية – إسرائيل) مقابل الولايات المتحدة التي تقيم علاقات مع حلفاء محددين غير متنافسين (السعودية وإسرائيل).

لقد باتت مصالح روسيا في سوريا مرتبطة بالأسد ونظامه، وقدمت له دعم مطلق. ولكن بعد بدء روسيا حربها على اوكرانيًا تراجعت أهمية سوريا في حسابات الكرملين، ولكن ما زال بوتين يرى أن بقاء الأسد هو أفضل ضمان للمصالح روسيا في سوريا، ولا يتوقع أن توافق روسيا على أي تغيير في نظام الأسد. ويمكن ان يوافق بوتين إن كان ثمة ضمانات أميركية لمصالح روسيا في سوريا. ولكن ما زال هذا أمر مستبعد خلال السنوات القادمة.

من جهة أخرى، يمكن ان تتحول سياسة روسيا تجاه الأسد مستقبلًا في حال جاء عسكريون الى السلطة عبر انقلاب عسكري يشبهون المفكر الروسي المتعصب دوغين، أو جاء الى السلطة قوى ليبيرالية هم أقرب للغرب وسياساته، وهؤلاء لا يريدون أن تتدخل روسيا عسكريًا في الخارج، ولكن هؤلاء مؤيدون لإسرائيل. كما يمكن لروسيا أن تعدل سياستها تجاه سوريا وبعيدًا عن الأسد، فيما لو تم ذلك باتفاق وضمان أميركي. ولكن مثل هذا الاتفاق ما زال مستبعد في ظل استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا.

3.3- تركيا:

تركيا قوة إقليمية تسعى للعب دور أكبر في الإقليم كونها قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية، مستفيدة من علاقاتها التاريخية بالبلدان العربية وعلاقاتها الإثنية مع شعوب أواسط آسيا التركمانية. وقد وجدت في الربيع العربي فرصة لتوسيع أدوارها، خاصة وأن النموذج التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية، وهو حزب علماني بمرجعية إسلامية، يمكن ان يكون نموذجًا يحتذى لبلدان ثورات الربيع العربي.

بذلت تركيا جهود سياسية حثيثة لدفع الأسد لمعالجة مطالب الاحتجاجات الواسعة بعيدًا عن الحل الأمني، وعندما عجزت عن ذلك اندارت لتأييد الاحتجاجات وتأييد نشاطات المعارضة السياسية والعسكرية. وأصبحت لاعبًا رئيسيًا في الصراع الجاري في سوريا.

على مدى الأعوام الماضية، شهدت سياسة تركيًا تجاه الصراع في سوريا تأرجحًا، فبعد دعم وتأييد كبير للتغيير السياسي، واحتضان المعارضة حتى الانقلاب في 2016، وبعد الانقلاب تقاربت تركيا مع روسيا وإيران، وسارت في مسار أستانا وسوتشي، واتفاقات خفض التصعيد واللجنة الدستورية، ولكن لم تتطابق سياساتها في سوريا مع سياسات روسيا وإيران، وبقوا ثلاث أطراف متنافسة. وتسعى تركيا بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة لتحسين علاقاتها مع الغرب دون أن تسيء لعلاقاتها مع موسكو، وتسعى للنجاح في تحقيق التوازن.

اليوم غدا لتركيا قوات ونقاط مراقبة وقواعد عسكرية في ثلاث مناطق في شمال غرب سورية، وضمن التنافس مع المعارضة التركية بخصوص وجود أكثر من ثلاث ملايين لاجئ سوري في تركيا، سارعت السلطات التركية لتعلن عن خطوات للتواصل مع نظام الأسد، بما يساعد في "إعادة" اللاجئين السوريين إلى سورية. وقد انعكس هذا التنافس ضغوطًا كبيرة على السوريين الذين لجئوا الى تركيا.

لكن ورغم ما تملكه تركيا من نقاط قوة في الملف السوري، فإنها غير قادرة لوحدها على إحداث تغيير جذري في الواقع السوري، وتحتاج لاتفاق مع أطراف آخرين، ولكن ما زالت المصالح والرؤى متباعدة. وتقف تركيا في سياساتها تجاه النظام السوري بين كل من روسيا والولايات المتحدة، فلها مصالح اقتصادية وسياسية كبيرة مع روسيا من جهة، ومع الغرب من جهة أخرى، وهي عضو في الناتو.

بعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية الأخيرة تتجه تركيا لتبريد الصراع في مناطق تدخلها في سوريا وليبيا وأذربيجان، وتلعب الأوضاع الاقتصادية دورًا بالخصوص، إذ تستهدف تركيا تقليص تكاليف عملياتها الخارجية، وتتطلع لجلب استثمارات خارجية خليجية بخاصة، وتبقى أولوية تركيا في الحرب السورية هي عدم السماح لقوات البي واي دي الكردية، وهي الفرع السوري لقوات البي كي كي التركية المصنف ارهابيًا، بإقامة كانتون شبه مستقل في شمال شرق سورية، وتركيا مستمرة في عملياتها ضد هذه القوات.

قد تجد تركيا أن انسحاب القوات الأميركية من شرق الفرات يحقق لها القضاء على إمكانية إقامة كانتون في شمال شرق سورية من قبل قوات البي واي دي، وهي الفرع السوري من حزب البي كي كي التركي، إذ ستعود هذه المنطقة لسيطرة النظام وحلفائه، ولكن من جهة أخرى يمنح قوة اقتصادية وسياسية للنظام، وموقع أفضل لروسيا للضغط أكثر على تركيا، ويجعل القوات والميليشيات الإيرانية على حدود تركيا الجنوبية.

لتحريك جمود الوضع السوري، قد تجد تركيا من مصالحها المشاركة مع بلدان مجلس التعاون على تقديم مبادرة حل سياسي يتضمن عدة مراحل، ولا يشترط رحيل الأسد، ولكن يشرك أطراف من المعارضة والمجتمع في السلطة. 

3.4- إيران[1]:

خاضت إيران معركة بقاء السلطة ضد انتفاضة الشعب السوري في سوريا، من منطلق أن سوريا جزءٌ من منطقة نفوذها، ومن ذراعها الشيعي الممتد من طهران إلى بغداد فدمشق ومن ثم بيروت. وينسب لإيران دعمها للتيار المتشدد في سلطة الأسد ورفض إبداء أي مرونة تجاوب مع مطالب الحراك السلمي في 2011، ومن ثم دفعها النظام لعدم الاستجابة لأي من قرارات الأمم المتحدة حتى الآن. ولعبت دورًا حاسمًا في بقاء الأسد ونظامه.

ويفسر ذلك بأن إيران تعلم من خبرتها، أن وقوع الصدام بين النظام والمعارضة سيجعل النظام بحاجة ماسة لدعمها، مما يمكنها من زيادة نفوذها ووجودها متعدد الأشكال في سوريا. وقدمت إيران دعمًا ماديًا كبيرًا ودعمًا عسكريًا غير محدود لنظام الأسد، يقدر حتى الآن بعشرات مليارات الدولارات، بدءًا من إرسال لواء القدس بقيادة سليماني، الذي شارك في المعارك ضد فصائل المعارضة، وإرسال ميليشيات مذهبية شيعية لبنانية وعراقية وباكستانية وأفغانية. إذ ترى إيران في أن بقاء الأسد ونظامه هو ضمانتها الوحيدة لبقاء سورية منطقة لنفوذها. وكانت إسرائيل والولايات المتحدة تريدان بقاء إيران في سوريا، مع بقاء قواتها وميليشياتها بعيدة عن الجولان السوري المحتل من قبل إسرائيل، ففي هذا استنزاف لقوتها. ولا يعرف بعد، إن كانت عملية طوفان الأقصى ستؤدي الى تغيير في سياسة إسرائيل تجاه الدور الإيراني في سوريا حيث أن دعم حماس جاء من إيران، وأن تدريب قوات حماس على عملية طوفان الأقصى قد تم في سوريا.

تتنافس إيران مع روسيا في السيطرة على نظام الأسد، ورغم أن موقع روسيا يبدو أقوى، بحكم كونها الطرف المقابل للطرف الأميركي في هذا الصراع، وهي عضو دائم في مجلس الأمن، ويملك سلاح الفيتو الذي أشهرته عدة مرات في وجه أي قرار يطال سلطة الأسد، كما أن للقوة الجوية الروسية دورًا حاسمًا في ربح المعارك على الأرض، وأن القوات الروسية قد أدت دورًا رئيسيًا في الحفاظ على «الهلال الشيعي » بين إيران والعراق وسورية، ولكن من دون قوات عسكرية على الأرض فإن الطيران، لا يحسم أي معركة. وبالتالي يبدو أن كل من روسيا وإيران بحاجة للآخر في سوريا. غير أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد اجتذب كامل الاهتمام الروسي مما يفسح في المجال لإيران لأن تلعب دورًا أكبر في الساحة السورية.

وترى روسيا أن الاحتكاك بين إيران والولايات المتحدة يخدم المصالح الروسية؛ وحتى من العقوبات الاقتصادية على إيران، فهي تحافظ على سعر مرتفع لبرميل النفط، وهو الإيراد الرئيس للخزينة الروسية، إضافة الى اضطرار ايران للجوء الى روسيا والحصول على امتيازات في إيران من مبيعات الأسلحة لإيران وغيرها.

رغم أن إيران قد شاركت في مسارات أستانا وسوتشي، وأيدت مقترح اللجنة الدستورية، ولكنها فعلت ذلك وهي تعلم حدود تلك المبادرات التي جاءت من الطرف الروسي كبديل للمسار الأممي، وهي مسارات كانت في النهاية لمصلحة النظام وتثبيته وتوسيع مناطق سيطرته، وهي تستمر بدفع النظام للتشدد والاستمرار في عدم تقديم أي مرونة أثناء مفاوضات جنيف أو مسارات استانا وسوتشي واللجنة الدستورية.

تركيا هي المنافس القوي لإيران في سوريا، وتكاد تكون مصالحهما متعارضة، وان المعادلة صفرية بينهما، فما يربحه طرف سيكون على حساب الآخر، وتملك تركيا عدة مزايا تتفوق بها على إيران، فهي دولة قوية اقتصاديًا وعسكريًا وهي عضو في حلف الناتو، ولها حدود تزيد عن 900 كلم مع سوريا، وثمة علاقات تاريخية ثقافية وبشرية ومذهبية عميقة، وهي تتواجد في جزء غير صغير من شمال غرب سوريا، ولها آلاف الجنود ومئات النقاط العسكرية على الأرض السورية، مقابل إيران البعيدة في كل شيء. بينما تملك إيران تأثيرًا أقوى على النظام الذي يسطر على ثلثي الأرض السورية ويعيش في كنفه أقل من نصف سكان سوريا، وتجمعه علاقات قوية بقوات البي واي دي التي ستضطر إلى الانضمام لسلطة الأسد فيما لو انسحب الأميركان من شرق الفرات. كما تنتظر إيران انسحاب أميركي من شرق الفرات مما سيمنحها فرصة أكبر لتعزيز قوة النظام وزيادة نفوذها

تنظر إيران الى التطبيع مع السعودية والتطبيع العربي نظرة مزدوجة ذات وجهين، فهي تريد أن يتم إعادة تأهيل النظام عربيًا كخطوة في طريق إعادة تأهيله عالميًا، ولكنها بذات الوقت ترى أن زيادة النفوذ العربي سيكون على حساب نفوذ إيران، خاصة وأن غايات التطبيع العربي مع النظام لا تخفي هدفها هذا. وهي تعلم أن حاجة النظام، في حال انطلاق إعادة الإعمار، ستكون كبيرة جدًا تبلغ عشرات المليارات، لا تملك إيران قدرة على تلبيتها، وسيكون دور دول مجلس التعاون هو الدور الرئيس. ويرى العارفون بالسياسة الإيرانية أن إيران تفضل استمرار التهديم على أن يتوسع النفوذ العربي في سوريا.

كل هذه العوامل تجعل إيران الطرف المتشدد تجاه أي إضعاف لسلطة الأسد وأي مشاركة ملموسة للمعارضة في السلطة لا يتوقع أن تؤيد إيران أي سيناريو يضعف قبضة الأسد على السلطة، واستمرار بشار الأسد شخصيًا في السلطة. ويعتقد ان دورها سيبقى مدفوعًا بهذا المبدأ. ولا يتوقع تغييره إلا تحت ضغوط دولية وضمن مقايضات محددة، ولا تبدوا مثل هذه الضغوط أو المقايضات واردة الآن، ولكن إن برزت مستقبلًا فلن تكون بدون توافق إيراني تركي روسي أميركي عربي.

3.5- الدول العربية

منذ الشهور الأولى للانتفاضة دعت كل من السعودية وقطر لدفع الرئيس السوري للمرونة تجاه مطالب المتظاهرين السلميين، ولكن لم تلق دعاويها أي استجابة من النظام، وفي أيلول 2011 بدأت تحولت القضية الى جامعة الدول العربية، وقد لعبت دول الخليج مع مصر وليبيا وتونس دور في دفع الجامعة العربية لتقدم مبادرتها للحل في أيلول 2011، وسعى النظام للمناورة، وارسلت الجامعة بعثة مراقبة وافق عليها النظام، ولكن كان دورها غير فعال بسبب معارضة النظام الضمنية لوجود البعثة وميل رئيس البعثة الجنرال السوداني "دبي" لرؤية النظام. فتحولت القضية السورية إلى الأمم المتحدة. ولم تستطع الجامعة بعد ذلك أن تلعب أي دور يذكر.

على صعيد كل دولة عربية، لم يكن ثمة موقف موحد، فقد اختلفت مواقفها بين معادي قطع العلاقات مع نظام الأسد، وبين محايد وبين مؤيد للأسد.  وقد كانت دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة بعضها، هي الأكثر فاعلية في الصراع الدائر في سوريا خلال السنوات الخمس الأولى 2011 - 2015، وقدمت المال والسلاح للمعارضة إضافة الى الدعم السياسي والدبلوماسي والإعلامي، ولكن كان لهذه الدول منطلقاتها ومصالحها المختلفة، مما أثر سلبًا على وحدة قوى المعارضة، وعجزها عن أن تشكل بديلًا كفؤًا للنظام يضمن الاستقرار في حال سقوط الأسد، وقد أثر هذا سلبًا على مواقف الدول الغربية المؤيدة للتغيير في سوريا.

استمر الدول السياسي والدبلوماسي العربي سواء خلال فترة المجلس الوطني أكتوبر 2011 ومن ثم تشكيل الائتلاف الوطني نوفمبر 2012، ثم تشكيل هيئة المفاوضات ديسمبر 2015. لكن بعد عام 2018 تضاءل الدول السياسي العربي في القضية السورية. وأصبحت تركيا هي اللاعب الرئيس من جانب دعم المعارضة.

مع استمرار ضغوط الوضع السوري على دول الجوار، وضغوط الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين، ثم تحول سوريا الى مصنع عالمي للكبتاغون والحبوب المخدرة، وتصديرها إلى دول الخليج وإلى أوروبا، وسعى السعودية للعب دور رئيس في الإقليم مما يدفعها للتصالح مع ايران، رغبة دول مجلس التعاون الخليجي تعمل على تخفيف حدة القضايا مع المنافسين والمنافسين الإقليميين لضمان الأمن على المدى الطويل.  عادت مساعي تحريك القضية السورية، وسعى الأردن للعب هذه الورقة، وقدم مبادرته الخطوة خطوة التي تبنتها الجامعة العربية، ودعي الأسد لحضور مؤتمر القمة العربي المنعقدة في الرياض في أيار 2023، وبدأت الرياض خطوات التطبيع مع النظام، وكانت كل من الإمارات والبحرين قد طبعت علاقاتها مع النظام من قبل.  أما عمان والكويت فلم تقطعا علاقتكما بالنظام أصلًا، بينما بقيت قطر مصرة على موقفها بعدم تطبيع. ولكن وفي النهاية باءت مبادرة الخطوة خطوة بالفشل بسبب عدم استقداد النظام لتقديم أي شيء. ولكن في المحصلة لم  يستطيع العرب منع تقسيم الجغرافيا السورية بين عدة قوى متصارعة، وأصبحت سوريا اليوم محاطة بدول فاشلة لبنان العراق فلسطين.

تبقى الدول العربية اليوم مختلفة بمواقفها من النظام ومن الحل السياسي ولكن معظم الحكومات العربية باتت تقبل باستمرار حكم الأسد ولن تعارض أي حل يقوم على بقاء الأسد في السلطة وإن كان بعضها لا يمانع ات يتم في سوريا حل سياسي وليس الأسد لوحده. ولكن ليس لدى العرب مبادرات ذات فعالية تجاه الوضع في سوريا،

ولكن يبقى الدور العربي في المستقبل كامنًا، ولا يمكن تجنب الدور العربي بحكم الجغرافيا والتاريخ وبحكم كون سوريا عضو في الجامعة، وسيكون لدول الخليج دور كبير وخاصة في مرحلة إعادة الإعمار.

3.6- إسرائيل:

منذ انطلاق ثورات الربيع العربي، وقفت إسرائيل بوضوح ضد ثوراته المطالبة بالتغيير، فقد رأت فيه ربيعًا إسلاميًا، يصنع، فيما لو انتصرت ثوراته، كتلة كبيرة من الحكومات ذات الإيديولوجيات الإسلامية، التي ستنضم الى حكومات إسلامية في المنطقة مما يخلق بالونًا إسلاميًا كبيرًا، سيجد في رفع شعار العداء لإسرائيل أداة للتحشيد.  ومن هنا أبدت إسرائيل اهتماما كبيرا بالثورة السورية وبتطورات أحداثها وبإمكانية نجاحها.

ورغم التناقضات بين إسرائيل ونظام البعث- الأسد، الذي رفض السلام بالشروط الإسرائيلية، ويتحالف مع إيران يدعم حزب الله ويدعم حماس، فإنها قدرت له التزامه باتفاق وقف إطلاق النار، وإبقاء جبهة الجولان هادئة طيلة أربعة عقود، وعدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية على سورية. بينما رأت من جهة أخرى أنّ المعارضة السورية مشرذمة من جهة، إضافة إلى هيمنة الطابع الإسلامي عليها، وسقوط النظام يهدد بسيادة الفوضى في سوريا، أسوة بليبيا، فكان من مصلحتها استمرار نظام الأسد، ولكن مع إضعافه، وقد رأت في الحرب السورية مناسبة لإضعافه دون سقوطه ودون انتصاره، ويفترض أنها عملت بقوة على هذا الخيار مع الإدارة الأميركية.

اهتمت إسرائيل خلال سنوات الحرب بمنع تمركز ميليشيات إيرانية جنوب سوريا قريبًا من الجولان المحتل، وإبعاد الفصائل الجهادية والميليشيات الموالية لإيران عن المنطقة الجنوبية، واهتمت إسرائيل بمنع استخدام الأراضي السورية لنقل أسلحة متطورة إلى حزب الله في لبنان ومنع التمركز الإيراني العسكري في سوريا الذي يشمل ليس فقط إنشاء القواعد والمطارات العسكرية وإنما أيضا استقدام وإنتاج الصواريخ التي تصيب أهدافها بدقة وإنتاج المسيرات، ووضعته منذئذ في قمة أجندتها.

تقوم إسرائيل، بالتنسيق مع روسيا، بشن هجمات على أهداف إيرانية وسورية داخل سورية دون ان تتطور الى حرب شاملة وقد شنت إسرائيل منذ 2013 وحتى 2023 نحو 1300 هجوم إسرائيلي على مواقع إيرانية في سوريا ولكن كل من النظام وإيران يعجزان عن الرد، وكان تجريد النظام من أسلحته الكيميائية نصرًا لإسرائيل.

واليوم ما زالت إسرائيل تؤيد بقاء الأسد في السلطة، ورحبت بعودته الى الجامعة العربية، وتؤيد تطبيع العلاقات معه.

مستقبلًا، يتوقع ان تستمر إسرائيل بدعمها لبقاء الأسد وبقاء سورية مقسمة لأربع مناطق سيطرة، وستستمر كذلك في رفضها الانسحاب من الجولان السوري الذي تحتله منذ 1967، والحصول على شرعية دولية لضمها الجولان. كما انها تؤيد استمرار ايران في سوريا، فهي تحمي الأسد من السقوط، وفي هذا إشغال لإيران في الوقت ذاته واستنزاف لجزء من قوتها. وستستمر في ضرب الأهداف الإيرانية داخل سورية ومنع نقل أسلحة متطورة لسورية وحزب الله، ومنع التموضع الإيراني على حدودها الشمالية في الجولان المحتل، وعدم استقرار الطريق بين طهران – بغداد – دمشق – بيروت. وتؤيد عودة النظام الى الجامعة العربية وإعادة تأهيله، وتؤيد مطالب البي واي دي بإقامة كانتون كردي مستقل شرق الفرات.

ما زالت الحرب الإسرائيلية على غزة مستمرة بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر، ولا تعرف نتائجها بعد ولا تأثيراتها على السياسة الإسرائيلية تجاه الصراع في سوريا، خاصة في حال صحة الأخبار، حسب مصادر فرنسية، بأن تدريب قوات حماس التي قامت بهجوم 7 أكتوبر قد تم في سوريا (الطيران الشراعي   – أسلحة نوعية الخ).

3.7- الاتحاد الأوروبي:

اتخذ الاتحاد الأوروبي، وخاصة دوله الرئيسة، موقفًا مستنكرًا للعنف المفرط الذي استخدمه النظام ضد التظاهرات السلمية، وشاركت معظم دوله في مؤتمرات أصدقاء الشعب السوري. وأيدت الانتقال الشامل وتحقيق انتقال سياسي وفق قرارات الأمم المتحدة وساهمت بقوة في تلبية الاحتياجات الإنسانية للسوريين الأكثر ضعفا، ودعمت بقوة تعزيز المجتمع المدني السوري لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان ودعمت تطبيق  العدالة الانتقالية والمساءلة عن جرائم الحرب، وفرضت عقوبات على أفراد وكيانات النظام، وخاصة تلك المسؤولة عن إنتاج المخدرات والاتجار بها.

وقد سعت الدول الرئيسة وفي الاتحاد الأوروبي منذ 2011 للعب دور مباشر مؤيد للانتقال السياسي نحو نظام ديمقراطي، وانشغلت وزارات خارجية هذه الدول بقوة بالقضية السورية، ولكن ومع ظهور تهديدات جديدة ومتعددة الأوجه مع تحول الانتفاضة الى حرب أهلية، ومع بروز تشرذم المعارضة وغلبة الطابع الاسلامي والاسلامي المتشدد على فصائل المعارضة، ثم بروز داعش، دفع بالاتحاد الأوروبي ليعيد تقييم أولوياته مواقفه من التغيير في سوريا وذهاب الأسد.

كانت إحدى العواقب الأكثر عمقا للصراع السوري هي تدفق اللاجئين السوريين إلى الاتحاد الأوروبي بدءا من عام 2014. وقد أشعل هذا مناقشات مثيرة للانقسام داخل الاتحاد الأوروبي، ويهتم الاتحاد اليوم بالحد من موجات الهجرة الجديدة

وفي الآونة الأخيرة، اضطلعت سوريا بدور جديد ومثير للقلق كمركز لإنتاج المخدرات والاتجار بها،

تحول في التركيز نحو الأزمة الإنسانية. بدأ الاتحاد الأوروبي بنشاط في مساعدة تركيا والأردن ولبنان في إدارة اللاجئين السوريين داخل حدودها. وقد قسمت قضية الهجرة العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بعمق وأدت إلى صعود الأيديولوجيات اليمينية المتطرفة

بالنظر إلى المستقبل، من المرجح أن يلتزم الاتحاد الأوروبي بمبادئ سياسته الخارجية الحالية. تتلخص الأهداف الرئيسية للاتحاد الأوروبي في منع موجات جديدة من اللاجئين، وتخفيف حدة الأزمة الإنسانية، ودعم الحل السياسي، وتجنب عودة ظهور الإيديولوجيات والجماعات الإرهابية. إن التطبيع مع نظام الأسد أمر غير محتمل، لا سيما بالنظر إلى دور سوريا المتزايد كمركز للمخدرات. بدلا من ذلك، قد يلعب الاتحاد الأوروبي دورا أكثر وضوحا في تعزيز المفاوضات السياسية بين الحكومة السورية وجماعات معارضة مختارة ومؤسسات المجتمع المدني. ومن المرجح أن تظل سياستها الخارجية متوافقة مع سياسة الولايات المتحدة، وتشكيل جبهة موحدة ضد السيطرة الروسية والإيرانية الكاملة على سوريا في المستقبل

إذا تصاعد الصراع المستمر في أوكرانيا وتحول إلى مواجهة بين الناتو وروسيا، فمن المتوقع أن تكون التداعيات في سوريا كبيرة.

السيناريوهات الممكنة خلال السنوات الـ10 القادمة

على ضوء تحليل الوضع داخل سورية، وعلى ضوء أوراق سياسيات الفاعلين الإقليميين والدوليين، وعلى ضوء مناقشات المشاركين في الندوتين الأولى والثانية، للسيناريوهات المحتملة في سوريا خلال عشر سنوات قادمة، وعلى ضوء تشابك سياسات الفاعلين الإقليميين والدوليين الخارجية، فقد تم ترجيح احتمالات السيناريوهات الأربعة المبيّنة أدناه، ولكن بدرجات متباينة وآجال زمنية مختلفة:

  1. سيناريو الجمود: حيث تستمرّ الأوضاع القائمة حاليًا، من دون تغيير يذكر في خرائط مناطق السيطرة الأربعة، وتبقى القوات والميليشيات الأجنبية موجودة في سوريا، ومنها القوات الأميركية، إلى أجل يمتد سنوات عدّة قد يصل عددها إلى عشر سنوات وأكثر، وتبقى سورية مقسّمة إلى أربع مناطق سيطرة، تسيطر على كل منها قوى الأمر الواقع.
  2. سيناريو المبادرة التركية العربية: يقوم على افتراض وجود مبادرة عربية تركية، لاقتراح حلّ وسط مقبول من الفاعلين الخارجيين، مع احتمال بقاء الأسد إلى أجل محدد (سلام سلبيّ يهيمن عليه نظام الأسد).
  3. سيناريو انسحاب القوات الأميركية: يقوم على افتراض انسحاب القوات الأميركية من شرق الفرات.
  4. سيناريو التغيير الديمقراطي (سيناريو الأمل السوري)، ويقوم على افتراض تحقيق انتقال سياسي إلى نظام ديمقراطي يحقّق ما حلم به السوريون وقاموا من أجله في 2011.
    1. سيناريو الجمود

تستمرّ الأوضاع القائمة حاليًا في سوريا، من دون تغيير يُذكر في خرائط مناطق السيطرة الأربعة، ودون تغيير يذكر في القوى المسيطرة على كل منطقة، وستبقى القوات والميليشيات الأجنبية موجودة في سوريا، ومنها القوات الأميركية، إلى أجل يمتد سنوات عدة ربّما يصل إلى عشر سنوات أو أكثر، وتبقى سورية مقسّمة إلى أربع مناطق سيطرة، تسيطر على كل منها قوى الأمر الواقع القامة حاليًا دون تغيير يذكر.

    1. الفرضيات التي تجعل السيناريو الأول واقعًا:

نتيجة لتعقيدات الواقع الإقليمي والدولي، فإن القوى الفاعلة الإقليمية والدولية في الصراع الدائر في سوريا لا تتوصّل إلى أي توافق بينها (تركيا، إيران، الولايات المتحدة، روسيا)، ومن جهة أخرى، فإن الآلية الدولية غير قادرة على إعادة تأهيل نظام ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومع استمرار الدور العربي هامشيًا، ومع استمرار الحرب الأوكرانية التي ستظلّ الموضوع الأهمّ بالنسبة إلى الفاعلين ذاتهم، ولم يكن لها تأثير يذكر على القضية السورية؛ فلن تبرز أي عوامل/ فواعل جديدة على المستوى الدولي، تؤدي إلى تغييرات ذات تأثيرٍ على سياسات الفاعلين، بما يُنتج توافقًا على أيّ حل في سوريا. ولذلك فإن المرجّح أن تحافظ جميع الأطراف على خرائط مناطق سيطرتها الحالية من دون تغيير يذكر.

من جهة أخرى، يستمر النظام، بإصراره المعهود منذ 2011، في سياسته وفق معادلة صفرية، مفادها "كل شيء أو لا شيء"، وتدعمه كلٌّ من إيران وروسيا بشكل مطلق، ولا يوجد ضغوط غربية تجبرهم على تغيير هذه المقاربة الصفرية.

ومع استمرار جمود الأوضاع السياسية من حول الصراع في سوريا، سيستمر تركيز الولايات المتحدة على "هزيمة الإرهاب أولًا"، ولا تضغط الإدارة الأميركية على النظام وداعميه إلى الدرجة التي تؤدي إلى سقوطه، لقناعتها بعدم وجود بديل جاهز، وبأن سقوط النظام في الظروف الحالية سيؤدي إلى فوضى، وستكون هناك فرصة أكبر للإرهاب الذي سيجد حينها فسحة أوسع في "الفوضى السورية" للنشاط والنمو. ومن جهة أخرى، ستستمر العقوبات الغربية الأميركية الأوروبية على النظام السوري، بما يؤدي إلى مزيد من التدهور الاقتصادي والمعيشي للسوريين، حيث يضاف أثر العقوبات إلى آثار الحرب وآثار الإدارة الفاسدة للنظام وتكريسه لطاقات سورية لخدمة آلته العسكرية.

بالمقابل، تعزّز الولايات المتحدة وجودها على الأرض في شمال شرق سورية، ولا تنسحب، كي يوازي وجودها وجود الروس على الأرض السورية، وهو وجود يمكّنها من مواجهة الروس على طاولة المفاوضات "مستقبلًا"، ولها من ذلك غاية أخرى، هي إحكام سيطرتها على شرق سورية، بما يقطع طريق إيران نحو غرب سورية ولبنان. وسيجد حزب (PYD)، وهو تحت الحماية الأميركية، في هذه الأوضاع فرصته التاريخية لتعزيز إقامة "كانتون شبه مستقل"، في منطقة شرق الفرات، على غرار شمال العراق في منطقة سيطرته.

تركيا، وهي لاعب رئيس في الحرب السورية، ستبقى ترى في سيطرة PYD على شرق سورية تهديدًا لأمنها القومي، وستظلّ تتمسك بوجودها في مناطق سيطرتها المباشرة الثلاث في شمال سورية (درع الفرات، غصن الزيتون، نبع السلام)، ما لم يوجد حل مناسب، إضافة إلى تأثيرها في منطقة "هيئة تحرير الشام"، وهي ليست مستعدّة للانسحاب بدون حل سياسي شامل. والحل غائب.

ستبقى إسرائيل تؤيد هذا الوضع، كونه يُبقي سلطة الأسد ضعيفة على حدودها الشمالية، ولا يعيد وحدة سورية دولة مركزية، ويُبعد المتطرفين عن حدودها. ولكنها تُبقي عينها مفتوحة على توسيع وجود إيران على الأرض السورية، وتستمرّ في ضرب مستودعات أسلحة إيران ومواقعها العسكرية في سوريا.

يبقى دور العرب هامشيًا في الصراع الدائر في سوريا، ومنذ بضع سنوات تراجع اهتمام وتأثير كل من السعودية والإمارات وقطر في الصراع الدائر في سوريا، سواء كان ذلك بضغط أميركي، أو بسبب غياب مشروع بديل لدى أيٍ منها، ولا يبدو الأردن مرتاحًا لأوضاع سورية الحالية، ولكن مساعيه لتحريك الوضع، "الورقة الأردنية"، و "برنامج الخطوة مقابل خطوة"، اصطدمت بممانعة النظام لإحراز أي تقدّم بأي خطوة.

ضمن هذا الوضع المعقّد والمأساوي، يستمرّ غياب الصوت السوري، ويستمر فقدان السوريين لأدوات سياسية فاعلة، وتسود حالة من العجز عن الفعل لدى جميع الفاعلين، ويفقدون القدرة على الوصول إلى التوافق على أي حلّ أو إحداث أي تغيير ذي قيمة، ولأن الحلّ ما زال بعيدًا، سيستمر الفاعلون والمجتمع الدولي في إدارة الأزمة إدارة كسولة.

2.1- آثار السيناريو الأول وتداعياته:

سيستمر التوافق على التفاهمات القائمة (عدم الاشتباك، استخدام الوكلاء في الصراع، عدم التصعيد)، وسيعطي هذا الفرصة لسلطات الأمر الواقع لتشكيل مستقبل سورية، وستبقى سورية مقسّمة إلى أربع مناطق سيطرة، تسيطر على كلٍّ منها سلطة أمر واقع تفتقد الشرعية، ويستمر الهدوء الهش، بما قد يهدّد وحدة سورية مستقبلًا. وسيبقى نظام الأسد قائمًا دون اعتراف دولي، في مناطق سيطرته الحالية، ويبدأ بالترهّل التدريجي، وتبدأ قبضته بالتراخي، وستبقى إيران تساعده كي يبقى متماسكًا، وتبقى روسيا تحميه.

تستمرّ قوى وشخصيات المعارضة السورية في تشتتها وتشرذمها، من النواحي السياسية والعسكرية والفكرية، من دون أن تملك أيّ مؤسسة القدرة على تمثيل قوى المعارضة، أو على إعداد برنامج تخاطب به جموع السوريين. وسيبقى مسار جنيف على جموده، وستظل مساعي التوصّل إلى حل عاجزة عن تحقيق أي تقدّم.

ستحصل سلطات الأمر الواقع على إقرار مؤقت بسلطتها، ويبدأ المجتمع الدولي والأمم المتحدة بالتعامل معها، مما يعقّد الوصول إلى أي حل سياسي ثانية، ويجعل استعادة وحدة سورية أمرًا بعيدًا، إن لم يكن ذلك مقدّمة للتقسيم، وتحوّل قوات (PYD) منطقة سيطرتها إلى قاعدة لحزب (PKK) الكردي التركي، مما يهدّد بتوسيع العمليات التركية ضدّها في شرق الفرات، وفي هذا المناخ، سينمو تأثير قوى الإسلام السياسي السلفي والراديكالي.

ستعزز إيران سيطرتها على الجزء الذي يسيطر عليه النظام، وستوجّه جهودها نحو تنمية مشروعاتها لنشر التشيع وشراء العقارات وتوسيع نطاق "حزب الله" السوري وتوسيع ميليشيات تتبع لها وتأتمر بأمرها، مما يزيد تعقيدات الحلّ في المستقبل، وستستمر روسيا في الوجود بالحدود الحالية دون زيادة، وستستمر في التنافس مع إيران على السيطرة على النظام وعلى موارد سورية التي باتت شحيحة، وستبقى تركيا قلقة على أمنها القومي، نتيجة وجود (PYD) شرق الفرات، وستستمرّ في عمليات قصف المناطق التي يسيطر عليها بالطائرات المسيّرة، وستبقى تعزز وجودها في مناطق سيطرتها الثلاث، ونفوذها على منطقة سيطرة "هيئة تحرير الشام"، وسيبقى دور أوروبا هامشيًا، سياسيًا، ويقتصر دورها الرئيس على تقديم المساعدات الإغاثية. وسيبقى الوجود الأميركي شرق الفرات يدعم استمرار سيطرة (PYD) على كامل المنطقة، وستبقى إسرائيل تراقب الوضع، وتستمرّ في تقليم أظفار إيران في سوريا دون أن تنهي وجودها (إذ لا تريده أن ينتهي)، وسيبقى الدور العربي مهمّشًا.

سيستمر تدهور معنويات جيش النظام وتراجع الوضع المعيشي لعناصره، وتراجع قدراته القتالية، بسبب استمرار تدهور قدرات النظام، واستمرار تدهور الوضع المعيشي للسوريين، وزيادة مظاهر الفساد والتسيب.

سيستمر الصراع والاقتتال بين فصائل المعارضة، من أجل النفوذ والمنافع الشخصية لقادتها، وستجد "هيئة تحرير الشام" الفرصة للانقضاض على عدد أكبر من الفصائل وتوسيع مناطق سيطرتها. وسيستمر وجود الجيوش الأجنبية والميليشيات الأجنبية على الأرض السورية بلا تغيير يُذكر، وخاصة الميليشيات الموالية لإيران، وسيزداد نفوذ إيران العسكري في سوريا. وستظلّ (داعش) والميليشيات المتطرفة تنشط في البادية السورية، ويتسع نشاطها، رغم الضربات الأميركية، بسبب ضعف السيطرة على الأرض، وبسبب تعاطف المجتمع المحلي معها نتيجة عدم وجود حلّ، إضافة إلى بعض الميليشيات في مناطق "هيئة تحرير الشام"، مثل الإيغور وحرّاس الدين. وستتحول مجموعات صغيرة إلى العمل في مناطق سيطرة النظام، لتقوم بتفجيرات واغتيالات، هنا وهناك. وسيستمر النظام في إنتاج الكبتاغون وتصديره إلى الدول القريبة والبعيدة، كمصدر دخل وكأداة ضغط، وسيبقى مصير عشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسرًا مجهولًا.

وستبقى الحوكمة ضعيفةً في المناطق الأربع، وخاصة في المناطق خارج سيطرة النظام، وسيستمر غياب المؤسسات الكفء التي تنظّم الحياة العامة في المناطق خارج سيطرة النظام (مؤسسات الأحوال المدنية، مؤسسات توثيق المعاملات، مؤسسات تنظيم الاقتصاد والإنتاج والتجارة، مؤسسات الأمن، مؤسسات التقاضي)، وغيرها.

سيستمر تدهور الأوضاع المعيشية، ولن يحصل النظام على مساعدات مالية تُذكر، عدا مساعدات إيران الشحيحة، وبأثمان سياسية واقتصادية باهظة. وتستمر المساعدات الإغاثية بدلالاتها السلبية، كونها تخلق ميلًا نحو الاعتمادية عليها، وستتراجع تلك المساعدات مع الأيام، وسيكون لذلك أثر سلبي على المحتاجين، إضافة إلى تراجع مشاريع التعافي المبكر، وهي غير كافية لأيّ تعاف فعلي.

ستستمر عائلة الأسد-الأخرس في السيطرة على قطاع الأعمال الكبير السوري كملكية خاصة، معتمدة بشكل مفرط على القبضة الأمنية في تسيير أعمالها. وسيستمرّ في إجراء تعديلات واسعة في سلك الضباط، من أجل ضمان ولائهم الشخصي لبشار الأسد، وفي دمج ميليشيات موالية لإيران في الجيش السوري.

سيزداد الوضع الاقتصادي سوءًا مع استمرار سيادة اقتصاد الحرب، واستمرار التدهور الاقتصادي، وسينمو الاقتصاد الأسود القائم على تصنيع وتجارة المخدرات واقتصاد الحواجز والتهريب والاختطاف، ونمو شبكات المصالح الفاسدة السياسية والعسكرية، وستنتعش قليلًا بعض المناطق فقط، بما لا يغيّر من المشهد كثيرًا، وسيبقى موضوع إعادة الإعمار مؤجلًا، وسيستمر غياب الخدمات، ولو بالحد الأدنى، وسيستمرّ حرمان جيل من التعليم وخدمات الطبابة والمياه النظيفة وغيرها، وسيستمرّ المستوى المعيشي للسوريين المقيمين على الأرض السورية في التدهور، وستزداد مستويات البطالة والفقر، وستواصل الارتفاع، وهي مرتفعة أصلًا. وسيشكل ذلك عاملًا طاردًا يدفع مزيدًا من الجيل الشاب نحو الهجرة إلى الخارج. فمع استمرار فرض العقوبات الغربية، دون أن تترافق بأي رؤية استراتيجية للوصول إلى حل، ستزداد الضغوط المعيشية على السوريين في الداخل، وتزداد المظاهر المجتمعية السلبية.

سيزداد الشرخ الفاصل بين مكونات المجتمع السوري، وسيتدهور تماسك المجتمع السوري أكثر، وستتزايد المظاهر الاجتماعية السلبية التي أفرزتها الحرب، وسيزداد الاقتتال بين العشائر وبين مكونات المجتمع السوري، وستنمو بؤر نمو التطرف، وسيزداد استهلاك المخدرات، وسيستمر هروب الكوادر، وسيزداد الجهل والمرض، وسيبقى موضوع عودة النازحين السوريين إلى بيوتهم مؤجّلًا، وكذلك موضوع عودة اللاجئين السوريين في الخارج إلى بيوتهم. بل ستتسع هجرة الشباب في سوريا باتجاه دول الجوار وباتجاه أوروبا، حسب المتاح.

مع استمرار الأوضاع الحالية، بدأت تتكون أربعة مجتمعات موازية، إذ تتباين توجهات قوى السيطرة في سياساتها وأيديولوجياتها ومرجعياتها ومناهج تعليمها، ففي حين يستمرّ نهج النظام في سياساته السابقة، يزداد نفوذ إيران وأيديولوجيتها المذهبية الدينية، ويزداد تأثير الميليشيات الشيعية بأعدادها الكبيرة في محيط وجودها، ويسعى النظام لمنح المؤسسات الإسلامية السنية دورًا أكبر لموازاة الدور المذهبي الإيراني لكسب رضاها، بالمقابل تنشر قوات PYD فكر عبد الله أوجلان، وتُدخله في مناهج التعليم في جزءٍ من مناطق سيطرتها في محافظة الحسكة، وتفرض سياسات وتنظيمات وأفكارًا وثقافة خاصة بها، وتترك أجزاء أخرى من مناطق سيطرتها في دير الزور والرقة لنفوذ العشائر وقيمها وثقافاتها. بالمقابل، تسيطر "هيئة تحرير الشام"، بفكرها الديني المتشدد، على منطقة سيطرتها في إدلب. وتسيطر فصائل الجيش الوطني بتوجهاتها الدينية على مناطق سيطرتها، في حين برزت لدى بعضها توجهات قومية تركمانية، لم تكن بارزة في سوريا قبل 2011. وتظهر بوضوح تأثيرات السيطرة التركية والمؤسسات التركية في المناطق الثلاث.

3.1- المدى الزمني لتحقق هذا السيناريو:

في الواقع، هذا السيناريو قائم الآن على أرض الواقع، ويُتوقع أن يستمر 2-3 سنوات، في حدّه الأدنى، وقد يستمر طوال السنوات العشر القادمة، ما لم توجد إمكانية لحل آخر.

    1. السيناريو الثاني: المبادرة التركية العربية:

تطرح تركيا مبادرة مشتركة، مع كلٍّ من قطر والسعودية والإمارات ومصر، وتتقدم بحلّ يقوم على مبدأ الخطوة مقابل خطوة، ببرنامج محدد، من حيث محتوى كلّ خطوة ومداها الزمني وتاريخ تنفيذها، وتعمل على تسويقه مع الأميركان والأوروبيين والروس والإيرانيين. ويُبنى الحل على إعلان جنيف والقرار 2254، ووضع دستور جديد يقوم على نظام مختلط برلماني-رئاسي، يوزع السلطة بين الرئيس ورئيس الوزراء، وتشكيل سلطة مختلطة من النظام والمعارضة وأطراف مجتمعية، من دون وضع فيتو على مشاركة الأسد في السلطة، ويوضع للحل برنامج زمني تنفيذي مدته ثلاث سنوات، ولا يتضمّن انسحاب أميركا من شرق الفرات، بل يكون الانسحاب الأميركي خطوةً من ضمن برنامج تنفيذ السيناريو، كما يكون الانسحاب الروسي جزءًا من خطوات السيناريو، مع احتفاظ روسيا بقاعدتها البحرية في طرطوس وبمصالحها في سوريا، ويكون انسحاب القوات التركية ضمن اتفاق يطوّر اتفاق أضنة 1998 بين سورية وتركية، ووضع ترتيبات خاصة لمناطق سيطرتها كنوع من الإدارة المحلية.

يُصاغ دستور جديد يُحدد طبيعة النظام القادم في سوريا، يقوم على نظام مختلط رئاسي-برلماني، ينصّ على فصل السلطات، وتوزيع السلطة التنفيذية بين الرئيس ومجلس الوزراء، كنظام ديمقراطي تعددي يقوم على تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، ويضمن الحريات العامة في التعبير والتنظيم، وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية وحيادية الدولة، واللامركزية الإدارية، واقتصاد السوق، وأسس العدالة الاجتماعية، وحيادية الجيش والقضاء وعدم انتماء منتسبيها إلى أي حزب سياسي، وينصّ على منح "حكم ذاتي محدد" للمناطق ذات الغالبية الكردية فقط، تمثّل به الأحزاب الكردية الرئيسة، ويُبرم اتفاق مصالحة مع فصائل مناطق السيطرة التركية في شمال سورية، بضمانة تركية، ويبقى رفع العقوبات الأميركية والأوروبية رهنًا بتنفيذ خطوات السيناريو (وعادة لا ترفع العقوبات الأميركية بسهولة، فقرار رفعها معقّد، ويرجّح أن تبقى للمفاوضات ومطالب أميركية محددة أخرى).

2.2- الفرضيات التي تجعل السيناريو الثاني ممكنًا:

تسعى تركيا اليوم لتحسين علاقاتها الإقليمية، ولتخفيض نقاط الاحتكاك معها، وهي تقع تحت ضغوط الزمن، إذ إن استمرار الوضع الحالي (اللا حل) يشكّل ضغطًا على مصالحها من عدة جوانب، فهو يرسّخ سيطرة (PYD) على شرق الفرات (الفرع السوري من حزب PKK التركي)، ومسعاه لإقامة كانتون شبه مستقل في شمال شرق سورية، وترى تركيا في هذا تهديدًا لأمنها القومي، إضافة إلى ضغوط أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري على أرضها، أصبح وجودهم ضاغطًا وتحوّل إلى مشكلة سياسية داخلية، ولن يوجد حل لهم بدون حل سياسي يفتح الطريق لعودتهم إلى بيوتهم، إضافة إلى إغلاق الطريق البري أمام تجارة تركيا مع الدول العربية، وخاصة دول الخليج.

ضمن هذه الرؤية، ترى تركيا أن من مصلحتها الانضمام إلى المبادرة العربية وتطويرها لإيجاد حلّ للحرب السورية، وفق مبدأ الخطوة مقابل خطوة، والشراكة مع الدول العربية في تطوير حلّ يُقدّم إلى اللاعبين الدوليين، مستفيدة من كونها لاعبًا رئيسيًا في الحرب السورية، إضافة إلى وجودها العسكري في مناطق شمال غرب سورية، وتأثيرها على فصائل المعارضة في تلك المناطق، وعلى "هيئة تحرير الشام"، وأيضًا مستفيدة من علاقاتها الجيدة مع كل من إيران وروسيا والولايات المتحدة وأوروبا.

وتقتنع روسيا بالحلّ بعد وضع شروط لضمان بقاء الأسد في السلطة كشريك، كما تقتنع السعودية والإمارات بأن الحل لا يقوم على سيطرة قوى الإسلام السياسي والفصائل الإسلامية على السلطة السورية الجديدة. ويقتنع الإيرانيون بهذا الحل، بعد الضغط الروسي والتركي، لكونه يُبقي الأسد في السلطة، ويعيد سيطرة النظام على كامل الأرض السورية، وتقتنع الإدارة الأميركية أيضًا بهذا الحل، لعدم توفر بديل أفضل، ولعدم وجود من يحلّ محل نظام الأسد، وترى في الحل تحقيقًا لشعارها "تغيير سلوك النظام"، وتشترط وضع ترتيبات محددة للمناطق ذات الغالبية الكردية، ووضع شروط على تقييد وجود إيران وميليشياتها في سوريا ودورها (وهذا ما يتفق مع مصالح تركيا وروسيا)، وتضمين برنامج لمحاربة (داعش)، وعدم رفع العقوبات مسبقًا، بل ربطها ببرنامج تنفيذ الاتفاق. ويؤيد الأوروبيون هذا الحل، لأنه يخفّف تدفق مزيد من اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، ويُنهي تصنيع النظام للكبتاغون وتصديره (يكون هذا أحد البنود الرئيسة في برنامج الحل). ويدعم الأردن مثل هذا الحل، كما تؤيده إسرائيل أيضًا، إذ سيقيّد وجود إيران ونفوذها في سوريا.

يحقق هذا السيناريو كثيرًا من مصالح النظام، فهو يتيح له السيطرة على كامل الأرض السورية، ويوسّع دائرة قبوله في المجتمع الدولي، ويؤمن له موارد مالية وخارجية أكبر، ويقدّم له المساعدة في إعادة الإعمار، ولو جزئيًا، ويجمّد تنفيذ العقوبات ومن ثم إزالتها تدريجيًا. ويجد النظام أن هذا الوضع، بالرغم من وجود جوانب عديدة ليست في صالحه، صفقة رابحة هي أفضل ما يتاح له.

3.2- آثار السيناريو الثاني وتداعياته:

يحقق هذا السيناريو إعادة وحدة التراب السوري، ويقطع الطريق على مخاطر التقسيم، ويعيد دمج السوريين في مجتمع واحد، إذ ستعيد السلطة المركزية في دمشق سيطرتها على كل الأرض السورية، وسينتهي مشروع حزب (PKK) الكردي التركي بإقامة كانتون شرق الفرات، وسيحلّ محله نوع من الحكم الذاتي، بصلاحيات محددة (لا تشبه سلطة كردستان العراق)، في المناطق ذات الغالبية الكردية فقط، وليس في كامل منطقة شرق الفرات. تُمثّل فيه القوى المحلية، ولا تسيطر عليه قنديل. ويتم التوصل إلى اتفاق مصالحة حول مناطق سيطرة الجيش الوطني المعارض (السيطرة التركية عمليًا)، على غرار مناطق درعا، وتكون تركيا طرفًا ضامنًا، وستدخل مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" في هذا الاتفاق، وستغيّر الهيئة تسميتها وممارساتها، في محاولة للتكيّف والحصول على القبول، وسيتراجع تدريجيًا نفوذ قوى الإسلام السياسي الراديكالي في شمال غرب سورية، وستُلغى العقوبات الغربية جزئيًا فقط.

بموجب هذا السيناريو، تتكون السلطة المركزية شراكة بين النظام وأطراف من المعارضة، وأطراف من المجتمع، وتبقى الحصة الأكبر من السلطة بيد الأسد مع بقائه في السلطة، وسيمنح هذا الحل الأسدَ بعض القوة والمشروعية أمام عدد أكبر من الدول، وسيحصل على تأهيل غير مكتمل، وبقاؤه يعني استمرار سمات النظام القديم بكل مفاسده.

سيتحقق فصل السلطات التي كانت ممركزة بيد الأسد، ويتم تقاسم السلطة التنفيذية، وستشارك أطراف معارضة في السلطة وأطراف من المجتمع لا يتحكم الأسد في اختيارها.

سيتم الحفاظ على مؤسسات الدولة السورية، ومنها مؤسستا الجيش والأمن، مع إعادة هيكلتها جزئيًا، بحيث تنضم تحت لواء الجيش أجزاء من فصائل المعارضة، ويتم تحييد الجيش والأمن عن السياسة بمنع منتسبيها من الانتساب إلى أي حزب سياسي، ويُحصَر السلاح بيد الدولة، وتتم عملية حلّ ما تبقى من الميليشيات المحلية، واستيعاب أجزاء منها في مؤسستي الجيش والأمن، وسيطلب من الميليشيات الأجنبية مغادرة سورية، وهي مهمّة شاقة، وستتوجه الجهود بقوة أكبر نحو مقاومة (داعش) في البادية السورية، وكسب العشائر المقيمة في البادية للمشاركة في مكافحة (داعش) والميليشيات المتطرفة.

بعض قوى الأمر الواقع، من فصائل المعارضة ومن مجموعات جهادية، التي لها مصالح في استمرار اللا حل، ستعارض هذا الحلّ، وستقوم ببعض الأعمال المخلّة بالأمن، وستخلق بعض التعقيدات، مما يتطلب وجود جيش مركزي قوي يستطيع التغلب على مقاومتها.

ستعود مختلف مؤسسات الدولة إلى العمل، في كل مناطق سورية (مؤسسات الأحوال المدنية، مؤسسات توثيق المعاملات، مؤسسات تنظيم الاقتصاد والإنتاج والتجارة، مؤسسات الأمن، مؤسسات القضاء)، وغيرها، ويبدأ تطبيق قانون الإدارة المحلية الجديد رقم 107 لعام 2011، ويكون لمناطق الغالبية الكردية في شمال سورية نوع من الحكم الذاتي، كما سيكون لمناطق السيطرة التركية حوكمة خاصة، وفق اتفاق المصالحة.

سيُلغى قانون مكافحة الإرهاب، وتُلغى أحكامه السابقة، وتلغى كل أحكام الحجز والمصادرة التي فرضت بدوافع سياسية، ويصدر عفو عام عن جميع المعارضين السوريين. سيبدأ المصير المجهول لعشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسرًا بالظهور جزئيًا فقط، (لن يكشف النظام عن كل أفعاله)، وسيُفرج عمن بقي حيًا في السجون.

ستبدأ المصالحة المجتمعية، وستبدأ لُحمة المجتمع السوري بالتعافي التدريجي جزئيًا فقط، بحسب تقدّم برنامج المصالحة المجتمعية، وستبدأ المظاهر الاجتماعية السلبية التي أفرزتها الحرب بالتراجع تدريجيًا، بقدر تقدّم تنفيذ برنامج الاتفاق، ولكن لا يُتوقّع تحقيق الكثير، بسبب بقاء النظام والمجموعات التي تتحكم في الدولة والمجتمع. وسيفتح الطريق لعودة أعداد كبيرة نسبيًا من النازحين داخل سورية، ولعودة أعداد غير كبيرة من اللاجئين في دول الجوار أيضًا، بالتدريج، وبحسب تقدّم تنفيذ خطوات الاتفاق، وتقدّم عمليات إعادة الإعمار المادي، وتقدّم عمليات المصالحة المجتمعية، وهي ترتبط بمقدار المساعدات التي تصل إلى سورية، وسيبقى هناك أعداد كبيرة تخشى العودة، بسبب بقاء النظام، وستتراجع معدلات هجرة الشباب السوري باتجاه دول الجوار أو باتجاه أوروبا، ولكنها لن تتوقف.

ستبدأ الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بالتحسّن التدريجي، ولكن بحدود، وستحصل السلطة المركزية على بعض المساعدات الخليجية بخاصة، وتستمر المساعدات الإغاثية بعض الوقت، ثم يُستغنى عنها بالتدريج بقدر توفر البدائل، وستبدأ عملية إعادة الإعمار، ولكن بحدود غير واسعة، وسيبدأ الاقتصاد السوري بالتعافي جزئيًا، وسيحقق موارد مالية لخزينة الدولة من خلال إعادة سيطرته على النفط، وستجتذب سورية بعض الاستثمارات، ويظهر انتعاش في بعض المناطق. وسيتوقف إنتاج الكبتاغون وتصديره إلى الدول القريبة والبعيدة، وسيتوقف المستوى المعيشي عن التدهور مع بدء التحسّن الطفيف، وستتحسن الخدمات بالتدريج، مثل التعليم وخدمات الطبابة والمياه النظيفة وغيرها، ولا يُتوقع أن يتحقق الكثير، وستتوقف المظاهر المجتمعية السلبية عن التزايد.

ستعزز الدول العربية علاقاتها مع النظام، متجاهلة استمرار العقوبات الأميركية والأوروبية، وتتراجع سيطرة إيران في سوريا، ولكنها لن تختفي، وستبقى مصالحها في حدود العلاقات الطبيعية بين دولتين مستقلتين، وستحافظ روسيا على وجودها العسكري مع تقليص قواتها الأرضية، وسيتوقف تهديد الأمن القومي التركي الذي يتمثل في مشروع (PYD)، وستحقق تركيا توسيعًا لاتفاقية أضنة، سيفتح الطريق البري أمام تجارتها مع دول الخليج، وستؤيد أوروبا هذا الحل الذي يقلّص من هجرة السوريين باتجاهها، وينهي تصدير النظام للكبتاغون، وستسحب الولايات المتحدة قواتها بالتدريج، بحسب الالتزام بتنفيذ البرنامج وبالشروط الخاصة التي ستضيفها، ولن تعارض إسرائيل هذا الحل، خاصة أنه يُضعف وجود إيران في سوريا، وستلغى العقوبات الأوروبية والأميركية تدريجيًا مع تقدّم تنفيذ برنامج الحل.

 

4.2- المدى الزمني لتحقق السيناريو الثاني:

بسبب صعوبة تحقّق التوافق العربي التركي، وصعوبة موافقة إيران على مثل هذا السيناريو، وصعوبة إقناع الإدارة الأميركية بهذا السيناريو، وبسبب تعنّت النظام وتردّده المتوقَّع؛ تبقى توقعات تحقق هذا السيناريو في أرض الواقع متوسّطة إلى ضعيفة، ولكن تزداد فرصه في حال التوصل إلى إنهاء الحرب الأوكرانية، في أجواء من التوافق بين الغرب والشرق، على نحو يجعل التوافق الروسي الأميركي على البرنامج ممكنًا، وبالتالي يمكن أن يكون المدى الزمني لتحقّق هذه السيناريو 2-3 سنوات.

1.3- السيناريو الثالث: انسحاب أميركي من شرق الفرات

يقوم هذا السيناريو على فرضيّة انسحاب القوات الأميركية من شرق الفرات، وثمة سابقة عندما قرّر الرئيس ترامب الانسحاب من شرق الفرات 2019. فأسرع حزب PYD إلى إبرام اتفاق مع النظام على عودة سيطرة النظام على شرق الفرات.

سيدفع الانسحاب الأميركي تركيا إلى إبرام اتفاق مع النظام برعاية وضغط روسي، تقايض به انسحاب قواتها من شمال سورية، مقابل اتفاق لحلّ سياسي وفق القرار 2254، من دون اشتراط رحيل الأسد، يتضمن إحداث دستور جديد ومشاركة ثلاثية في السلطة: نظام ومعارضة ومجتمع.

2.3- الفرضيات:

هناك احتمال بحدوث تغيير في السياسات الأميركية تجاه الشرق الأوسط والقضية السورية، نتيجة لتغيّر في استراتيجيات الإدارة الأميركية الدولية والشرق أوسطية، وقد يكون هذا إحدى نتائج الانتخابات الأميركية القادمة 2024، وتزايد تركيزها على بحر الصين لمواجهة الصين التي تسعى لتوسيع نفوذها في منطقة شرق جنوب آسيا. ومن جهة أخرى، تزايد ضغوط ارتفاع كلفة الوجود الأميركي شرق الفرات، وتكبّدها خسائر بالأرواح، وهذا مما يدفع الإدارة الأميركية إلى ترجيح الانسحاب من شرق الفرات، بسبب تكثيف الهجمات على القواعد ونقاط تمركز القوات الأميركية، ويترافق ذلك مع ضغوط تركية من أجل انسحاب القوات الأميركية، لمعرفتها أن هذا سينهي حلم إقامة كانتون كردي شبه مستقل شرق الفرات، بما يشبه شمال العراق، إذ ترى تركيا أن هذا يشكل خطرًا على أمنها القومي، وعلى الرغم من أن الانسحاب الأميركي يجعل تركيا وحيدة في مواجهة النظام وحلفائه الروس والإيرانيين، فإنه من جهة أخرى يجعل القضية السورية موضوعًا للتفاهم الروسي التركي بعيدًا عن التدخل الأميركي، وممّا قد يؤثر في زيادة احتمالية هذا السيناريو انتهاء حرب أوكرانيا بتفاهم أميركي روسي، حيث إنه يخلق أجواءً أقل توترًا بين روسيا وكلّ من أوروبا والولايات المتحدة، واقتناع أميركا بترك سورية لروسيا، وتفويضها بإيجاد حل للمسألة السورية، بعد مضي هذه السنوات الكثيرة على هذا الصراع المستمر.

3.3- الآثار:

سيفتح الانسحاب الأميركي، بدون أي برنامج، الطريق لمنافسة وتوتر وشدّ ورخي، بين تركيا وحدها من جهة، وكل من روسيا وإيران والنظام من جهة أخرى. ولكن ستبقى تركيا تحتاج إلى الدعم الغربي بطريقة ما.

وسيسارع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي PYD، مدفوعًا بخوفه من تدخّل تركي في منطقة سيطرته، إلى التفاوض مع النظام والاتفاق العاجل معه، برعاية روسية، على عودة منطقة شرق الفرات لتكون جزءًا من منطقة سيطرة النظام، مقابل منح PYD نوعًا من الحكم الذاتي في المناطق ذات الأغلبية الكردية فقط، وسيتم تحديد خريطتها التي لم تحدد بعد، وسيكون الإيرانيون موجودين في هذه الترتيبات، مع توسيع انتشار قوات روسيا في منطقة في المنطقة، وستشترط تركيا ابتعاد القوات الإيرانية عن حدودها مع سورية.

سيُعزز هذا الانسحاب من موقع النظام وحلفائه، وسيوسع منطقة سيطرته، فلا يبقى سوى نحو 11بالمئة من الأرض السورية لا يخضع لسيطرته. وسيمنحه قوة سياسية، وسيؤمن له مزيدًا من الدخول من إنتاج النفط من مناطق شرق الفرات، وهي مناطق إنتاج النفط السوري. سيمسك رأس النظام بالسلطة، ويعيد ترتيب معالمها المدنية-العسكرية، ويعيد خلط نخب السلطة، ويضعها تحت سيطرة شخصية صارمة لرئيس الدولة.

سيخلق هذا الانسحاب ضغوطًا سياسية على تركيا وضغوطًا عسكرية على قواتها الموجودة على الأرض السورية، ويدفع باتجاه انسحابها، وقد تسعى تركيا حينها لإبرام اتفاق مع النظام برعاية روسية كطرف ضامن، تستهدف من خلاله تحقيق ترتيبات خاصة، سياسية وإدارية وعسكرية واقتصادية، للمناطق الواقعة تحت سيطرتها الحالية، في شمال غرب سورية (مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام مع إدلب)، لتشكيل نوع من الإدارة المحلية تحافظ على نفوذ التنظيمات التي تسيطر على تلك المناطق الآن، ومنح حقوق محددة لتركيا ضمن ما يسمّى توسيع اتفاق أضنة الذي أُبرم بين تركيا وسورية سنة 1998.

ستسعى تركيا إلى إنجاز اتفاق سياسي بين النظام والمعارضة ممثلة بهيئة المفاوضات، يتضمن إعداد دستور جديد، وستسعى لأن يكون دستورًا ديمقراطيًا يوزع السلطات، ويتيح فسحة واسعة لحراك المجتمع، ويحقق حياد مؤسستي الجيش والأمن والقضاء عن السياسة والانتماء الحزبي، وغيرها من سمات الدستور العصري.

سيتمسك النظام وداعموه بإنتاج دستور جديد من حيث الشكل، ولكنه يحافظ على هياكل السيطرة القائمة ذاتها، مع تعديلات بسيطة تتضمن إشراك أطراف معارضة لها تأثير محدود على القرار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل بها "المعارضة السورية". وسيلعب توازن القوى والظروف السائدة حينها دورًا في رجحان إحدى الكفتين: كفة تركيا مع المعارضة الضعيفة، وكفة النظام وحلفائه.

سيفتح هذا الاتفاق الطريق لعودة أعداد من اللاجئين السوريين في تركيا إلى بيوتهم، سواء أكانت في مناطق سيطرة النظام أم في مناطق شرق الفرات (سيطرة قوات PYD)، ويتيح أيضًا عودة النازحين في مناطق شمال غرب سورية إلى بيوتهم في المحافظات السورية الأخرى، حماة وحمص ودمشق ودرعا. ويتوقع أن يعرقل النظام هذه العودة، ما لم تقترن برفع العقوبات والمساعدة في إعادة الإعمار، ولا يُتوقّع رفع العقوبات الأميركية، لكنها عمليًا ستكون مجمّدة ولن يتم تشديدها أكثر. وستندفع دول أوروبية لإعادة علاقاتها مع النظام مع التزامها بالعقوبات النافذة.

4.4- المدى الزمني لتحقق السيناريو الثالث:

لا يتوقّع ان تنضج ظروف تحقق هذا السيناريو قبل 3 – 5 سنوات.

1.4- السيناريو الرابع: "الأمل السوري"

يتحقّق توافق روسي أميركي تركي مع قبول إيراني على انتقال سياسي في سوريا، يقوم على صيغة إعلان جنيف1 والقرار 2254، يُنتج نظامًا سياسيًا جديدًا بديلًا، يقوم على شراكة في السلطة بين أطراف من النظام، وأطراف من المعارضة، وأطراف من المجتمع السوري، ويتولى المبعوث الأممي، بمساعدة فريق استشاري أممي وسوري، صياغة الحل مع برنامج تنفيذي زمني خلال 3 سنوات، ويتضمّن الإشراف على تنفيذ البرنامج:

وضع دستور جديد لسورية، يُحدد النظام السياسي، كنظام ديمقراطي تعددي يقوم على تداول السلطة عبر صناديق الاقتراع، ويضمن الحريات العامة في التعبير والتنظيم، وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية، وحيادية الدولة واللامركزية الإدارية، واقتصاد السوق، وأسس العدالة الاجتماعية، يحلّ محلّ مجلس الشعب القائم، ويشكّل مجلس شعب انتقالي بالتوافق وبإشراف المبعوث الأممي، يكون بمثابة هيئة حكم انتقالي، بشراكة سياسية بين أطراف من نظام البعث وأطراف من المعارضة وأطراف من المجتمع، يتوخى فيه مشاركة شخصيات من مختلف مكونات الشعب السوري واتجاهاته ومناطقه، وتشكل حكومة انتقالية من تكنوقراط مشهود لهم بالنزاهة والكفاءة، ويشكّل مجلس عسكري انتقالي يخضع للسلطة السياسية، مع الحفاظ على مؤسستي الجيش والأمن، مع اشتراط حيادية المؤسستين عن السياسة، مع إعادة هيكلة قيادتهما، وتنفيذ برنامج لحصر السلاح بيد الدولة وترحيل الميليشيات الأجنبية كافة، والحفاظ على مؤسسات الدولة، وتشكيل هيئة قضائية انتقالية عليا تشرف على جهاز القضاء، وتشكيل هيئة عامة للمصالحة الوطنية، تحفظ حق روسيا باحتفاظ قاعدة طرطوس البحرية في سوريا، وقيام علاقات جيدة بين سورية وإيران، وبين سورية وتركيا، ويصدر ذلك بقرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع.

2.4- فرضيات السيناريو الرابع:

تنشأ جملة من الظروف الدولية الضاغطة، وتجتمع مع ظروف داخل سورية، تجعل تحقيق انتقال سياسي في سوريا أمرًا ضروريًا لا يمكن تجنّبه، بما يدفع إلى توافق إقليمي ودولي (وخاصة إلى توافق روسي أميركي تركي وقبول إيراني تحت الضغط)، على إجراء انتقال سياسي، وفق صيغة إعلان جنيف1 والقرار 2254، يُنتج نظامًا سياسيًا جديدًا بديلًا؛ إذ إن العالم بدأ، بعد نحو ثلاثة عشر عامًا على الأزمة السورية، يشعر بالتعب من متابعة هذه الأزمة في عالم يزدحم بالأزمات، وبحسب تقرير معهد السلام في أوسلو لعام 2022 يوجد في عالم اليوم 55 نزاع منها 33 صراع فعال وأن الصراع يستمر بين 7 – 10 سنوات وأن 2 مليار إنسان على الأرض يتأثرون بهذه النزاعات.

يقوم هذا السيناريو على فكرة المقايضة، بين أميركا وروسيا، بأن تقوم أميركا برفع العقوبات عن النظام، وتوقف تنفيذ قانون قيصر/ سيزر، وترفع الفيتو عن تمويل إعادة الإعمار، والتطبيع مع سورية، مقابل أن تفرض روسيا على النظام حلًا يقوم على انتقال سياسي من دون بشار الأسد.

إن استمرار النظام بالضعف، واستمرار تدهور الأوضاع الداخلية في سوريا خلال السنوات القادمة، واستمرار نظام طائفي في حكم مجتمعات في مدن وبلدات لا تريده، بعد أن ارتكب بحق سكانها جرائم كبرى، وتتطلع إلى تحقيق الانتقال إلى نظام سياسي جديد يقوم على مبادئ الديمقراطية ومبادئ الحرية والعدالة ورحيل النظام الحالي.. كل هذا سيقود إلى بروز حركات احتجاجية في أكثر من مكان، على غرار السويداء،

إقليميًا وعالميًا، يصبح من الصعب تحمّل ضغوط استمرار تدفق هجرة السوريين، بسبب تدهور الأوضاع المعيشية والأمنية، نحو دول الجوار ونحو أوروبا، لتضاف إلى جملة الضغوط السابقة، كما يصبح من غير الممكن تحمّل استمرار تدفق الكبتاغون من سورية إلى دول الجوار والدول البعيدة، وتبلور قناعة عند الفاعلين، بأن استمرار النظام ذاته والفئة الحاكمة ذاتها في سوريا سيعني استمرار عدم الاستقرار في سوريا، ويؤدي إلى عدم الاستقرار للإقليم والعالم.

قد يلعب التصعيد الإقليمي، نتيجة الحرب في غزة وتزايد الحضور الأميركي، دورًا في هذا السيناريو، حيث يتم تسليط الضوء على الحرب الحالية في غزة وزيادة القوات الأميركية في المنطقة. وقد يؤدي هذا الوضع إلى توجه أميركي وإسرائيلي نحو ضربات أكبر ضد وجود إيران في سوريا، خاصة أن المخابرات الفرنسية تقول إن مقاتلي غزة قد تدرّبوا في سوريا.

عدم توقيع اتفاق نووي سيُبقى إيران تحت الحظر، ممّا يعني محدودية قدرتها على دعم النظام السوري، في حين تزداد الضغوط الداخلية في إيران لتقليص انتشارها ونشاطاتها العسكرية في بلدان الإقليم التي تكلف الخزينة كثيرًا، وينعكس سلبًا على حياة المواطن الإيراني.

تصل الإدارة الأميركية إلى قناعة بأن بقاء الأسد يعني بقاء قاعدة لإيران، وأن استقرار لبنان بات مرتبطًا باستقرار سورية، وأصبحت ضغوط لعبة القط والفأر، بين إيران، بسبب توريدها للأسلحة إلى سورية ولحزب الله وللحوثيين، وبين إسرائيل التي تقصف مواقع تخزين وتصنيع هذه المواد في سوريا، أصبحت غير محتملة، وتصل إسرائيل إلى قناعة بأن ذهاب الأسد هو السبيل الوحيد لوضع حدّ لهذه اللعبة المتعبة. ستؤيد الولايات المتحدة هذا الحل، وستضغط لتنفيذه كما هو، وستعمل لمنع سيطرة قوى الإسلام السياسي عليه، وسيفتح هذا السيناريو الطريق لإبرام اتفاق سلام مع إسرائيل قائم على "الأرض مقابل السلام"، وقيام علاقات طبيعية.

كما تصل القوى الإقليمية والدولية إلى قناعة واسعة، بأن الأزمة السورية لن تُحَل بدون الانتقال إلى نظام سياسي جديد، وقيام سلطة وطنية جديدة، وتصل روسيا ذاتها إلى تلك القناعة، بأن تغيير النظام بات ضرورة، وأن استمراره يشكل عبئًا عليها، مع توفر إمكانية الحفاظ على مصالحها في حال رحيله (النظام الجديد يحافظ على مصالح روسيا في سوريا)، ومن ثمّ تضغط روسيا على إيران لقبول هذا البرنامج (يتضمن البرنامج علاقات طبيعية بين إيران والسلطة السورية الجديدة)، واحتمال أن تخلق أجواء انتهاء الحرب في أوكرانيا خلال عامين تقريبًا، على نحو توافقي بين روسيا والغرب، مناخات تسمح بالتوافق بين اللاعبين على حلٍّ في سوريا، ويشجّع تشكّل تنظيم سياسي سوري كبير وواسع، بتوجّه ديمقراطي اجتماعي يمتلك قابلية للشراكة في السلطة كطرف فاعل يكسب احترام الدول الغربية، يشجّع الفاعلين على التوافق على رحيل الأسد ونظامه، ويترجم كل ذلك بوصول الفاعلين الرئيسيين في الحرب السورية (تركيا، روسيا، أميركا، إيران، دول مجلس التعاون) إلى تبنّي مشروع الانتقال السياسي في سوريا، مبنيّ على مرحلة انتقالية مدتها 3 سنوات، لضمان انتقال سياسي منظم للسلطة.

3.4- آثار السيناريو الرابع وتداعياته:

ستختفي سلطات الأمر الواقع، تذوب أو تندمج ضمن مؤسسات الدولة السورية متكيّفة معها، وسينتهي نظام البعث الأسد كليًا، وستكون شخصيات منه ممثلة في السلطة الجديدة بصفاتهم الشخصية، كما ستكون أطراف من المعارضة شريكة في السلطة الجديدة بصفاتها الشخصية، وستنتهي قوات (PYD)، وستكون المنطقة ممثلة بشخصيات اجتماعية وسياسية منها، وسيتراجع تأثير قوى الإسلام السياسي الراديكالي.

ستعود سيطرة السلطة الجديدة على الأراضي السورية كافة، وسيعود تأهيل مشروعية الدولة السورية، وستعود مختلف مؤسسات الدولة إلى الظهور في كل مناطق سورية (مؤسسات الأحوال المدنية، مؤسسات توثيق المعاملات، مؤسسات تنظيم الاقتصاد والإنتاج والتجارة، مؤسسات الأمن، مؤسسات القضاء، وغيرها)، وستنشأ إدارة محلية تمثل المجتمع المحلي، تتمتع بصلاحيات أوسع من السابق وتوازن بين المركز والمناطق، ويكون لمناطق الغالبية الكردية في شمال سورية نوعٌ من الحكم الذاتي، كما سيكون لمناطق السيطرة التركية حوكمة خاصة، وفق اتفاق المصالحة الممكن إبرامه. سيتم الحفاظ على مؤسستي الجيش والأمن وحيادهما تجاه السياسة، مع إعادة هيكلتها، ويتم حصر السلاح بيد الدولة، ويتم حل الميليشيات المحلية الموالية والمعارضة، ويندمج جزء من أفرادها في الجيش والشرطة، وسيطلب إلى الميليشيات الأجنبية مغادرة سورية مع جميع عناصرها.

ستُوجّه الجهود بقوة أكبر نحو مكافحة داعش في البادية السورية، وكسب العشائر المقيمة في البادية لمكافحة وجود (داعش)، ويُلغى قانون مكافحة الإرهاب، وتُلغى محاكمه والأحكام السابقة مع كل أحكام الحجز والمصادرة التي شملت ممتلكات المعارضين، ويصدر عفو عام واسع، يلغي كافة الأحكام والإجراءات التعسفية التي اتخذها النظام، ويظهر المصير المجهول لعشرات آلاف المعتقلين والمغيبين قسرًا، وسيتم الإفراج عمن بقي حيًا في السجون، وسيتوقف إنتاج الكبتاغون وتصديره. وستُبدي بعض قوى الأمر الواقع، من فصائل المعارضة والمجموعات الجهادية التي لها مصالح في استمرار اللا حل، معارضةً لهذا الحل، مما يخلق بعض التعقيدات، وهذا يتطلب وجود جيش مركزي قوي يستطيع التغلب على مقاومتها.

ستتراجع سيطرة إيران في سوريا، ولكنها لن تختفي، ولكن ستسحب قواتها وميليشياتها، وسيتراجع دور روسيا في التأثير على السلطة السورية، وستحتفظ بقاعدتها العسكرية في طرطوس، وستبقى مصدر تسليح الجيش السوري، وتحافظ سورية على علاقات جيدة معها، ويتم إبرام اتفاقية تجاره حرة مع روسيا، وستربح تركيا انتهاء تهديد أمنها القومي، بعد انتهاء مشروع (PKK) في شرق الفرات، وستربح فتح طريق تجارتها مع الدول العربية عبر الأرض السورية، وخاصة مع دول مجلس التعاون، وسينعكس السيناريو على أوروبا إيجابًا، بسبب تراجع الهجرات من سورية، وعودة بعض من لجؤوا إليها، وسينتهي تصدير الكبتاغون إليها.

ستنطلق عمليات المصالحة المجتمعية، وستبدأ لحمة المجتمع السوري بالتعافي التدريجي، بحسب تقدم برنامج المصالحة المجتمعية، وستبدأ المظاهر الاجتماعية السلبية التي أفرزتها الحرب بالتراجع، وستبدأ جموع النازحين واللاجئين بالعودة إلى منازلهم بالتدريج، بحسب تقدّم تنفيذ خطوات الاتفاق، وبحسب تقدم عمليات إعادة الإعمار المادي، وبحسب تقدّم عمليات المصالحة المجتمعية، وستتراجع موجات هجرة الشباب السوري باتجاه دول الجوار أو باتجاه أوروبا، وستبدأ المظاهر المجتمعية بالتحسن تدريجيًا.

وستبدأ الآثار الاقتصادية والمعيشية بالتحسّن، وستحظى السلطة الجديدة بمساعدات خليجية وأوروبية وأميركية وأممية، وستحقق الخزينة المركزية موارد مالية، من خلال إعادة سيطرتها على موارد النفط وعلى موارد الضرائب التي سترتفع مع تحسّن أداء الاقتصاد الوطني، وسيُعقد مؤتمر لإعادة إعمار سورية، وستنطلق إعادة الإعمار المادي والمجتمعي بقوة، وستستمر المساعدات الإغاثية بعض الوقت، ثم سيتم الاستغناء عنها بالتدريج، وستبدأ عملية إطلاق الاقتصاد السوري، وسيبدأ الاقتصاد بالتعافي، وستبدأ المناطق بالانتعاش، وستجتذب سورية الاستثمارات، وتتحسن الخدمات بالتدريج، مثل التعليم وخدمات الطبابة والمياه النظيفة وغيرها، وستسهم في تحسين شروط المعيشة، وستتوقف سورية عن إنتاج الكبتاغون وتصديره إلى الدول القريبة والبعيدة.

4.4- توقّع تحقق السيناريو الرابع:

بسبب صعوبات عدة تعترض طريق هذا السيناريو، فإنّ احتمال تحققه في السنوات القادمة ما زال ضعيفًا، ويمكن أن تظهر مثل هذه الإمكانية بعد 5 – 7 سنوات.

خاتمة

ثمّة مغامرةٌ في وضع سيناريوهات المستقبل، فمستقبل سورية، وقد باتت تغصّ بعدد من الجيوش والميليشيات الأجنبية على أرضها، بات مرتبطًا بالصراعات والمنافسات الإقليمية، وبالصراعات الدولية أيضًا. وهذا ما يجعل المهمّة صعبة؛ فالسيناريو الأول هو وصف لواقع، وفرضياته سهلة، وهي استمرار الظروف والشروط السائدة اليوم التي نعرفها جيدًا، ويمكن قراءة تأثيرات استمراره، ولكن السؤال: إلى متى سيبقى هذا السيناريو؟ هو رهن بالمستقبل الغامض.

لم يكن من السهل رسم سيناريوهات المستقبل، ولكن الوضع القائم لن يستمرّ سنوات طويلة في منطقة متفجرة، وقد بنينا السيناريو الثاني على واقعتين ملموستين: الأولى هي المبادرة العربية "خطوة خطوة" التي تلقى ترحيبًا من دول الغرب، والثانية هي مصالح تركيا في مثل هذا السيناريو، وهي لاعب رئيس، حيث تملك سيطرةً على مناطق شمال غرب سورية، ولها قواعد عسكرية عديدة في المنطقة، ولها علاقات جيدة مع كل من روسيا وإيران من جهة، ومع الغرب من جهة أخرى. وقدّرنا أن احتمال حدوثه سيكون متوسطًا وضعيفًا، خلال 3 إلى 5 سنوات. أما السيناريو الثالث فهو قائم على فرضية قرار الإدارة الأميركية بالانسحاب من شرق الفرات دون التنسيق مع أحد، وهو احتمال كاد يحدث في سنة 2019، وقدرنا أن احتماله متوسط، أما السيناريو الرابع، فقد بنيناه على فرض أن عوامل كثيرة داخلية وإقليمية ودولية يمكن أن تتغير باتجاهٍ يجعل الانتقال السياسي إلى نظام سياسي جديد كليًا في سوريا أمرًا لا يمكن تجنبه، ولكننا قدّرنا أن احتمال حدوثة ضعيف.

 


[1] ) يعود عمق العلاقات بين نظامي الأسد في سوريا وسلطة الجمهورية الإسلامية الى الأيام الأولى لسيطرة الخميني على السلطة، فقد سارع الطرفان لتمتين علاقتهما، ولم يطل الزمن حتى اتخذ حافظ أسد موقفًا مؤيدًا لإيران في حربه ضد العراق الشقيق الذي يحكمه الجزء الآخر من ذات حزب البعث. ولكن بقي حافظ أسد حذرًا في تغلغل نفوذ إيران داخل سوريا، فقد أراد أن يلعب دور الوسيط بين إيران والسعودية، التي كان على علاقة حسنة معها. مع استلام بشار الأسد السلطة في سوريا، وراثة عن والده بدأ نفوذ إيران يتضح أكثر، ولكن بقي ضمن حدود غير واسعة.