icon
التغطية الحية

مسرح اليوتوبيا المفقودة وواقع اللجوء والحضيض الأخلاقي

2023.09.15 | 08:46 دمشق

البغل
من مسرحية البغل (تصوير جلال الدين الجبري)
+A
حجم الخط
-A

إنه العالم السفلي- المهمش الذي يحضر في تاريخ المسرح باستمرار من (الحضيض، مكسيم غوركي، 1902)، إلى المكان المجهول والمهمش (في انتظار غودو، بيكيت، 1953)، إلى المكان الطبقي للفئات العمالية والخدم في نصوص (هارولد بينتر)، إلى الفئات المهاجرة القاطنة أسفل الجسور والعمارات في (المهاجران، سلافومير ميروجيك، 1974) يحقق استمراريته في العرض المسرحي (البغل، دراماتورج كفاح زيني، إخراج أنس يونس، 2023) ليصبح هذا المكان غرفة مستأجرة في العالم السفلي في بيروت، حيث لاجئان سوريان يعيشان تجربة اللجوء بين الإنساني والسياسي والاقتصادي، وليعكس واقع الفئات السورية المهمشة، في حالة اللجوء وفي حالة الانتظار في لبنان.

تمتلك الفرضية الأولية للحكاية تلك الإمكانات التي تفتح احتمالات العمل المسرحي على موضوعات: اللجوء، الهامشية، البطل- والضد بطل، والانتظار الذي يقارب الانتظار في المسرح العبثي. لكن الحدث والحوار المسرحي، يرسمان مسار العرض باتجاه السلوك أو التواصل اليومي بين شابين سوريين يعيشان في أمتار قليلة كل أسئلة الماضي، الحاضر، والمستقبل بين احتمالات اليأس والأمل.

يكتب (ربيع شامي) في توصيف المسرحية: "ينطلق على خشبة في غرفة صغيرة يتقاسمها شابان. على الجدران رموز لأبطال الكاراتيه، وفي الغرفة شاب يلبس ثوب "باتمان" أو الرجل الوطواط، يدرب زميله على ان تكون له حكاية مؤثرة، يقنع فيها احدى السفارات باللجوء إليها. الشاب السوري الذي وصل بيروت قبل أشهر ويعمل مع احدى المنظمات الإنسانية كمتطوّع، يكشف حالة مضطهدة في أحد مخيمات اللجوء بانتظار راتب مغر بالدولار الأميركي. والآخر يرتدي "باتمان" في احتفالات المولات التجارية وأعياد الأطفال ليقنعهم بأنه البطل الحقيقي وينال إكرامية من أهالي الأطفال. شابان عالقان يتقاسمان غرفة صغيرة في مدينة منهارة. يثرثران ويتبادلان الطموح والشتائم من دون القدرة على أي حركة في هذا الجمود، ولا حتى على قتل فأرة يُهيأ لهما أنها دخلت غرفتهما الصغيرة".

تمت كتابة المسرحية من خلال البروفات والعمل الدراماتورجي، لذلك هي تحمل الخصوصيات الراهنة، أي في العام 2023، لموضوعة الوجود واللجوء السوري بين لبنان وأوروبا، ولذلك تنطلق المسرحية بمشهد يتمرن فيه (سلام وأحمد) على لقاء المخصص للاجئين في منظمة الهجرة للأمم المتحدة:

"سلام: شو أعمل.

أحمد: بدك تنتبه على حركاتك من أول ما تفوت لعندن. أو إذا بدك حتى وأنت ناطر برا. يعني يمكن يشلفوك ساعتين. أنت بهالوقت بدك تعرف أنن شالفينك مشان يراقبوك. دير بالك تتحرش بحدا.

يخرج سلام بينما يجلس أحمد مكانه. يعاود سلام الدخول بذات الطريقة". 

إن هذا التمرين على اللقاء مع مكتب الهجرة، يكشف في الآن عينه، حكاية النزوح واللجوء السوري، وبالتالي ماضي الشخصيات، وأوضاعها الإدارية والوجدانية والذهنية، حيث تصبح الهوية تائهة بين بلد الأصل، وبين بلد الإنتظار، وبين بلدء اللجوء:

"أحمد: حلو هالحكي... من وين جاي يا سلام؟

سلام: من الأشرفية.

أحمد: من وين جاي من سوريا يا ابني؟

سلام: من الشام. من جرمانا.

أحمد: ليش لتطلع كذاب من أول القعدة؟

سلام: شو حكيت؟!

أحمد: جرمانا غير الشام. أنت من الريف مو من الشام. أنت قروي.

سلام: ليش هنن بيعرفوا الشام وجرمانا ودف الشوك؟

أحمد: أوف طبعاً. بيعرفو كلشي. خرايط موجود. جواسيس موجود. ناس طالعة وناس فايتة موجود. غوغل موجود..... هات هويتك".

اللاجئ المهمش في البحث عن بطولة حكاية

إن فرضية التحقيق تحول الحوار المسرحي إلى التنافسية بين شخصيتين تتقاسمان الواقع المنهك والمهمش، لكن تواصلهما مبني على محاولات التذاكي، السيطرة، والتحذلق. يكتب (باتريس بافي) عن مفهوم التنافسية في المسرح: " كان عام، كانت تقام في اليونان القديمة مسابقات للرياضيين وللفنانين. كما كانت تقام منافسات بين الجوقات، وبين المؤلفين، وبين الممثلين. ومع أريستوفان في الكوميديا اليونانية، كانت المنافسة وهي الحوار والنزاع بين الخصوم تشكل لب المسرحية. المنافسة أو المبدأ التنافسي يسم علاقة الصراع بين أبطال الرواية، الذي كانوا يتواجهون في جدلية الخطاب والرد عليه. وكل واحد منهم يشارك بشكل شامل في مناظرة حيث يفرض سمته الخاصة على البنية الدرامية، وهو ما يشكل النزاع. حتى إن بعض المنظرين يجعلون من الحوار رمزاً للصراع الدرامي، بل، للصراع المسرحي عموماً". وفي محاولة البحث عن حكاية اللاجئ، يجري الحوار المسرحي في تقليد لمقابلات مكاتب اللجوء، يسأل سلام: "هل أنت منشق عسكري؟ هل أنت مع داعش؟ هل أنت مهدد" ويقارب النص المسرحي بين لقاءات اللجوء وبين التحقيقات الأمنية:

"أحمد: وليش شرفت على لبنان؟

سلام:  هربان من العسكرية.

أحمد: أنت منشق؟

سلام: ما خدمت لسا لانشق. أنا بس ما بدي أخدم.

أحمد: خلينا نكمل المقابلة.  شو علاقتك بداعش؟

أحمد: أنت بتعتبر حالك مهدد؟؟

سلام: ايه المفروض.

أحمد: مين عم يهددك؟ الحزب؟

سلام: لأ.

أحمد: المو حزب؟

سلام: لأ.

أحمد: النظام

سلام: لأ بصراحة.

أحمد: مين عم يهددك يا كلب معناها؟

يقف سلام.

سلام: حاسس حالي معتقل بالأمن العسكري. شو هالتخبيص هاي مانها مقابلة بمنظمة الأمم المتحدة.

أحمد: أول شي مين قلك أنن ما نفس الشي. مين قلك أنو ما بيشبهوا المخابرات عنا؟ ".

الأدوار التنكرية للبطل الضد

تحضر موضوعة البطل في الزمن الهامشي أو ما أطلق عليه ضد البطل، فالبحث جاري عن حكاية تجعل من حياة (سلام) بطولية الانشقاق العسكري، التطرف الديني، الضحية، لكن أياً منها لا تنطبق على شخصية لا تحمل من البطولية إلا الانتظار المستمر في عبث تغيير مصيرها، بالمقابل تحضر رمزية البطل الضد في شخصية (أحمد) بشكل جلي في حكايته مهنته، مهرج يرتدي ملابس البطل (باتمان) ليضحك الأطفال في حفلات عيد الميلاد:

"أحمد: رح صير كل عطلة انزل اتمشى فيهن عالبحر. رح صير أعمل هاد الشي عرض اكسترا للناس. يعني بدك ابنك يضل مصدق اني باتمان هات عشرين دولار زيادة مشان ما غير تيابي".

يكتب (باتريس بافي) تحت عنوان (النمو المتصاعد للبطل): "التاريخ الأدبي ليس إلا سلسلة من عمليات تخريج تصنيفي متتالية للأبطال، فالتراجيديا الكلاسيكية تقدم البطل في عزلته المذهلة، والدراما البرجوازية تقدم فيما بعد تجسيداً للطبقة البرجوازية التي تحاول تغليب القيم الفردية العائدة إلى الطبرقة المذكورة. فالطبيعية والواقعية في الحقيقة تشيران إلى بطل مثير للشفقة وساقط وأصبخ فريسة الحتمية الإجتماعية. والمسرح العبثي يتمم سقوطه من إخلال إظهاره كإنسان مشوش وخال من أي طموح. وقد سبق لبريخت أن وقع حكم الإعدام بهذا البطل عندما تنازل عن تمثيله لمصلحة ما هو جماعي. بريخت، 1967: "لن نفهم الأحداث الحاسمة في زمننا من زاوية الأفراد، وهذه الأحداث لا يمكن أن تتأثر بالشخصيات الفردية". البطل المعاصر لم يعد يملك القوة للتأثير في الأحداث، ولا يملك وجهة نظر بالنسبة للواقع. فقد تناول عن دوره لمصلحة المجموعة المنظمة وغير المتبلورة. دورنمات: يجب أن تتنازل الشخصية الفردية عن وظيفتها لمصلحة المجموعات الكبرى".

مفاهيم مثل (جيل في شرط سياسي واجتماعي فاسد، السكون في اللاجدوى، الأنانية والسعي إلى الخلاص الفردي) تجمع بين الشخصيتين في مسرحية (البغل) وبين رواية (بطل من زماننا، ميخائيل ليرمانتوف) التي يكتب عنها (فؤاد المرعي): "في ظروف تفرض أن يكون الجهر بالحقيقة كاملة يتطلب شجاعة تفوق الوصف كشجاعة ليرمانتوف الذي صور في أشعاره حقيقة أبناء جيله الذين قتل الاستبداد القيصري آمالهم فتخلوا عن النضال من أجل الحرية، وقدم صورة صادقة لإنسان عصره في روايته (بطل هذا الزمان)، حيث جسد في بطلها (بيتشورين) عيوب الجيل موضحاً أنها نتاج نظام اجتماعي فاسد، ومظهراً في الوقت نفسه، الأثر المدمر للأنانية والسعي إلى الخلاص الفردي الذي يقود حتى أصحاب العقول النيرة والقدرات الروحية المتميز كبيتشورين، إلى فهم خاطئ وهش للناس والحياة. يدون بيتشورين في مذكراته: "لقد سحقت الظروف طموحي"، ويدرك القارئ دون عناء كبير أنه يقصد بالظروف "المنفى". وحين يكتب في مذكراته: "نحن عاجزون عن تقديم التضحيات الظيمة من أجل خير الإنسانية"، يفهم القارئ أنه يعني بخير الإنسانية، الحرية. لقد استنزف بطل هذا الزمان في صراعه العقيم مع نفسه حرارة الروح وثبات الإرادة. وصار يحتقر نفسه مستنكراً أن يكون دوره الوحيد في هذا العالم هو تدمير أحلام الآخرين، ويلعب دور البلطة في يد القدر، لا لشيء سوى أنه لا يعرف كيف يروي ظمأه إلى الحياة الحقيقية. ويكتب بيلينسكي عن ليرمانتوف: "إنه حالة انتقالية للروح، حيث الماضي كله قد أنهار، والجديد لم يظهر بعد، حيث يكون الإنسان مجرد إمكانية لشيء ما حقيقي في المستقبل، مجرد شبح في الزمن الحاضر".

مصائر اليأس الحالم والانتظار القابع في العبث

تتحرك المسرحية في المشهد الثالث والأخير إلى المصائر النهائية للشخصيات، حصل (سلام) على فرصة الانتقال لعيش شرط اللجوء في أوروبا، وهي موضوعة تناقش بتهكم في أحداث المسرحية: "أحمد مفكر بأوربا رح يسكنوك ببرج ايفل... بدك تنشلف متل الكلب جوات هنغارات ويحطوك مع الجرادين والفيران ويقلولكن اندمجوا. و700 يورو يلي رح تاخدها بدك تصرفها على المخدرات لتنسى الوسخ يلي عايش في". بينما يبقى (أحمد) غارقاً في شرط الواقع السوري في لبنان، محاولاً أن يصنع من حياته حكاية بطولة، بإبتكار الحكايات المتعلقة بأغراض مكان السكن: "بتذكر كانت الدنيا ولعانة على الفيسبوك. وقتها فاتوا على الغوطة إذا بتتذكر. كنت نايم على فرشة الكلب. ماسك الموبايل وعم اتفرج على البشر وهنن عم يركبوا الباصات الخضر وعلى ادلب. رحت بنفس اليوم اشتريت فرشة سليب كومفرت".

يتنوع حضور المكان كمحور أساسي في النص والعرض المسرحي، الوطن، لبنان، بيروت، الشقة، مساحات الخصوصية والعلاقات المشتركة، كلها تيمات تعبر في حوادث المسرحية، والمشهد الأخير يحمل قصة الانتقال من المكان، وبالأدق إنهاء العلاقة بالمكان، وبين التوضيب للرحيل، والأثر الحكائي للأغراض، تحمل الأشياء التي تشكل السينوغرافيا المسرحية كل منها حكاية، لكن الغرض المركزي الذي سيشكل قراءة جديدة لشخصيتي المسرحية، وبالتالي لتأوليها الكلي، هو موضوع تعبير كان قد كتبه (أحمد) في طفولته، ويعثر عليه في مغلف الأوراق والذكريات الخاصة به، لينتهي العرض والنص المسرحي بقراءة موضوع التعبير القادم من ذكريات الطفولة حيث تكشف عن رؤية مثالية، شخصية تقارب في أمنياتها اليوتوبيا الإنسانية المفقودة، والتي يؤدي فقدانها إلى الواقع الذي نعيشه، والذي ترويه المسرحية في الحضيض الأخلاقي. في الفقرة التالية، يكشف نص موضوع التعبير المسرحي عن الإنكسار لإنسان حالم مثالي: "أتمنى  أن يكون الطقس لا ساخنا ولا باردا. و أن تحدث عاصفة أحياناً. نقرفص كلنا كي نحتمي منها. السيارات اختفت من الشوارع. البيوت ستكون كلها فوقها مثلثات حمراء. الجميع سيكون يعرف كل شيء، ولن يحتاج أحد لتعلم شيء. نعيش كلنا في بناء واحد. السيارات تبقى مفتوحة في الشوارع ويمكن أن نستلقي فيها عندما نتعب من اللعب، ولكن أبدا لن يكون أحد متعبا، والسيارات لا تخص أحداً وليس لها صاحب. في المساء نبقى واقفين في الشارع نلهو، وننام حيث نحن. السماء لا تمطر إطلاقا".