مدنية سورية: سؤال الفاعلية والحقوق المادية والفكر التنويري

2023.06.11 | 05:30 دمشق

مدنية سورية: سؤال الفاعلية والحقوق المادية والفكر التنويري
+A
حجم الخط
-A

يقوم المجتمع المدني على خلاصة فكرية تنويرية، ومنظمات ومؤسسات مدنية مستقلة عن النظم السياسية الحاكمة، وفق برامج وأنشطة تطوعية تستهدف مصالح مجتمعية عامة وقيماً وحقوقاً مدنية ذات أهداف مشتركة. وتشمل هذه الأنشطة المتنوعة الغاية التي ينخرط فيها المجتمع المدني في تمكين أفكاره وقيمه التحررية من دعم التعليم المستقل وحرية التفكير والانتماء وبناء المؤسسات والمنظمات المستقلة عن التوجهات السياسية. وأيضًا التأثير على السياسات العامة من خارج دائرة العمل الحكومي الرسمي (سلطة ومعارضة) وممارسة الضغوط بشأنها، أو تعزيزها، ما يحمل على التضامن والتوافق على الفعل العام خاصة في مرحلة التغيرات العامة كما هي في الحالة السورية الراهنة.

الفعل المدني وفقًا لهذه الرؤية يختلف جذريًا عن التنافس السلبي وتنازع الشرعيات السياسية على السلطة ودوام استنزافها وهدرها للحقوق العامة أمام تحصيل حقوق ممثليهم دون غيرهم كما يحدث في سوريا لليوم. ما يحيل بالضرورة للعمل المحوري في تفعيل المجتمع المدني وتكامل أطر عمله التوافقية حسب مقتضيات الشأن العام التي تمثله كل مرحلة زمنية من عمر المجتمعات.

تعرض الفعل المدني لجملة من الضغوط العنيفة القاسية سواء من السلطات الأمنية أو سلطات الأمر الواقع في كل نطاق الجغرافية السورية، أضف لخضوع غالبية نشاطاته لسياسات الدول المانحة

في الحالة السورية، والتي لم يزل المجتمع المدني فيها يحاول إثبات حضوره على ساحة الفعل المجتمعي ومشاهد تغيراته الجسام، تعرض الفعل المدني لجملة من الضغوط العنيفة القاسية سواء من السلطات الأمنية أو سلطات الأمر الواقع في كل نطاق الجغرافية السورية، أضف لخضوع غالبية نشاطاته لسياسات الدول المانحة. الأمر الذي جعله عرضة للاستهداف من كل الأطراف كونه يمثل خطرًا على السلطات القائمة بفعله المدني المغاير للأيديولوجيات السياسية والدينية وشرعياتها السياسية والعسكرية، كما وتهمة التمويل الخارجي تلاحق ناشطيه. فيما بقيت محاولات تمكينه من الفاعلية والقدرة على ممارسة فعله المختلف عن الهيمنة وتكريس ثقافات الاستحواذ السلطوية والسياسية المطلقة لليوم، محط تساؤل سياسي وفكري بآن لم يحسم جدله في الشأن السوري.

تجربة المجتمع المدني السوري مرت بمراحل متعددة، بدءًا من تجربة إحياء المجتمع المدني بدايات العام 2000، مرورًا بتشكيل منظمات العمل المدني السورية السرية قبل عام 2011 وأهمها الحقوقية الإنسانية، وتزايد تشكيلاتها ما بعد عام 2011 ومحاولة تشكيل تحالفاتها وفق مسارات متعددة كتجربة تحالف المجتمع المدني السوري (تماس) عام 2014، واجتماع منظمات المجتمع المدني السوري والمنصة المدنية السورية عام 2015 وغيرها الكثير، والتي لم تدم طويلًا لتعرضها للاستثمار السياسي والنفعي حسب تقارير متعددة المصادر.

في هذا السياق لطالما كانت تجارب المجتمع المدني السوري محط نقد إيجابي أو سلبي، كان أهم عناوينها التي تم تناولها في دراسات سابقة عدة:

  • شروط المدنية في التنوع والتعدد وتجاوز اختلاف الأعراق والإثنيات والأيديولوجيات.
  • الاستقلالية عن الاستقطاب الأيديولوجي سياسيًا ونفيعًا ودينيًا.
  • التوافق والحوار وصياغة الأهداف المشتركة والاستهداف المستقبلي.
  • الشفافية والعلنية.
  • الإنجاز المرحلي والفاعلية التدريجية ومعايير الاستدامة.
  • القدرة والتمكين والتأهيل المعرفي والتقني.

إذ تعزز هذه العوامل معايير نجاح العمل المدني وديمومته واستمراره. والتي طالما جرى الحوار حول آلياتها وطرقها وإمكانية تعزيز فعاليتها من خلال توافق وتكامل جهود مكونات أو فئات ثلاث: رجال الاقتصاد السوري، مجموعات ومنظمات العمل المدني، والنخب الفكرية السورية، وجميع هؤلاء يتصفون بمقولة "رجال الدولة المؤسسين" لا تغريهم السلطة أيديولوجيًا أو نفعيًا، ولا مكتسبات المرحلة سياسيًا أو سلطويًا، بقدر السعي الحثيث لتكوين وتأسيس أرضية العمل المدني القادرة على تحقيق فعاليتها في الشأن السوري العام اليوم ومستقبلًا. هو عمل يقوم على تفعيل العمل بالشأن العام بوصفه عملا فكريا وأخلاقيا وتنويريا، وعملا في مصلحة الكل المجتمعي، يحمل بين طياته عناوين واضحة للقيم والأفكار التحررية والتنويرية وكيفية الوصول للحقوق العامة المادية والفكرية والتحررية.

العمل المدني وفقًا لهذه الرؤية هو عمل بالسياسة كشأن عام، كما عرفتها الثقافة اليونانية والمشتقة من الكلمة اليونانية "Res- publica"، أي الجمهورية، وفق ثلاثية: الحقوق المادية كمصالح عامة، والحقوق المدنية كمواطنين، والأخلاق والقيم الفكرية التنويرية بآن. وأي انفكاك بين أواصرها هو عمل في الشأن الخاص أيديولوجيًا أو نفعيًا أو سياسيًا لا يستهدف إلا أصحاب مصلحته أحزابًا أو مجموعات عمل سياسية أو أيديولوجية تتطلع لمصالحها الانتخابية أو السلطوية وحسب.

من المبكر الحكم على تجربة "مدنية سورية" لكن مؤشراتها الإيجابية تحمل معايير واضحة للعمل في الشأن العام السوري، متجاوزة مغريات السياسة المرحلية الضيقة

التأسيس اليوم لـ "مدنية سورية"، والذي عقدت مؤتمرها التأسيسي في باريس يومي 5 و6 حزيران، تحمل بين طياتها نويّات عمل مدني واسع الطيف، و"تمثل قرار فاعلين مدنيين سوريين بممارسة أحقيتهم السياسية بأن يكونوا أصحاب إرادة وقرار مستقل فيما يتعلق بمستقبل بدلهم". "مؤكدين العمل المدني واستحقاقات تجاوزه للعمل الخدمي لفعل مدني سياسي، يمارس الضغط لتفعيل الحل السوري وفقًا للقرارات الدولية 2118 و2245"، حسبما ورد في بيان المنصة الختامي. هو طيف واسع من الإمكانيات السورية التي تستهدف العمل المدني وفق القيم والحقوق المدنية والفاعلية المادية الاقتصادية والسياسية، والمتفقة فيما بينها على أنها ليست بديلًا عن أي مكون سياسي سوري، ومستمرة بحشد كافة المكونات المدنية السورية داخلًا وخارجًا وفقًا لهذه الأهداف والتوجهات.

من المبكر الحكم على تجربة "مدنية سورية" لكن مؤشراتها الإيجابية تحمل معايير واضحة للعمل في الشأن العام السوري، متجاوزة مغريات السياسة المرحلية الضيقة، وتلاقي استحقاقات المرحلية الدولية ومبادراتها العربية تجاه الملف السوري، معتبرة أن الحل السوري شأن سوري أولًا، وهذا استحقاق يجب تفعيله. ما يطرح على عاتق الفاعلين والمؤسسين، رجال أعمال ونخباً سياسية، وشباباً ومنظمات مدنية عددها يفوق الـ 150، جملة من التحديات المرحلية تتكثف خلاصتها بـ:

  • فتح الحوار الشاق والطويل مع البنى المجتمعية الأهلية والدينية.
  • التوافق على الحل السوري بآليات عمله المتوازية المدنية والسياسية، والتمسك بالحقوق المدنية والسياسية السورية العامة في العدالة والحرية ودولة المواطنة والتضامن حولها في فعل مجتمعي يتبنى الحل السوري وفق مرجعية القرارات الدولية المنصفة للشعب السوري وطرق تفعيله محليًا ودوليًا.
  • تنعيم الحواف الحادة بين التوجهات المتضاربة للشرعيات الثورية المولدة للفوضى والتشتت، وتحكيم المصلحة العامة بعيدًا عن مغريات المكاسب الآنية السياسية والنفعية على حساب الأهداف العامة المتمثلة بتحقق المجتمع المدني في ظل دولة سيادة القانون والحقوق.
  • العمل الشاق على مأسسة العمل المدني واستحقاق حضوره القانوني، واستعادة زمام المبادرة للدور المنوط بحركة التنوير المدنية.
  • إيلاء دور حيوي للنخب الفكرية الثقافية السورية وتكامل فعلها المحوري في الحركة المجتمعية والثقافية المتوافقة على هوية المواطنة السورية والتعدد الثقافي وحرية الإيمان والمسؤولية القيمية والأخلاقية.

فهل يمكن لـ"مدنية سورية" أن تعكس تيار التشتت السائد في الساحة المدنية السورية وتنافسه السلبي، إلى تيار فاعل سوري واسع الطيف قادر على أن يمثل رافعة محورية للهوية الوطنية السورية؟ سؤال يحمل بين طياته إجابة أولى في التوجه السوري العام الذي يريده الشباب على تنوع أفكاره وأحلامه، والنخب الفكرية السورية، ورجال الاقتصاد السوري، ومكنونات هذا الشعب الذي لم يتوانَ عن سعيه للعدالة والإنصاف والحرية. هو سؤال المسؤولية والفاعلية والجدارة والاستحقاق، وليس فقط، بل سؤال الوطنية المجردة عن هوى السلطة ومغرياتها، وطرق العمل المتوازية المدنية والسياسية والمجتمعية والفكرية، سؤال حال السوريين داخلًا وفي كل شتات المعمورة.