icon
التغطية الحية

محمد علي العابد.. أول رئيس لسوريا مات كئيباً ومنسياً

2023.07.14 | 15:44 دمشق

هاشم الأتاسي يلقي خطاب القسم في البرلمان
هاشم الأتاسي يلقي خطاب القسم في البرلمان
تلفزيون سوريا ـ بثنية الخليل
+A
حجم الخط
-A

كان محمد علي العابد أحد أغنى أثرياء سوريا، وقد يكون أغناهم على الإطلاق، وهو أول من سمي رئيس الجمهورية السورية (1932 - 1936) وأول زعيم ينتخب من الشعب ولم يعين من قبل الانتداب الفرنسي، لقب بالأمير، وولد في دمشق عام 1867 وعاش في العديد من المدن والدول، وتوفي في روما عام 1939.

نسي السوريون العابد سريعاً عقب وفاته، ولم تبد الصحافة السورية آنذاك اهتماماً برحيل أول رئيس للجمهورية، وحصرت ذكراه في تسمية شارع البرلمان باسم شارع "العابد" تكريما له، وجعلت له طابعا بريديا يحمل رسمه أُقر رسميا خلال وجود العابد نفسه في الحكم، ولم يذكر أول رئيس للجمهورية السورية في أي عيد وطني، ولم يذكر في أي كتاب تاريخ مدرسي سوري.

“كما يكون الأب يكون الولد" هكذا يقول المثل، لكن محمد علي العابد لم يكن مثل أبيه أحمد عزت العابد الرجل الاستثنائي المقرب من السلطان العثماني منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر.

والده أحمد عزت العابد أحد أهم الشخصيات السياسية في التاريخ السوري، حيث شكلت علاقته بوالده مفتاح فهم شخصيته وقراراته السياسية.

فالجو الذي عاشه محمد علي العابد في طفولته ساهم في تشكيل قيمه ومبادئه، وفي رؤيته للعالم وفي طموحاته السياسية. لكن حرمان محمد علي في طفولته من والده، المشغول بالسياسة، والبعيد عنه في كثير من الأوقات، أثر أكثر في تشكيل شخصيته وفي خياراته.

العلاقة بين الأب أحمد عزت العابد والابن محمد علي العابد، لم تكن على ما يرام، أو على الأقل لم تكن مثل أي علاقة بين أب وابنه، حيث لم يكن الأب يعطي الوقت الكافي لتربية أولاده، والاهتمام بأسرته. وكان محمد علي يشعر أنه محروم من والده، الشخصية الشهيرة، المؤثرة، التي يعرفها كل الناس، ويعجب بها الكثيرون، وتعطي كل وقتها تقريبا للناس.

كان الوالد أحمد عزت العابد رجل دولة مهما في بلاط السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في إسطنبول، وليس لديه الوقت لتربية ابنه بنفسه، لذا ترك رعايته لوالدته ولمربيات من جنسيات مختلفة، أوكرانيات ومصريات وسوريات.

الأمير الدمشقي

لم يكن محمد علي العابد أميراً، ومع ذلك لقب بالأمير، بسبب غنى عائلته الدمشقية، ومظاهر الأبهة التي تحيط بها، ومكانتها الاجتماعية والسياسية العالية. ولم يكن هذا اللقب يسعد محمد علي، وإنما يقيده، ويبعده عن رفاق طفولته، ويمنعه من أن يعيش طفولة طبيعية.

كان حلم محمد علي أن يلعب مع أطفال حارته خارج منزله، أو أن يشتري الحلوى من الباعة أو أن يجلس في المقاهي، ولكن هذا لم يكن ممكناً، لأنه محاط بالحراس المرافقين له بشكل دائم، ولأنه مجبر على أن يزن تصرفاته، ويظهر كأمير.

كان مطلوبا منه دوما أن يظهر بأبهى حلة، وأن يكون حديثه أكبر من سنه. لهذا قضى طفولة كئيبة، ورافقته هذه الكآبة طوال حياته حتى بعد أن أصبح حاكما لسوريا.

علاقة معقدة بين العابد الأب والابن

كانت علاقة محمد علي العابد بوالده معقدة، يحكمها الولاء المطلق والطاعة العمياء، والسمات المشتركة بينهما تكاد تكون معدومة. فمحمد علي كان يختلف عن والده بطباعه وصفاته النفسية، الأب كان جهوري الصوت، يحب الكلام والحركة والضجيج، يعشق الصيد والرماية والطبيعة، أما الابن فكان هادئا، يفضل المكوث في المنزل، ويحب القراءة.

حاول الأب أن يردم الهوة بينه وبين ابنه بعد أن خرجت العائلة من إسطنبول إبان نهاية حكم السلطان عبد الحميد الثاني عام 1909، وحاول أن يمضي أطول وقت ممكن مع ابنه ليعوضه عن غيابه في إسطنبول أيام الطفولة، وليزرع فيه صفات مختلفة عن التي اكتسبها من الخدم  والمربيات والمدرسين الأجانب.

وعندما أتم محمد علي دراسته الجامعية، التحق بالعمل الحكومي بأمر من أبيه ليعمل مستشارا قانونيا لوزارة العدل. واصل بعدها تولي المناصب السياسية حتى انتخب رئيساً للجمهورية السورية، وواصل التناقض في نفسه بين ميله للقراءة والأدب والأسرة، وبين رغبة والده في أن يخوض العمل القانوني والمعارك السياسية.

خطاب القسم ووعود للسوريين

هذا التناقض ظهر منذ أول عمل قام به محمد علي العابد كرئيس للجمهورية، فقد وعد السوريين في خطاب القسم يوم 11 حزيران 1932 بأن يبقى "صديقا للجميع" وأن يكون "أباً" لكل السوريين، وبدلا من التعهد بإنهاء الانتداب الفرنسي، وعد بأن يعمل معه وإلى جانبه شاكرا "لدولة فرنسا النبيلة" كل ما قدمته للسوريين.

وتباينت نظرة السوريين للخطاب، فبعضهم اعتبر العابد غير صادق بوعده ولا يملك الخبرة السياسية ولا الكفاءة ولا الحصافة اللازمة ليسير بالبلاد إلى بر الأمان. وبعضهم الآخر كان لهم رأي مخالف في رئيس سوريا الجديد، حيث وصفه رئيس مجمع اللغة العربية والشاعر خليل مردم بك بأنه "أعظم سياسي في سوريا".

أزمة بعد أول قرار للرئيس

وخلق تردد وتناقض شخصية محمد علي العابد أزمة سياسية مع أول قرار اتخذه. فقد عين معارضين وموالين لفرنسا في فريق عمله وحكومته، عين نجيب الأرمنازي أمينا عاما للرئاسة، وفاجأ الجميع بتعيين حقي العظم الموالي لفرنسا رئيسا للحكومة، وبذلك تشكل حكم ثلاثي الرؤوس غير متجانس سياسياً. كما طلب من جميل مردم بك ومظهر أرسلان أن يشاركا في الحكومة الجديدة.

رفضت الكتلة الوطنية التعينات متهمة العابد بتجاوز أكبر كتلة سياسية وسرقة رصيدها الوطني لتجميل حكمه التابع كليا لفرنسا، معتبرة أنه شخص ضعيف وغير جدير بالرئاسة السورية، وتوعدت بإسقاط حكومته.

وقام معارضو العابد من الكتلة الوطنية بزيارات إلى السعودية ومصر شاكين تجاوزات فرنسا وحلفائها ومنهم العابد، وقاطعوا مؤسسة التبغ "الريجي" وشركة الترامواي والكهرباء وطالبوا بخفض الأسعار وأن يقف الرئيس العابد مع الشعب كما وعدهم، لكن العابد كان غير قادر على أخذ أي قرار من دون الرجوع لفرنسا.

وزاد الطين بلة وأثار غضب الكتلة موافقة العابد على توقيع معاهدة صداقة وتعاون مع فرنسا بعد إصرار منها، إضافة غلى تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية التي فجرت المظاهرات والاضرابات ضده.

نهاية العابد..

بدأت سيرة محمد العابد تتسارع نحو النهاية عندما زار وفد من الكتلة الوطنية برئاسة هاشم الأتاسي باريس، وعاد إلى دمشق وبحوزته اتفاق تاريخي مع الحكومة الفرنسية يعطي سوريا استقلالها التدريجي على مدى 25 عاما مع المحافظة على بعض الامتيازات العسكرية والثقافية لفرنسا في سوريا. حيث تم إدخال بند وحدة الأراضي السورية وعودة دولتي العلويين والدروز إلى الوطن الأم، وهو أمر فشل العابد في الحصول عليه.

عند عودة وفد الكتلة من باريس احتفل به السوريون بحرارة، وشاهد العابد الاحتفال من شرفة قصره، وأدرك أن الأحداث قد تجاوزته، فما كان منه إلا أن قدم استقالته للمجلس النيابي ليفسح المجال لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة في نهاية عام 1936.

هنأ العابد صديقه هاشم الأتاسي بعد فوزه بالرئاسة وسلمه مقاليد الحكم، وسافر إلى مدينة نيس على الساحل الفرنسي الجنوبي حتى وفاته عام 1939 في فندق في العاصمة الإيطالية روما، وتم نقل جثمانه إلى دمشق، ودفن فيها.