محطات الأمل والخذلان في دروب الثورة السورية

2020.10.24 | 00:00 دمشق

454545.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما ورد في مقال السيد روبرت فورد لم يكن جديداً ولا مفاجئاً لي، لكنه أعادني إلى محطات الأمل والخذلان إزاء الموقف الدولي عموماً والموقف الأميركي على وجه الخصوص من ثورة الشعب السوري، ربما جاءت مقالة فورد لأسباب كثيرة ولا أدعي أنني أعرف كل ما دفعه لهذه المكاشفة والمصارحة بتقصير وقصور الموقف الأميركي من مجريات الثورة في سوريا، فقد نشرته مجلة نيولاينز الأميركية وترجمه موقع تلفزيون سوريا بتاريخ 14 أكتوبر 2020، تحدث خلاله فورد عن الفشل الذريع في ملف تسليح ودعم قوى الثورة والجيش الحر المعارض لنظام الأسد، من خلال تسليط الضوء على تجربتين له، الأولى مع الناشطة الحقوقية رزان زيتونة، والثانية مع العقيد عبد الجبار عكيدي، مؤسس وقائد المجلس العسكري الثوري بحلب، في المرحلة الممتدة من ربيع العام 2012 وحتى نهاية العام 2013.

ومن موقع المسؤولية والأمانة التاريخية، ولأن المقال تحدث عن لقاءات ومواقف حصلت بيني وبين السيد فورد خلال مرحلة قيادتي للمجلس العسكري، كان لا بد لي من كتابة هذا المقال لتوضيح بعض النقاط والمواقف على أن تتبعه سلسلة مقالات تتحدث عن انشقاقي عن جيش الأسد أوائل العام 2012 ودوري العسكري والسياسي في الثورة السورية المباركة.

في الحقيقة كان مقال السيد فورد جريئاً وشجاعاً ويعبر عن خبرة سياسية ليست بقليلة ومعرفة جيدة بالشأن السوري والمنطقة عموماً، وإن كان لا يخلو من بعض الإثارة في سرده للأحداث والوقائع لكن ذلك لم يؤثر على المصداقية في نقل جوهرها، والأهم أن هذه المقالة بمثابة شهادة تقر بالأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأميركية بالتعاطي مع الملف السوري وعدم الأخذ بآراء وتقديرات الشخصيات السورية المعارضة لمآلات الثورة.

حضر السيد فورد وبادرني بعد التحية مباشرة بلهجته المصرية قائلاً: "أعرف أنك حتضربني بالجزمة لأننا صنفنا جبهة النصرة على قوائم الإرهاب".

عنون فورد مقاله بـ "رزان والعكيدي يعرفان مآلات الثورة السورية أكثر مني". عنوان مغرٍ وجاذب، إلا أن ذلك لا يعني أننا  نفوقه في الخبرة السياسية، ولكن ربما أراد أن يستند إلى المثل القائل "أهل مكة أدرى بشعابها"، ولعلمه  بخبرتنا بهذا النظام وطريقة تفكيره وتعاطيه مع الأحداث من خلال العمل  في صفوف الجيش لما يقارب الثلاثين عاماً، ومن ثم وجودنا في الميدان، واختلاطنا بالناس والثوار وقربنا من جميع  الفصائل المعارضة، جعلنا ندرك مبكراً الاختراقات في مناطق سيطرتنا، سواء من قبل استخبارات النظام أو بعض الدول التي سعت لتغيير مسار الثورة وحرفها عن أهدافها، من خلال أدوات عدة أبرزها الجماعات المتشددة التي رفعت شعارات عاطفية قطيعية استقطابية  استطاعت من خلالها جذب مجموعات من الشباب البسطاء والعاطفيين والعاطلين عن الأمل والعمل، مع التأكيد على أن السوريين هدفوا من ثورتهم إلى إقامة دولة مدنية ديمقراطية غير مرتبطة بأي إيديولوجيا أو مشروع سوى المشروع الوطني السوري.

لا أعتقد أن فورد يهدف إلى الدعاية والتسويق لرزان أو العكيدي، على الصعيد الشخصي ولكن لا بد من وجود دوافع لقول هذا الكلام في هذا التوقيت كما أسلفنا بالإشارة. فهل هو تعبير عن مشاعر ألم وندم؟ -لا أعتقد أن للمشاعر ذلك الدور الكبير في المواقف السياسية- أم مجرد إقرار بأخطاء ارتكبوها وكانت سبباً في إطالة أمد المأساة السورية وتضاعف أرقام ضحاياها وبقاء النظام وتنامي قوة الجماعات المصنفة في قوائم الإرهاب على حساب فصائل الجيش السوري الحر والمعارضة المعتدلة ؟ أم أن المقال مجرد مشاركة غير مباشرة في الحملة الانتخابية الرئاسية المستعرة في أميركا حالياً بين المرشحين الجمهوري دونالد ترامب والديمقراطي جو بايدن من خلال تحميل المسؤولية لأوباما ووزير خارجيته السيد جون كيري؟ أم أن هناك احتمالات أخرى؟

لم ينقطع تواصلي مع السيد فورد حتى بعد استقالته، وكان آخر اتصال بيننا بعد كتابته هذا المقال، ودائماً ما عبر عن خيبة أمله وإحباطه من السياسة الأميركية تجاه الملف السوري، وكثيراً ما طلب أن لا نعلق أي آمال على تدخلها الإيجابي لحل الأزمة السورية.

كان لقائي الأول معه بعد انتهاء مؤتمر أصدقاء الشعب السوري الذي انعقد في مراكش المغربية نهاية العام 2012، وجرى في مكتب السفير التركي في سوريا السيد عمر اونهون في مقر وزارة الخارجية التركية في أنقرة الذي دعاني لزيارته وقال لي بأنه على هامش المؤتمر أخبره السيد فورد عن رغبته بلقائي، وسألني عن رأيي، فوافقت رغبة بالحوار وسماع وجهة النظر الأميركية التي سبق أن اطلعت عليها من خلال السيناتور جون ماكين والسيناتور ليبرمان قبل هذا اللقاء بحوالي ثلاثة أشهر، كما أردت أن أُسمعه وجهة نظرنا كقادة ميدانيين في الثورة، وبعد قليل حضر السيد فورد وبادرني بعد التحية مباشرة بلهجته المصرية قائلاً: "أعرف أنك حتضربني بالجزمة لأننا صنفنا جبهة النصرة على قوائم الإرهاب" وذلك بناء على تحفظات معظم السوريين في حينها على هذا القرار الأميركي لجهلهم حقيقة هذا التنظيم وارتباطه بتنظيم القاعدة.

لكن بالمجمل كان لقاءً عادياً تبادلنا خلاله وجهات النظر وأعربت له عن عدم ثقتي بأن الولايات المتحدة ستفعل شيئاً لمساعدة الشعب السوري، وأنهم ليسوا جادين في تغيير النظام خدمةً للمصالح الإيرانية التي يعيرها الرئيس أوباما الاهتمام الأكبر، بالإضافة للمصالح الإسرائيلية التي يفضل قادتها بقاء الأسد، وطوال الوقت كان فورد يحاول أن يكون لطيفاً لاستيعاب غضب مقاتل قادم من أرض المعركة غير المتوازنة، والتي يشعر فيها الشعب السوري بالخذلان.

أما اللقاء الثاني الذي جرى في فندق توجان بمدينة غازي عينتاب، ثم الثالث الشهير خلال إدخال شاحنات الأسلحة النوعية (وجبات غذائية وبعض الألبسة والأحذية المستعملة !!) فقد تحدث السيد فورد عنهما بصدق وأمانة، كما هو الحال أيضاً عند تطرقه لتفاصيل ما حدث عقب تحرير مطار منغ العسكري في آب 2013، وهنا يجدر بي التوقف عند فهمه العميق للواقع المعقد للعلاقة بين الجيش الحر والتنظيمات المتشددة، فلم يستغل هذا الواقع والعلاقة غير الاختيارية من أجل تبرير تخاذل البيت الأبيض عن دعمنا.

"روبرت أنا وأنت سنذهب إلى جنيف 20 ووقتها ستكون أنت وزيراً للخارجية أو ربما رئيساً لأميركا لأن مشوار المحادثات على هذا النحو طويل جدا".

كان لنا بعدها عدة لقاءات ركزت فيها على المطالبة بالمساعدة على تنظيم الجيش الحر وتدريبه وإقناع إدارته بتزويدنا بالأسلحة النوعية بما فيها مضادات الطيران، وإعطائه الضمانات أن هذه الأسلحة لن تقع بأيدي التنظيمات المتشددة وأن من سيستخدمها هم ضباط اختصاصيون منشقون عن النظام، وذلك بعد أن قدمت دراسة شاملة لتحويل فصائل الجيش الحر إلى جيش وطني محترف، مؤمن بالدفاع عن الوطن والشعب بكل مكوناته، إلا أن كل هذا الكلام لم يلق آذاناً مصغية في واشنطن!.

لقائي الأخير مع السيد فورد وهو على رأس عمله في يناير 2014 في مدينة إسطنبول التركية، وقد كان  مضى على استقالتي من المجلس العسكري حوالي ثلاثة أشهر، دار الحديث حول أسباب استقالتي من المجلس العسكري الذي كان احتجاجاً على التخاذل الدولي وتحدثنا أيضا عن تنامي قوة الجماعات المتشددة وخاصة داعش التي كانت قد بدأت معركتنا الحاسمة معها في حلب قبل أيام  وقلت له أنكم لستم جادين بمحاربة هذه التنظيمات الإرهابية لأنها صناعتكم ولأنكم متأكدون أنها حالة طارئة ومؤقتة غير مؤهلة لقيام مشروع دولة  إنما تمنعون الدعم عنا وتحاولون إضعافنا لأنكم تعلمون أننا رجال دولة وخدمنا في مؤسساتها وهدفنا قيام دولة مدنية ديمقراطية دولة مواطنة لكل السوريين بكافة مكوناتهم القومية والدينية والإثنية، وخلال اللقاء حاول إقناعي بحضور مؤتمر جنيف 2 الذي عقد بعدها بأيام، وقد كان يعلم أنني لست مقتنعاً بجدوى هذه المحادثات لمعرفتي الجيدة بالنظام الذي لا يمكن أن يقدم أي تنازل ولا يجرؤ على التقدم خطوة واحدة باتجاه الحل السياسي لأنها ستكون نهايته، ولقناعتي المطلقة بعدم تعرض النظام لأي ضغط يجبره على القبول بتنفيذ القرارات الدولية وبيان جنيف 1، حينها قلت له ساخراً مع رفع الكلفة بيننا بناء على طلبه: روبرت أنا وأنت سنذهب إلى جنيف 20 ووقتها ستكون أنت وزيراً للخارجية أو ربما رئيساً لأميركا لأن مشوار المحادثات على هذا النحو طويل جداً.

وها نحن نقترب من الجولة 20 من محادثات جنيف ومثلها أستانا دون تحقيق أي تقدم في المسار السياسي مع إصرار النظام وحلفائه الروس والإيرانيين على خيار الحسم العسكري.

لم تكن هذه المحطة الأولى ولن تكون الأخيرة في درب الآلام السورية التي اخترناها بوعي وإرادة وإيمان بانتصار إرادة الشعب.