icon
التغطية الحية

ما مصير آخر كنوز إدلب في ظل الإهمال المحلي والتجاهل الدولي؟

2021.07.25 | 15:16 دمشق

0202.png
عدنان عمر المحمد
+A
حجم الخط
-A

 تعرض العديد من المتاحف ومستودعات الآثار السورية للتدمير والنهب خلال الحرب، ويعد متحف إدلب أحد أهم المتاحف التي استضافت مجموعات أثرية قيمة، تنافس تلك الموجودة في حلب والعاصمة دمشق.

ويقدر عدد اللُقى الأثرية التي ضمّها متحف إدلب بأكثر من 15 ألف قطعة متنوعة، هي حصيلة مكتشفات مواقع (إبلا) و(داحس) و(تل الكرخ) و(تل مسطومة) و(تل آفس) و(مدافن سراقب)، بالإضافة إلى مواقع أثرية أخرى في المنطقة مثل (تل دينيت وتل طوقان وآفس وتل خان شيخون)، وتشمل العناصر المعمارية، كالفسيفساء وتيجان الأعمدة والنجفات والتماثيل والتوابيت الحجرية.

كما ضمّ المتحف مجموعة عملات ذهبية وبرونزية إسلامية يعود تاريخها إلى العصور: الأموية والعباسية والمملوكية والأيوبية والعثمانية، وقطعاً أثرية رومانية وبيزنطية مصنوعة من الزجاج والبرونز والنحاس.

أرشيف أقدم مملكة في سوريا

ولعل أبرز وأهم محتويات المتحف هي مجموعة الألواح المسمارية التي زاد عددها الإجمالي على 17 ألف رقيم مسماري، بين كاملٍ أو مكسور، والمعروفة باسم "أرشيف مملكة إبلا". حيث قاد اكتشاف هذا الأرشيف الضخم بين عامي 1973- 1976 إلى إعادة كتابة تاريخ سوريا والعالم القديم من جديد.

لكن وعلى ما يبدو، لم يكن أرشيف إبلا محفوظاً بالكامل في متحف إدلب، إذ تشير سجلات الأرشفة التابعة للمتحف أن عدد الرقم الموثقة في سجلاته هو ألفان و201 رقيم مسماري فقط!   

 

300px-Ebla_clay_tablet.jpg
من ألواح أرشيف إبلا

 

المتحف بعد اندلاع الثورة السورية

بعد اندلاع الثورة في ربيع عام 2011، نُشر العديد من التقارير حول الأضرار التي لحقت بالمتاحف السورية خلال الحرب التي فرضها نظام الأسد. وأفاد تقرير صادر عن جمعية حماية الآثار السورية (APSA) أن المتاحف السورية تفتقر إلى وسائل الحماية اللازمة، منتقداً إجراءات الحماية البسيطة والبدائية التي اتخذتها الجهات الحكومية لحماية المتاحف، ما أدى لاحقًا إلى انتهاكات مختلفة، كالقصف والتخريب والنهب الذي طال 12 متحفاً سورياً. وبالإضافة إلى تلك الانتهاكات، استخدمت المتاحف كثكنات ومقار عسكرية ومراكز قنص من قبل قوات النظام.

وفي عام 2012، اتخذت المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية التابعة لحكومة النظام، إجراءات أمنية سريعة وغير مدروسة لـ "حماية متحف إدلب" بحسب زعمها. فقامت بنقل جميع القطع الأثرية إلى مخازن في الطابق السفلي من المتحف تفتقر إلى أبسط شروط ومواصفات التخزين الصحيح، وتم بناء الجدران لإخفاء الأبواب وجميع الفتحات المؤدية إلى المستودعات.

وبعد أن أصبحت إدلب تحت سيطرة المعارضة، عام 2015، باتت المحافظة وكل ما تضمّه من مناطق سكنية ومواقع أثرية تحت رحمة نيران مدافع وطائرات النظام وحلفائه من دون توقف. وأدى القصف إلى إحداث أضرار كبيرة بالمتحف مرتين على الأقل خلال عامي 2015 و2016، قاد آخرها إلى إحداث فتحة في سقف أحد مستودعات التخزين، الأمر الذي عرّض محتويات المتحف للنهب المنظم. (للاطلاع حول الموضوع انظر تقرير منظمة سيمات).

 هل تعرّض متحف إدلب للنهب؟

تناقلت وسائل الإعلام المحلية والدولية التي تناولت موضوع نهب متحف إدلب، معلوماتٍ متفرقة وأحياناً متناقضة لم تسمح لنا برؤية واضحة لما حدث لهذا المتحف. فعلى سبيل المثال، في عام 2012، أكدت المديرية العامة للآثار والمتاحف على لسان مديرها مأمون عبد الكريم أن "جميع المتاحف السورية مؤمنة جيدًا ومقتنياتها سليمة وأن متحف إدلب في حالة جيدة ولم يتعرض لأي نهب".

وفي عام 2015، نشرت قناة الجزيرة تقريرًا من داخل المتحف، قال فيه بعض الشهود إن النظام أفرغ المتحف عام 2011.  كذلك ادعى عضو اللجنة الأمنية في ما أُطلق عليه آنذاك (جيش الفتح)، في مقابلة مرفوعة على اليوتيوب، أن النظام أفرغ المتحف عام 2012، وأكّد وجود شهود في أثناء عملية إفراغ المتحف ونهب محتوياته، ليلاً، ونُقلت إلى جهة مجهولة بوساطة سيارات تابعة لأجهزة أمن النظام، بحسب قوله.

كما تحدث ذلك العضو عن براميل متفجرة ألقتها مروحيات النظام ما أدى إلى تدمير بعض أجزاء المتحف. وأشارت Darke إلى تعرض المتحف لغارات جوية من قبل طائرات النظام وذكرت أن المتحف قد تم نهبه في عام 2013.

وفي تشرين الأول 2016، نشرت حركة (أحرار الشام) صوراً على الإنترنت تظهر علباً بلاستيكية مليئة بأكياس مرقمة تحتوي على قطع فخارية تم العثور عليها في مقر فصيل (جند الأقصى) المسؤول عن حراسة متحف إدلب.

وفي تقرير جديد حول المتاحف السورية، اتّهم النظام (جبهة النصرة) بنهب 5 آلاف و844 قطعة مسجلة من متحف إدلب. وتحمّل معظم التقارير الصادرة عن المديرية العامة للآثار والمتاحف التابعة لحكومة النظام، فصائل المعارضة و"التنظيمات الجهادية"، المسؤولية الكاملة عن الانتهاكات التي تعرضت لها المواقع الأثرية والمتاحف متجاهلة انتهاكات النظام الجسيمة بحق تراث سوريا الثقافي.

افتتاح المتحف وإحصاء المسروقات

في عام 2018، نجحت مجموعة من علماء الآثار المحليين المستقلين في مركز آثار إدلب ممّن نشطوا منذ بداية الحرب في حماية التراث الثقافي السوري، بإعادة افتتاح المتحف وتنفيذ مشروع إعادة تأهيل وجرد المستودعات بالتعاون مع منظمة "سوريون من أجل التراث" (SIMAT).

ونشرت المنظمة على موقعها الرسمي تقريرًا علميًا منهجياً عن متحف إدلب، تميّز بكثافة التفاصيل ودقة المعلومات حوله. واستنادًا إلى قوائم الجرد التي أجريت للمستودعات، أكد التقرير أن عدد الرقم المسمارية المتاحة حاليًا هو 546 من أصل ألفين و201 رقيم مسماري مسجل في قوائم أرشيف المتحف، ما يعني أن ألفاً و550 رقيمًا مسمارياً تعرضت للسرقة.

ويقدّر عدد القطع الأثرية المفقودة الأخرى بنحو 4 آلاف قطعة أثرية من أصل ما يقرب من 7 آلاف و500 قطعة متنوعة وموثقة في أرشيف المتحف. وتشمل المسروقات: مجوهرات، وعملات ذهبية وفضية وتماثيل صغيرة عثر عليها في موقع إبلا، بالإضافة إلى أختام أسطوانية ومسطحة وفخاريات من نفس الموقع ومن مواقع أثرية أخرى في المحافظة.

 من جهتها، أصدرت "جمعية حماية الآثار السورية" (APSA) تقريراً جديداً قالت فيه إن 29 متحفاً ومخزناً ودار عبادة، من أصل 55 مبنى يحتوي قطعاً أثرية، قد تضررت منذ عام 2011، مشيرة إلى أن متحف إدلب كان يستضيف نحو 15 ألف قطعة، فقط 9 آلاف و494 منها كان مسجلاً في قوائم المتحف، ولم يتبق منها اليوم سوى 3 آلاف و650 قطعة.   

ما مصير القطع الأثرية المعروضة حالياً في متحف إدلب؟  

يبدو أن الاختلاف في الأخبار والتقارير الصحفية وتبادل الاتهامات بين الأطراف المتنازعة حول مسؤولية نهب المتاحف، سيبقى مستمراً. وسيستمر معها طرح الأسئلة:

- ماذا حدث لمتحف إدلب خلال الحرب؟

- ما الأسباب التي أدت إلى نهب المتحف؟  

- من المسؤول عن نهب القطع الأثرية من متحف إدلب؟ وأين ذهبت القطع المسروقة؟

- هل ستتم استعادة المسروقات في يوم ما؟

وأسئلة مشروعة أخرى يحق للسوريين طرحها لفهم ما جرى لتراثهم، إلا أننا سنتجاوزها كونها تحتاج إلى تحقيق مستقل، وسنحاول الإجابة عن التساؤل الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة والذي يدور حول:

ما مصير آلاف القطع الأثرية الموجودة حالياً في متحف إدلب ومستودعاته؟ هل هي آمنة حقًا؟ وهل من الجيد إبقاؤها في المتحف أم يجب نقلها إلى مكان آخر داخل سوريا أو خارجها؟

  1. من الناحية الأمنية

بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها ولا تزال تشهدها محافظة إدلب، ونقصد حالة التوتر العسكري المستمرة والمتفاقمة، يشير إلى أن هناك انقلاباً من الجانب الروسي على اتفاقيات وقف إطلاق النار المبرمة مع تركيا، واستؤنف قصف الروس والإيرانيين والنظام على مختلف مناطق إدلب بشكل شبه يومي مسقطاً عشرات الضحايا ومدمراً المنازل والبنى التحتية، ما يشكّل تهديداً مباشراً على المواقع الأثرية ومقتنيات المتحف.

  1. موقف سلطات "الأمر الواقع"

على إثر إعلان الجانبين التركي والروسي اتفاق وقف إطلاق النار في الشمال السوري، في الـ6 من آذار 2020، باتت إدلب منطقة نفوذ كاملة لـ "هيئة تحرير الشام"، تمارس عليها "حكومة الإنقاذ" الواجهة المدنية لـ الهيئة، سلطة إدارة الشؤون العامة.

وأظهرت الهيئة  سياسات وتكتيكات مرنة  في علاقاتها السياسية مع الأطراف الإقليمية والدولية في الشأن السياسي، وعملت على توظيف هذه البراغماتية لصالح استمرار الفصيل وعدم الدخول في صراع مفتوح مع الأطراف الدولية. كما انتهجت أسلوباً إعلامياً ترويجياً لكسب تعاطف وثقة المكوّن المحلي وقبول المجتمع الدولي.

ويبدو أن تكتيكات ومرونة الهيئة أسفر عنه افتتاح متحف إدلب عام 2018. تلك "الاستراتيجية" الحالية لـ "هيئة تحرير الشام" في مرونة التعاطي مع التحديات الداخلية والخارجية، لم يقابلها تغيّر في النهج والسلوك، وبالتالي يجب إعداد العدة لأي طارئ محتمل.

يضاف إلى ذلك ما تم تداوله عبر وسائل الإعلام، عن قيام مجموعة من مقاتلي (الأوزبك) في الآونة الأخيرة باقتحام متحف إدلب وتدمير بعض التماثيل الأثرية والصور الجدارية والفسيفسائية بذريعة أنها أصنام، وبالتالي ما من ضمانات تمنع أو تحول دون تعرض المتحف ومحتوياته لأعمال نهب وتدمير مجدداً.

  1. بقاء القطع الأثرية في المتحف ومستودعاته

الكثير من القطع الأثرية الأصلية معروضة حالياً في خزائن العرض داخل قاعات المتحف أو محفوظة في مستودعاته. والتساؤل هنا: ماذا لو تعرض المتحف للقصف مجدداً من قبل النظام وحلفائه، أو لهجوم آخر من قبل مجموعات متشددة؟

التقرير النهائي لمنظمة (سيمات) يفيد بأن المستودعات غير صالحة للتخزين، إذ يشير إلى أن المستودعات كانت تحتوي على أكثر من 15 ألف قطعة أثرية موزعة على 6 غرف في الطابق السفلي للمتحف، وبأن الظروف البيئية للمستودعات لم تكن مناسبة لتخزين القطع الأثرية، حيث ألحقت عمليات التخزين التي نفذتها مديرية آثار النظام في السابق أضراراً فادحة بتلك القطع بسبب ارتفاع نسبة الرطوبة من جراء إغلاق منافذ الهواء وملء الممرات المؤدية إلى المستودعات بالرمل بحسب التقرير.

كما وأن قصف النظام أدى إلى كشف المستودعات وإضعاف حمايتها، ما يدفعنا جدّياً إلى البحث عن مقرّ آخر يضمن حماية المقتنيات والقطع الآثرية.

4. إمكانية نقل القطع تحت إشراف دولي

تجدر الإشارة إلى أن فكرة نقل قطع أثرية من مكان إلى آخر أو من بلد لآخر بهدف حمايتها من كوراث الحروب، ليست بجديدة.

من بين الأمثلة ما حصل خلال الحرب الأفغانية، حيث تمت حماية نحو 1400 قطعة أثرية من أفغانستان في (متحف المنفى) بسويسرا، وذلك بموافقة طرفي الصراع آنذاك المتمثلين بـ "حركة طالبان" و"التحالف الشمالي" تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، وفي عام 2006 تمت إعادة القطع إلى أفغانستان.

وعندما نشبت الحرب الأهلية الإسبانية في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، تم تعيين الرسام الشهير (بابلو بيكاسو) أمينًا على المتحف. وعندما لم يتمكن من النجاح بالمهمة، نقلت مقتنيات المتحف بعد إغلاقه في آب 1936، إلى فالنسيا في البداية ثم إلى كتالونيا قبل أن تودع في نهاية المطاف بجنيف تحت رعاية "عصبة الأمم"، وبقيت هناك حتى عادت إلى مدريد في عام 1939.  

في الحالة السورية، يجب التفكير بحذر شديد إزاء اتخاذ مثل تلك الخطوة، فمصير البلاد ما زال مجهولاً في ظل الضعف والتشرذم الحاصل وتقاسم مناطق السيطرة، وبالتالي ليس من المعروف إن كان سيتمكن السوريون مستقبلاً من استعادة القطع الأثرية في حال نقلها.

5. إمكانية نقل الآثار إلى مناطق آمنة داخل سوريا

بالإضافة إلى الخطة السابقة، يمكن وضع خطة طوارئ أخرى لحماية ما تبقى من كنوز متحف إدلب، وذلك عبر نقلها إلى مناطق أكثر أمناً داخل سوريا.

ولكي تكون الخطة قابلة للتنفيذ، يجب الاتفاق بين أطراف السيطرة في إدلب وفي المناطق الآمنة التي يفترض نقل الآثار إليها. وبعد أن تمت أرشفة تلك المقتنيات بطريقة علمية دقيقة من قبل منظمة سيمات ومركز آثار إدلب ، يمكن مشاركة تلك البيانات مع اليونسكو بكل سهولة.

إلا أن التحديات التي تواجه مثل تلك الخطة تتمثل في 3 نقاط/ تساؤلات، وهي:

  • ما الأطراف التي تقف عندها الموافقة على نقل القطع من متحف إدلب؟
  • من سيقوم بالإشراف على عملية النقل؟
  • أين مكان حفظ القطع؟ وتحت إشراف مَن ستتم حمايته؟

ختاماً، يمكن القول إن إعادة افتتاح متحف إدلب وبقاء القطع الأثرية معروضة في قاعاته يحقق فوائد كبيرة بالطبع، فهو يساعد المجتمعات المحلية على الشعور بالتعافي وعودة الحياة الطبيعية، كما يعيد للمدينة وجهها الثقافي، ويوجّه رسالة للعالم وللمنظمات الأهلية والدولية للتحرك والعمل على إنهاء الحرب وبناء السلام في سوريا.

إلا أن خطر تَعرُّض ما تبقى من كنوز وقطع أثرية حالياً في متحف إدلب لنفس مصير الأخرى، يبقى قائماً وبقوة، ويزيد القلق عليها يوماً بعد يوم مع ازدياد التصعيد العسكري على إدلب.

وتبقى مسألة حماية أو نقل القطع الأثرية، سواء داخل أو خارج البلاد، مسؤولية السوريين وحدهم، ولا شك أن الوصول إلى حلول وتفاهمات بهدف حماية هذه الكنوز الأثرية من الضياع والنهب سيكون مرهوناً بتوفر الشعور بالمسؤولية الوطنية والرغبة والنية الصادقة لدى أطراف النزاع والسيطرة داخل سوريا.