ماذا لو آمنت أغلبية السوريين بالنضال المدني؟

2023.12.05 | 07:15 دمشق

ماذا لو آمنت أغلبية السوريين بالنضال المدني؟
+A
حجم الخط
-A

منذ نعومة أظفارنا أقنعونا بأن اللوبي اليهودي أو اللوبي الصهيوني يهيمن على الإدارة الأميركية، ومن ثم يهيمن اليهود على العالم ويتحكمون به من خلال تحكمهم بالمال والإعلام. هذه المقولة وما يتفرع عنها درجت على الألسن وحفظها الكبار والصغار على أنها حقيقة مطلقة لا تقبل الجدال.

أول مرة اهتزت فيها هذه القناعة كانت عندما تحدث أحد الناشطين الفلسطينيين في الولايات المتحدة عن إفشال عدة أنشطة للوبي الصهيوني. كانت هذه الملاحظة مدعاة لوضع هذه المقولة تحت المجهر؛ ليتبين فيما بعد أن هذه المقولة لا تعدو عن كونها نجاحا للآلة الدعائية الإسرائيلية الماهرة في أسطرة كل ما يتعلق بإسرائيل.

تقول أستاذة الإعلام في إحدى جامعات "نيويورك" الفلسطينية الأصل ندى الغاد: فلا لوبي صهيوني ولا لوبي يهودي ولا أي لوبي من بين 680 لوبي الموجود في الولايات المتحدة يمتلك القدرة على السيطرة أو على فرض قرار. جميع القوى تتصارع وتتنافس وتخسر وتكسب وتتقدم وتتأخر. وتضيف في مكان آخر: لم يكن اللوبي الصهيوني في يوم من الأيام أقوى لوبي في الولايات المتحدة.

وفي سياق كشف أهمية الدعاية والإعلام وفضح الأساليب الإسرائيلية يعتبر الدكتور حامد ربيع مؤسس عصر الأنوار الفلسطيني في هذا المجال، فقد لعبت مؤلفاته العديدة دورا بارزا في إيصال الشعب الفلسطيني إلى المرحلة التي تخوف منها "مناحيم بيغين" الذي قال في أحد كتبه: يجب أن نعمل، ولنعمل بسرعة فائقة قبل أن يستفيق العرب من سباتهم فيطلعوا على وسائلنا الدعائية، فإذا استفاقوا ووقعت بأيديهم تلك الوسائل، وعرفوا دعاماتها وأسسها، فعندئذ لن تفيدنا مساعدات أميركا.

يمكن لمن يراقب سير الأحداث "بموضوعية" أن يلاحظ أن الفلسطينيين قد أصبحوا يتقنون فن الدعاية ومهارة التسويق لقضيتهم العادلة إتقانا منقطع النظير

في يومنا هذا يمكن القول إن ما كان يتخوف منه "بيغين" قد حصل، ولكن على المستوى الفلسطيني فقط، بينما مازال أغلب العرب متمسكين بتلك المقولة الأسطورية: اليهود يتحكمون بالعالم. وفي كل مناسبة يستطيع هؤلاء تحت تأثير آلية "التحيز المعرفي" أن يستخدموا أحداث غزة الأخيرة كبرهان ساطع على صدق هذه المقولة، فهم يقولون ألم تر كيف هب العالم لنجدة إسرائيل؟! متناسين السؤال الأهم: ألم تر كيف تراجع مستوى الدعم لإسرائيل أمام ضغط الرأي العام؟

في واقع الأمر؛ يمكن لمن يراقب سير الأحداث "بموضوعية" أن يلاحظ أن الفلسطينيين قد أصبحوا يتقنون فن الدعاية ومهارة التسويق لقضيتهم العادلة إتقانا منقطع النظير، فهم من خلال أنشطتهم المنسقة والاحترافية استطاعوا كسب مساحات واسعة من الرأي العام العالمي بالعموم، والرأي العام الغربي على وجه الخصوص. ومن خلال ذلك هزموا الإسرائيليين في كل المواجهات التي حصلت فيما بينهم خلال العقد الأخير، والمقصود هنا الهزيمة على المستويين الإعلامي والدعائي، حتى ليهيأ للمرء أن القضية بعكس ما يقال تماما. أي إن الفلسطينيين هم من يتحكم بالإعلام والرأي العام العالمي.  

فيما سبق مقدمة للإجابة عن سؤال: لماذا تعاطفت شعوب العالم مع الشعب الفلسطيني وتحركت للدفاع عنه، بينما لم تفعل ذلك من أجل السوريين رغم أن ما تعرضوا له أشد قسوة وعنفا مما تعرض له الفلسطينيون؟ فعلى المستوى العربي والإسلامي يمكن تفسير ذلك بما للقضية الفلسطينية من عمق عاطفي يرتبط بالقدسية المنبثقة عن عاملي البعد التاريخي والبعد الديني. ولكن ماذا عن البقية؟

لا شك أن مئات الآلاف وربما الملايين من المتظاهرين الذين خرجوا في العواصم الغربية دعما للشعب الفلسطيني تحركوا لأن هناك من حركهم عن طريق الدعاية والتسويق لعدالة قضيته، وهم في هذه الحالة الناشطون الفلسطينيون الذين رموا خلف ظهورهم كل المقولات المنبثقة عن نظريات المؤامرة؛ تلك المقولات التي تدفع بالإنسان إلى مزيد من اليأس والقنوط والاستسلام لقدره.

بعيدا عن الجدل الذي يمكن أن يثار حول قضية السياسة والأخلاق، لكننا إذا قبلنا بفكرة أن الساسة بعيدون كل البعد عن الأخلاق، إلا أننا لا يمكن أن نعمم هذه المقولة على الشعوب التي إن وجدت من يستنجد بها ويجيد التسويق لقضيته سيجدها عند حسن ظنه، وسيكتشف أن للرأي العام والمنظمات الحقوقية والإنسانية وباقي منظمات المجتمع المدني الكثير من النفوذ والتأثير على صانعي القرارات، وأنهم المصدر الأول للجانب الأخلاقي في السياسة.

هذا ما آمن به أغلب الفلسطينيين وبدؤوا يقطفون ثماره. وهذا ما أصبح بمثابة الكابوس الذي يقض مضجع الإسرائيليين، فلعلمه بهذه القوة التي أصبح الفلسطينيون يمتلكونها؛ قال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك: إن أمام إسرائيل أسابيع فقط لهزيمة حماس، وأن إسرائيل بدأت تخسر الرأي العام في أوروبا، وأنه في غضون أسبوع أو أسبوعين ستبدأ في خسارة الحكومات، وبعد وقت قليل سيبدأ الاحتكاك مع الأميركيين يظهر على السطح.

قلة قليلة من الناشطين السياسيين والحقوقيين السوريين سلكوا هذا الطريق، وتمكنوا بجهودهم المشكورة إنجاز ما يمكن أن نسميه أهم إنجازات الثورة السورية

من أجل هذا تعاطفت شعوب العالم مع الشعب الفلسطيني، ولم تفعل الشيء ذاته حيال السوريين، وهذا ما يرفض أغلب السوريين أن يصدقوه. أي، هم يرفضون الاقتناع بأن النضال المدني والحقوقي الذي يعتمد الدعاية والترويج بمختلف الوسائل السلمية المتاحة يمكن أن يغير توجهات القوى الدولية المتآمرة على الشعب السوري، ولعل ذلك يعود لسببين رئيسيين: أولهما الثقافة الموروثة عن نظام الاستبداد التي تشكل نظريات المؤامرة إحدى دعائمها الرئيسية، وثانيهما أن الإيمان بهذا النسق النضالي قد يفسر تلقائيا بأنه اعتراف ضمني بالخطأ أو التقصير.

رغم ذلك؛ يمكن القول بأن قلة قليلة من الناشطين السياسيين والحقوقيين السوريين سلكوا هذا الطريق، وتمكنوا بجهودهم المشكورة من إنجاز ما يمكن أن نسميه أهم إنجازات الثورة السورية؛ من قانون قيصر إلى قانون الكبتاغون، ومؤخرا إدانة رأس النظام السوري أمام القضاء الفرنسي. من هنا يتجلى السؤال الكبير: ماذا لو آمنت الأغلبية؟!