ماذا تبقى من الدولة السورية؟!

2023.11.08 | 06:46 دمشق

ماذا تبقى من الدولة السورية..؟؟!!
+A
حجم الخط
-A

لا يتعب أي باحث يبحث عن دور الدولة السورية في هذه اللحظة الفارقة من تاريخ سوريا، في استنتاج يكاد يعرفه كل السوريين بداهة، ولم يعد بحاجة لبحث معمّق، باختصار شديد لم يبقَ من الدولة السورية سوى نواتها المافيوية، بعد أن سقطت عنها كل القشور المغلّفة لها، والتي كانت ضرورية لها في مراحل سابقة، كي تعطي هذه البنية المشوهة اسم الدولة، ببساطة شديدة لقد انهارت الدولة التي فقدت ركائزها، ولم يبقَ منها سوى نواتها الأمنية، بوجهها البشع وسيرتها المرعبة.

إن كان للتاريخ أن يقف عند أهم سمات هذه الدولة "الأسدية"، فإن أهم ما يقال سوف يتمحور أساساً حول مظهرين أساسيين لها، المظهر الأساسي الأهم والأبرز هو وحشيتها، فقد غدت طريقة حكم عائلة الأسد وتوحشها في قمع السوريين المثال الأبرز في عالمنا المعاصر، لممارسة العنف الهمجي من سلطة ما  ضد شعب ما، وأصبحت تفاصيل التعذيب، والقتل، والتشريد، والتدمير الممنهج مدرسة خاصة متفردة في تاريخ البشرية المعاصر، حتى إن النازية الصهيونية التي ترتكب اليوم جريمة الإبادة العنصرية بحق الشعب الفلسطيني، تستمد معظم أساليبها من المدرسة الأسدية، لذلك كان من الطبيعي أن يستشهد كبار القادة الإسرائيليين الداعين لتدمير غزة على رؤوس من فيها وإبادة سكانها، بالتجربة الأسدية وطريقة تعاملها مع الشعب السوري بعد ثورة 2011م.

كل الدول الإقليمية تنشط سياسياً، وتصبح محط اهتمام القوى الكبرى ما عدا سوريا، لكأنما هناك توافق دولي على انعدام أهمية الممثل الرسمي لسوريا في ما يجري فيها وحولها، وأنها أصبحت مجرد بقعة جغرافية ليس لها من يمثلها

منذ أن اندلعت الحرب على غزة في السابع من أكتوبر الماضي، لم يُسمح لرأس النظام الأسدي أن يقوم بأي فعل، أو يدلي بأي تصريح يمثل الدولة السورية، وتولى وزير الخارجية الإيراني الإعلان عن مواقفها، وعن مواقف كل الأطراف التابعة لإيران، وكأن سوريا أصبحت فعلاً وقولاً خارج أي اعتبار سيادي أو سياسي، وتجلى ذلك بوضوح، عبر غيابها عن كل التحركات السياسية المسعورة التي تجري في المنطقة، فكل الدول الإقليمية تنشط سياسياً، وتصبح محط اهتمام القوى الكبرى ما عدا سوريا، لكأنما هناك توافق دولي على انعدام أهمية الممثل الرسمي لسوريا في ما يجري فيها وحولها، وأنها أصبحت مجرد بقعة جغرافية ليس لها من يمثلها، ويُقرّر الآخرون مصيرها ومستقبلها.

أما المظهر الثاني الذي سيكتبه التاريخ عن سوريا فهو طريقة تدمير بنيتها الاقتصادية، ونهب ثرواتها وممتلكات أفرادها، إذ لم تكتفِ النواة المافيوية الحاكمة بتحطيم سوريا كقوة عسكرية إقليمية، ولم تكتفِ بإنهاء أي وزن سياسي لها، وها هي اليوم بعد أن نهبت كل ركائز اقتصاد الدولة، فباعت أو رهنت أو أجّرت كل ثرواتها ومرافقها لقوى خارجية، وتحولت اليوم إلى مجرد عصابة تنهب وتسرق ما يملكه أفراد هذه الدولة، وترغم كل من يملك أي منشأة اقتصادية على دفع "الخوّة" المنتظمة لها، أو تعتقله بعد تلفيق أي تهمة تشاء له، ثم تبتزه ليدفع لها ما يملكه.

عندما انفجرت الثورة السورية انقسم أصحاب رؤوس الأموال في سوريا إلى ثلاثة أقسام، فمنهم من وقف مع الثورة وتمت محاصرته أولاً، ثم مصادرة أملاكه لاحقاً، ومنهم من ظل صامتاً، فتم تأجيل مصادرة أمواله لمرحلة لاحقة لم تتأخر كثيرا، لنصل اليوم إلى نهب من وقف مؤيداً للطغمة الحاكمة، ولم تشفع له موالاته، فقد حان اليوم موعد نهب أمواله وأملاكه.

لم تكن خطة نهب المال السوري العام والخاص على هذا النحو من الفجاجة والصفاقة، قبل أن تتسلم أسماء الأسد مهمة جمع وإدارة أملاك العائلة الحاكمة، فقد كانت معظم عمليات النهب تتم في الخفاء، سواء عبر فرض المشاركة على المنشآت والمؤسسات الاقتصادية الخاصة عنوة، وبدون أي مساهمة في رأس المال، مقابل حمايتها من تجاوزات القانون الضريبي والجمركي، أو مقابل خدمات أخرى، لكن وبعد تسلم أسماء الأسد لهذه المهمة، فقد تغيرت الأساليب كثيراً، ولم تعد تقيم اعتباراً للولاءات السياسية، فكل من يملك المال مطالب بالخضوع ودفع الإتاوات لا يغير في الأمر كثيراً ولاء الشخص أو عدمه، ودفع الأموال لم يعد يتم بطريقة خفية، فهناك حسابات بنكية معروفة، وفي بنوك سورية تملكها الدولة، تستقبل هذه الإتاوات المفروضة.

من أجل نهب ما يملكه السوريون أنشأت أسماء الأسد مكتباً سرياً خاصاً بها، يتولى هذا المكتب مهمة جمع المعلومات عن أي شخص سوري، يُعرف أنه صاحب منشأة، أو لديه رأسمال كبير أو متوسط، ثم تتم مطالبة هذا الشخص بمبلغ كبير من المال بوضوح، وبلا أي التباس، وفي حال رفض هذا الشخص دفع المبلغ المطلوب، يتم اعتقاله بتهمة ما، أو تهديده أو ابتزازه.

لا تريد أسماء الأسد أن يكون في سوريا أي نشاط اقتصادي خارج سيطرتها، أو خارج شبكتها الأخطبوطية التي تتمدد وتتشعب، وبالتالي فهي الآن من يتحكم بمصير الاقتصاد السوري

هذا الوضع دفع معظم مالكي رؤوس الأموال لتهريب أموالهم للخارج، ودفعهم أيضاً لإيقاف أعمالهم وتدبير أمر خروجهم مع عائلاتهم من سوريا، وهذا انعكس بوضوح على الحياة الاقتصادية التي أصبحت اليوم شبه مشلولة، وبالتالي لم يعد هناك فرص عمل للباحثين عن العمل، ولم تعد الأجور المقدّمة لمن يدخل سوق العمل تكفي للحد الأدنى الأدنى من تكاليف الحياة، وهذا ما نلمس تجلياته في محاولة معظم القوى العاملة السورية للخروج من سوريا، وخصوصاً فئة الشباب، ونلمسه أيضاً في تفشي ظواهر اجتماعية شديدة الخطورة، مثل التسول والدعارة والإدمان على المخدرات.. وغيرها.

لا تريد أسماء الأسد أن يكون في سوريا أي نشاط اقتصادي خارج سيطرتها، أو خارج شبكتها الأخطبوطية التي تتمدد وتتشعب، وبالتالي فهي الآن من يتحكم بمصير الاقتصاد السوري، وهي من تنهبه ولا تأبه حتى لو كان المال الذي تنهبه هو مساعدات مقدمة من جهات خارجية للمتضررين من الزلازل، أو لجرحى ومعاقي حرب، أو حتى أموال موروثة هي ملك موثق لأصحابها، فكل ما يملكه السوريون، هو قابل للنهب بالإكراه.

لم يعرف التاريخ سلطة دمرت بلدها بكل هذا العنف، والوحشية وهجّرت مواطنيها، ولم يعرف عصابة تنهب بكل هذا الفجور وهذه الصفاقة، فسوريا لم تعد اليوم مجرد مشاع مستباح، تنهب القوى الخارجية اقتصاده، وقراره، وسيادته ومصيره فقط، بل أصبحت مستباحة أيضا لعصابة تحكمها، وتنهب حتى لقمة خبز أبنائها، وتستولي على كل ما يملكون.