ماذا أضاف حراك السويداء الأخير لثورة الحرية؟

2024.03.27 | 06:02 دمشق

آخر تحديث: 27.03.2024 | 06:02 دمشق

ماذا أضاف حراك السّويداء الأخير لثورة الحريّة؟
+A
حجم الخط
-A

يميز "أشعيا برلين" بين معنيين للحرية: حرية سلبية: تتمحور حول حماية الخيارات الفرديّة، ومهتمة بإزاحة العائق أمام تلك الحرية.

وحريّة إيجابيّة: عادة ما توصف بها قوانين الدولة، لكنّنا سنتناولها في مستوى قدرة الأفراد على الفعل، وإمكانيّة أنْ تنتهي إلى هيمنة فئة نشطة على الفضاء العام، فتضيّق على عموم الأفراد أفق حرياتهم السلبيّة؛ ويضرب برلين مثالا على ذلك بالثورة الفرنسيّة على الملكيّة ورجال الدين، وما آلت إليه الثورة من سيطرة النخب باسم الدفاع عن الحريّة!

على أيّة حال فإنّ د. عزمي بشارة يعتقد: "أن التحرر من الطغيان من دون تأسيس للحريات، ونظام يحمي هذه الحريّات، ربّما يؤسس لطغيان جديد"، ولعلّ مثل هذا الطرح بات واقعيّاً بالنسبة إلينا - نحن السوريين- بعد 13 عاما من ثورة الحريّة وما آلت إليه من سيطرة قوى أمر واقع، دون إسقاط نظام الطغيان حتى!

لنتفق بداية أن نظام الأسد استولى على السلطة عبر انقلاب نخبوي، وأنّ خطاب المعارضات ضدّه ظل كذلك نخبويّاً حتى قيام الشارع السوري بثورة، أعلن خلالها سوريّون عاديون، غير متحزّبين، عن الإرادة الشّعبيّة: "الشعب يريد إسقاط النظام"؛ الإرادة التي فسّرها النظام بوصفها مؤامرة، فطرح نموذجاً مضادّاً لها ربّما يمكن صياغته أيضاً بـ "النظام يريد إسقاط المؤامرة"!

لكن هل كانت "الحريّة الشّعبيّة" في ثورة 2011 سلبيّة أم إيجابيّة؟

ربّما نميل إلى الزعم أنّ الإعلان الشّعبي -غير المتحزّب- عن تلك الإرادة يرجّح كونها "حرية سلبيّة"، كان هدفها الصريح إزاحة "النظام -العائق" من أمام ما اعتبره المتظاهرون حقّاً بالحريّة.

نشأت النخبة الجديدة في إدلب عبر تحالف السلاح مع رجال الدين، وبعقد شرعي -لا اجتماعي-

لكن الإطاحة بالنظام القديم تتطلّب الاتفاق على آخر، ومن ثمّ فإنّ تعيين ماهية "الحق" الذي طلبته الإرادة الشّعبيّة، وتمثّل ذلك الحق سياسيّا، قد انتقل بالحريّة من وصفها ممارسة سلبيّة إلى أخرى إيجابيّة؛ فكيف جرى ذلك الانتقال؟

الأكيد أنّ انتخابا ديمقراطيّا لم يجرِ لمعرفة ذلك، وأنّ زعم تمثيل تلك الإرادة لا يزال خاضعاً لمصادفة الوصول إلى طبقة استحوذت - دون تكليف- على حق استخدام ضمير الجمع، وسنقترح تسمية هذه الطّبقة بـ "النخبة الجديدة".

نشأت النخبة الجديدة في إدلب عبر تحالف السلاح مع رجال الدين، وبعقد شرعي -لا اجتماعي- ارتأت تلك النخبة إمكانيّة تعيين مصالح الشّعب، فأنشأت هيئة شرعيّة، وحكومة إنقاذ، وشبكة مصالح، من المفترض أنها هي مصالح الشّعب؛ فظل التناقض قادراً على دفع النّاس للاحتجاج؛ لكن ضمن حيّز الحريّة السلبيّة، الانقلاب النخبوي -بذريعة الأكثر عدالة- ومن ثمّ كفاءة لحيازة احتكار ممارسة الحرية الإيجابيّة!

شرق إدلب ثمّة نخب حكومة مؤقّتة، وائتلاف معارض، وقادة فصائل تولّت أيضاً تفسير "إرادة السّوريين" نيابة عنهم، لا بعقد اجتماعي، إنّما "ثوري" - ولا يزال هذا النموذج يطرح تناقضات تدفع السوريين القاطنين تحت سلطته إلى التظاهر ضمن فضاء حريّة سلبيّة، غالبا ما يجري تجاهل مطالبها، أو ينتج الحراك نخباً جديدة تزاحم القديمة في احتكار ممارسة الحريّة الإيجابيّة!

في شرق الفرات يتكرّر نموذج التحالف النخبوي بين "أحزاب سياسيّة، وأجنحة عسكريّة، وزعامات عشائريّة" تولّت تفسير "إرادة السوريين" عبر "عقد اجتماعي" فرضته تلك النخب، واعتبرته قانونيّا!

ومن جديد فإنّ حركات الاحتجاج الشعبي ضد النموذج، لا تخرج عن حرية سلبيّة متذمّرة لكنّها قانعة بأقلّ الممكن، عن نخباً "عشائريّة" يمكن أن يسفر حراكها عن رغبة في الاستحواذ على احتكار ممارسة الحريّة الإيجابيّة.

وإذا كان ما تقدّم قريباً من الحقيقة الواقعيّة؛ فلعلّ الإشارة إلى عطالة جدوى الحراك ليس كلاما غامضاً، فخلال الحرب تآلفت حريّات النخب الجديدة والقديمة مع زخم الطرح الهويّاتي؛ الذي لا يشترط العودة إلى رأي النّاس، ولا يستند إلى مصالحهم، فالنخبة توجّه الرأي العام؛ وتعيّن مصالحه، إلّا أنّ تجميد الصراع وهدوء الجبهات كشف عن عطب الرؤيا لدى نخب النماذج جميعها، فبدأت سرديّاتها بالتآكل أمام التذمّر الشّعبي، الذي يعبّر -ربّما- عن نزوع طبيعي لدى السوريين في الدفاع عن مصالحهم؛ لكنّ السؤال الجوهري هنا: هل سيفضّل السوريّون استبدال نخب بأخرى، أم سيفضّلون استعادة السلطة وممارسة الجميع كأفراد لدور إيجابي ومسؤول!

وهل ثمّة فرصة لاستعادة دورنا؟

السويداء لم تكن يوماً غائبة عن ثورة الحريّة، لكنّ خروجها الأخير عن قبضة نموذج "النظام الذي يقاوم المؤامرة"، وتأكيد انتماء حراكها إلى نموذج: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وتزامن حراك السّويداء الأخير مع الوعي الذي فرضته نتائج سيرورة النماذج جميعها على أفرادها، فإنّ حراك السّويداء اليوم – كما حراك السوريين جميعاً عام 2011- تسبّب، ولا يزال بالحرج -لا لنموذج نظام الأسد وسرديّته فحسب- إنّما للنّماذج جميعها: نخباً وسرديّات!

 فعبر المظاهرات السلميّة فإنّ حراك السويداء كسر نمطيّة صورة الثورة المسلّحة، وأعاد الاعتبار لإمكانيّات الحراك المدني السلمي، الذي كان عسكر الثورة قد أطاحوا به. وفي ظل خطاب وطني منفتح على السوريين، ومصرّ على انتمائه لثورة حريّة ذات نزوع وطني في السّويداء: لم يعد بالإمكان ممارسة خطاب: "حماية الحد الأدنى من الحريّة السلبيّة لـ "الأقلّيات" من خطورة الحريّة الإيجابيّة لـ "الأكثريّات"؛ الخطاب الذي كان قد سوّق النظام لنفسه عبره، وتسوّق الإدارة الذاتيّة شرق الفرات لنفسها عبره أيضا، بل ويمكن لنخب إدلب أو شمال حلب أن تلعب الدّور ذاته: "حماية حريّة -سلبيّة- لأقليّة" إذا كان هذا سيضمن لتلك النّخب مقاعد دائمة في السلطة.

بل لم يعد لخطاب الثورة الطائفيّة ولا النظام الطائفي من جدوى!

إذن قد لا نكون مبالغين إذا قلنا: إنّ حراك السويداء الأخير زلزل حدود التموضعات والقوالب، وأحرج انغلاق النماذج على نفسها، وبعث فينا الأمل بإمكانيّة حريّة إيجابيّة لجميع السوريين تضمن الحريّات السلبيّة لجميع السّوريين أيضا؛ ما يعني الانقلاب على المنظومة القديمة كاملة!

استقبل الحراك في السويداء الذكرى 13 للثورة بالانفتاح على حراك جيرانه في درعا، ثمّ الانفتاح معا على الحراك الشّعبي -لا النموذج- في الشّمال السّوري، ضمن مبادرة: "إعلان المناطق الثلاث: ريف حلب الشمالي، ودرعا البلد، والقريّا"

ولا يزال حراك السّويداء -في كل جمعة تظاهر- يطالب بالقرار 2254 كسقف سياسي يمكن أن يجمع السوريين، ويميّز بين ما يمكن تعيينه كحريّة سلبيّة أعاقها نظام الأسد في السّويداء، فأطاحت السّويداء به، ورمّمت ولا تزال تلك الحريّة ضمن الإمكانات المتوفّرة، وبين حريّة إيجابيّة شعبيّة يمكنها ضمان الحريّات السلبيّة والانفتاح بشجاعة على "الآخر السّوري".

استقبل الحراك في السويداء الذكرى 13 للثورة بالانفتاح على حراك جيرانه في درعا، ثمّ الانفتاح معا على الحراك الشّعبي -لا النموذج- في الشّمال السّوري، ضمن مبادرة: "إعلان المناطق الثلاث: ريف حلب الشمالي، ودرعا البلد، والقريّا".

وفي التوجه ذاته صدر إعلان مشترك جمع - يوم 11 آذار- كلّاً من: "تيار الحرية والتغيير، والتيار الشعبي للعمل الثوري، والمجلس السوري للتغيير، والتحالف السوري الديمقراطي، والكتلة الوطنيّة، والحركة الشّبابيّة السّياسيّة" ليؤكد الإعلان على تبني حريّة -إيجابيّة- متجاوزة للمناطقيّة والطائفيّة.

إذن فالحراك في السويداء لا يبدو قانعاً في التعبير عن ذاته في هويّة ضيّقة، إنّما بوصفه "أمّ الصبي"، ولا يصدّر نخباً وسرديّات فئويّة بل مبادرات شعبيّة تؤكّد حريّة الأفراد ومساواة السّوريين؛ ما يجعل من هذا الحراك فرصة ممكنة للم شعث الثوار السوريين الذين تناثروا في شتّى أصقاع العالم مع حلمهم بالإطاحة بالنظام القديم، وبناء نظام جديد لسوريين أحرار وسوريا حرّة.