"ماتريوشكا" هوس "بوتين" وفلسفة "دوغين"

2022.03.15 | 06:07 دمشق

ten-russian-politicians-depicted-in-matryoshka-doll-form-vladimir-putin-boris-yeltsin-mikhail-gorbachev-leonid-brezhnev-nikita-khrushchev-joseph-stalin-vladimir-lenin-nic.jpg
+A
حجم الخط
-A

"ماتريوشكا" – هي الدمية الروسية الشهيرة وتكتب بالروسية "Матрёшка"، وتعرف أيضاً بـ"البابوشكا"، وهي عبارة عن عروس على شكل امرأة ريفية ترتدي فستاناً طويلاً وتضع حجاباً، وتأخذ شكلاً بيضاوياً، وتنقسم إلى جزئين علوي وسفلي قابلَين للانفصال عن بعضهما بعضاً، وتحوي بداخلها دمى أخرى بنفس الشكل، ولكن أصغر حجماً، تبدأ من ثلاثة أحجام ويزداد العدد، وقد يصل إلى أكثر من سبعين، لكن من الضروري جداً أن تبقى كل الدمى قابلة للاحتواء داخل الدمية الأكبر.

باختصار كل مجموعة من هذه الدمى متطابقة في المظهر تماما لكنها مختلفة بالحجم، وتصنع كلها بدلالة الدمية الأكبر التي يجب أن تكون قادرة على ابتلاع كل الدمى الأخرى.

ربما تكون "ماتريوشكا" هي التشبيه الأقرب لسياسة بوتين، فهذه الدمية التي يعود أول ظهور لها إلى نهايات القرن التاسع عشر، واستمرت بصفتها نموذجاً مميزاً من التراث الروسي لم يتغير فيها أي شيء، فقط يتغير ما يرسم على غلافها الخارجي، أما داخلها فليس مهماً، وربما لا فائدة عملية من عدد قطعها مهما ازداد، وكل فكرتها تكمن في القدرة على ابتلاع كبيرها لكل نسخها الأصغر.

الاتحاد الروسي اليوم هو دولة واحدة، والجمهوريات التي أعطيت حق تقرير مصيرها أعاد بوتين رسم غلافها الخارجي وفصّلها كدمية من دمى "ماتريوشكا"

قد يبدو التشبيه فجاً، لكن لماذا يصرّ بوتين على صناعة أنظمة مؤيدة له خارج الاتحاد الروسي، وأتباع له داخله، يطابقونه تماما، ويمكن لروسيا ابتلاعهم متى شاءت، ويرى في النماذج الأخرى المتفارقة مع فهمه للدولة أعداءً حاليين، أو أعداءً مؤجلين، ويمكننا إذا عدنا إلى بدايات تسعينيات القرن الماضي أي إلى فترة انهيار الاتحاد السوفييتي أن نقرأ كيف تم وضع دستور (1991) الذي اعترف بسيادة كل الجمهوريات السوفييتية، وأقرّ بحقها بالانفصال إن شاءت، وبالفعل فقد حاولت بعض الأقاليم أو الجمهوريات الانفصال خلال فترة حكم "يلتسين" ونشبت نزاعات مسلحة بينها وبين موسكو، وليس مهماً هنا الخوض في تلك الصراعات لكن منذ أن وصل بوتين إلى موقع القرار ضرب بعرض الحائط كل الدساتير، وعمل على إعادة تشكيل الاتحاد الروسي على نحو يُعيد الصيغة القديمة التي سادت علاقة الجمهوريات السوفييتية في عهد ستالين، ويمكننا اليوم القول ببساطة شديدة إنه لم يبق أيُّ ذكر للسيادة في كل هذه الأقاليم، ولم يعد هناك معنى لتسمية الفيدرالية التي ما تزال قائمة، فالاتحاد الروسي اليوم هو دولة واحدة، والجمهوريات التي أعطيت حق تقرير مصيرها أعاد بوتين رسم غلافها الخارجي وفصّلها كدمية من دمى "ماتريوشكا".

قد يسهم فهم "النظرية السياسية الرابعة" التي ينظّر لها المفكر الروسي المعروف "ألكسندر دوغين" في فهم الخطوط العريضة الأساسية لرؤية بوتين للهوية الروسية، وشكل علاقتها بتاريخها، وبالعالم المحيط بها، وفي رؤيته أيضاً لحاضر ومستقبل روسيا والعالم.

تعدّ النظرية السياسية الرابعة أن النظريات الثلاث الأخرى التي حددها "دوغين" بـ النظرية القومية، والنظرية الماركسية، والنظرية الليبرالية، لا تتناسب مع روسيا، ولا تتناسب أيضاً مع مناطق أخرى كثيرة في العالم، لأنها أساساً نشأت في الغرب، وجاءت كنتيجة تطوّر شكل الدولة وشكل العلاقات الاقتصادية فيها وخصوصاً الصيغة الاستعمارية لها، ويرى دوغين أن الليبرالية التي تتزعّم اليوم في العالم الرأسمالي هي الخطر الأكبر الذي يهدد الهوية الروسية، وأنه في حال نفوذها داخل روسيا فإن روسيا ستتفكك.

بناء على فهمه للنظريات السياسية الثلاث التي أنتجها الغرب الرأسمالي، يرى "دوغين" أن النظرية الرابعة هي في جوهرها ثورة من أجل "تصفير الاستعمار"، أي قيام الدولة على أسس تختلف في جوهرها عن الدولة المتبناة في الغرب، ويرى أن مفهوم حقوق "الإنسان" بصيغته الليبرالية الحالية يعني حق الفرد، ولا يعني حق الإنسان؛ لأن حق الإنسان بحسب رؤيته لا يمكن فصله عن طبيعة مجتمعه، وعن تاريخ هذا المجتمع وثقافته الموروثة، وفي السياق ذاته يقرأ دوغين معنى حق الأقليات.

من هنا يرى "دوغين" ضرورة تخليص المجتمع الروسي من النزعات الغربية لحقوق الإنسان، وضرورة التصدي للإيديولوجيا الليبرالية، وضرورة أن تبنى الدولة الروسية بطريقة أخرى، دولة مركزية شديدة الصرامة يلعب الفرد فيها الدور القيادي الأهم، فالمؤسسات لا يمكن لها أن تنهض بمشروع الدولة التي تناسب روسيا، ويبرر ذلك بأن روسيا لم تكن يوماً دولة مؤسسات، وأنها عبر تاريخها وحتى اليوم كانت ولا تزال دولة يحكمها "الملك".

الوجه الآخر لهذه النظرية، والذي يستلهم منه بوتين سياسته ليس داخل الاتحاد الروسي فحسب، بل يذهب إلى ما هو أبعد بكثير، يتلخص في ما يمكن تسميته بـ "الأوراسية الجديدة"، وهو مشروع يرمي إلى ربط موسكو بالدول الآسيوية والأوروبية والشرق أوسطية والأفريقية، والحلقة الأولى فيه هي دول الاتحاد السوفييتي السابق؛ وضمن هذه الحلقة لا يرى بوتين أن العلاقة ستقوم على علاقات ندّيّة تضمن تبادل المصالح بين هذه الدول، بل يرى هذه الدول كمنطقة تابعة للنفوذ الروسي، وكقطعة من قطع دمية "ماتريوشكا"، ولا يرى مانعاً من التدخل العسكري فيها عند اللزوم كما حدث في القرم وأوكرانيا وجورجيا، أما الدوائر التي تليها فإن استراتيجيته في وجه التمدد الغربي، أو التمدد الليبرالي كما تسميه النظرية السياسية الرابعة، تقوم على عقد شراكات واتفاقات اقتصادية وعسكرية عند اللزوم، حتى لو تطلب الأمر تدخلاً عسكرياً كما حدث في سوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى...إلخ.

هل يستطيع بوتين التراجع اليوم؟ وهو العارف جيداً أن نتائج تراجعه لا تعني نهاية الحلم بالإمبراطورية الأوراسية وحسب، بل تعني أيضاً تفكيك روسيا وتحوّلها إلى أقاليم وجمهوريات ضعيفة وتابعة

يرى "دوغين" أن روسيا اليوم هي بوتين، وأن بوتين هو روسيا، ويرى أيضا أن كل هذا المشروع إنما يتحدد مصيره وتقدمه بوجود بوتين اليوم، ولا يتردد بالقول إن كل هذا المشروع قد ينهار فيما لو خلف بوتين شخص بتوجّه ليبرالي، فليس أمام بوتين في هذه الحالة إلا أن يحكم روسيا "إلى الأبد" ويسرع في مشروعه بكل ما يستطيع، إذ لا مكان لخطوة تراجع فيه، ولعلنا في ضوء هذه الإستراتيجية البوتينية نستطيع أن نفهم مدى عناد بوتين وإصراره على حماية النظام السوري، وكيف يتعامل اليوم في أوكرانيا، وقبلها في الشيشان والقرم وجورجيا.

أغرت النجاحات السابقة بوتين ودفعته لغزو أوكرانيا، لكن حساباته لم تكن متطابقة مع معطيات الواقع، فهل يستطيع بوتين التراجع اليوم؟ وهو العارف جيداً أن نتائج تراجعه لا تعني نهاية الحلم بالإمبراطورية الأوراسية وحسب، بل تعني أيضاً تفكيك روسيا وتحوّلها إلى أقاليم وجمهوريات ضعيفة وتابعة.

لا يبدو أن بوتين سيقبل بهذا، ولم يعد بإمكانه التراجع، فهو محاصر بالوقت وبصمود الأوكرانيين، وبالتحالف العالمي الذي تشكل ضده ويتعزز كل يوم، وهو متوتر ويلقي باللوم على الدائرة الضيقة حوله، وأمام هذه المعادلة المجنونة يقف العالم اليوم فعلاً على حافة حرب عالمية ثالثة قد تغيّر كل معادلاته القائمة، وربما قد تغيّر أكثر من هذا بكثير.